إذا أعزّ الله قوماً أمدّهم بقوة نفسيّة عجيبة تجعلهم أكثر تحمُّلاً، وأشدّ حَملةً، وأكثر قدرة على كسر دائرة اليأس، ومنع تغوّل الإحباط، واعتراض دوافع الخوف والتردد، ونبذ المُوهِنات.
وللعزّة مدخلان: أحدهما مدخل كَسْبيّ يكون بالقوة وبالكثرة وبالمال وبالجاه وبالنفوذ، وقد يكون بتراكم الحضارة ووفرة العلم والثقافة... ؛ وهناك مدخل وَهْبيّ يستثني الله به طائفةً من عباده المستحِقِّين لبركته تخصيصاً يحصّنهم به، ويمنع عنهم الهوان والفناء، ويمنحهم به القدرة على البعث والنهوض والتجدّد وإعادة البناء، وإن الله ذي العزّة والجبروت يجدّد لنا في نعمة إعزازه لنا كي نظل أقوياء.

ومن شعائر العزة عند أهل الثغر أنهم لا يثقون إلا بربهم، ولا يرجون إلّا هو، ولا يطرقون إلا بابه، ولا يتوكلون إلا عليه، وكأنّهم يغرفون من بحر عزّته التي لا تُرام.
والعزّة عندهم ليست موسماً يصطادون فيه أو يجتنون فيه الفرص بل هو صفة قامت فيهم وتلبّستهم وتَحَلَّتْ بحِلْيتهم، وكأنّهم يكونون مع سيدنا عثمان بن عفّان في مجلسه، فإذا أراد القيام قال: العزّة لله، فيقوم سُمّارُه الكرام.

وهم أهل وضوح وصرامة لا يساومون في إظهار العزّة لأجل حماية الحوزة، ولا يتواعدون إلا في الأَمام، وإذا انتظروا فإنهم يتركون لك دليلاً يؤشّر عليهم في الصعود إلى الأمام؛ وفيهم شَكيمة وأنَفة وعُجبٌ محسودٌ محبوبٌ.
ومن شعائرهم الزهد والرضا فلا يحملون في جيوبهم حجارةً من أعلاق الدنيا تغطّسهم عندما يسبحون في مواجهة التيار.
ودموعهم في الملحمة المستعِرة عزيزة فلا بكاء بينهم ولا عويل، ويَتعزّون بعمل متصل، وسعي دؤوب، ومسارعة في غير تباطؤ، ولملمة للجراح والتعالي عليها.
ومن شعائر عزتهم أنهم لا يشتغلون بالصغائر ولا يستديرون للتفاصيل العابرة، بل يشقّون الطريق شقّاً سريعاً أو يقتحمونه، ويتركون مهمة التمشيط والارتكاز لمن يَليهم، ويبني على مبادرتهم.

ومن عجائبهم أن أجسادهم تموت في المعركة لكنّ عزّتهم القائمة فيها لا تفنى، إذ تراها ترجع إلى أصحابها في خُيَلاءٍ جميل، وتظلّ ساكنة في ذكريات إخوانهم الذين يأتون بعدهم كأنها كلام الملائكة.

وأعداؤنا الأوغاد يعلمون ما زرعه الله فينا من عزّة فتراهم لا يكفّون عن محاولات كسر إرادتنا وثقب عزيمتنا وإطفاء معنوياتنا واختراق تماسكنا وتذويب صلابتنا واستعباد مجتمعنا وإخضاع حاضنتنا، وهم يضربوننا بأقصى ما يستطيعون، وأعنف ما يملكون لتحقيق ذلك فينا.
وأنّى ذلك منّا أهلَ العزّة، فإنّ لها فينا سَكرة إذا تشرّبتَها فلا تكاد تفيق منها من لذّة شرابها وحلاوة رَضاعها وراحة مفاعيلها، ولكننا لا نسرف فيها فلا تأخذنا إلى مغالاةٍ في غير سبيلها الأحكم، ولا نسمّي الأشياء بنقائضها إذا لم تتحقّق فينا معانيها؛ ولذلك ترانا شُمّ الأنوف لا تخضع رقابنا، ولا تَجْثُو رُكبُنا، فلا نعرف طعم هوان، ولا تحملنا أرجلُنا إلى سبيل مذلّة؛ وإذا خُيّرنا بين مقام العزّة والحياة في الذلّ فإن خيارنا هو الموت في عِزّة.