في زحمة ضغوط الحياة، وسط استعار الفتن والمحن، وفي عتمة الليل الطويل، يبقى خلاصك الوحيد والأخير في قوله تعالى: ﴿وَٱتۡلُ مَآ أُوحِيَ إِلَيۡكَ مِن كِتَٰبِ رَبِّكَۖ لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَٰتِهِۦۖ وَلَن تَجِدَ مِن دُونِهِۦ مُلۡتَحَدٗا﴾.
هذا الأمر الإلهي لم يكن موجَّهًا لعبدٍ تائه أو ضائع، بل خُصَّ به النبي الخاتم صلى الله عليه وسلم، أسمى البشر قاطبة، إذ يأمره الله أن يجعل كتابه رفيق دربه وأنيس حياته، يواجه به العالم أجمع، لأنه من ربك، ولا مبدل لكلماته.
في زمن يتبدل فيه كل شيء: الناس، المواقف، الوعود، وحتى المبادئ، لا يصح أن تتكئ على رأي الناس، أو تحتمي بجدران متصدعة، أو تفرّ إلى قوانين تتغير كل صباح. بل عليك أن تلزم هذا النور، أن تتلوه، وتعيش معه، وتجعل منه رفيق كهفك وسلاح غربتك.
كتاب ربك ليس كتاب بشر، ولا دستورًا عابرًا، إنه كلام الرب، لا يُعدَّل ولا يُلغى، لا يسقط بالتصويت، ولا يُنقض بالمحاكم، لا يتقادم عليه الزمن، ولا يُبدل تحت الضغط. فلا تقلق إن تغيّر الدستور، ولا ترتجف إن اعتُقل المصلحون، ولا تَهن إن أُطفئت المنابر، فـ"لا مبدل لكلماته". وإذا حفظت كلماته، حفظك هو.
تأمل قوله تعالى: "ولن تجد من دونه ملتحدًا". يا لها من عبارة! "ملتحدًا" لا تُقال إلا في لحظة ضيق، حين يبحث المرء عن مأوى للخائف، وسندٍ للفقير، ومهربٍ للمطارد، ونجاةٍ للمظلوم. لكن الله يربّي قلبك بقوله: لا تلتحد إلا بي، أي لا تلجأ ولا تحتمِ بسواي. لا تلوِ وجهك إلا إلى كتابي، ولا تبتغِ في الخلق مأمنًا، فلن تجد من دونه. لا أحد. هو فقط، به أنت كل شيء، وبدونه أنت لا شيء.
هل قلت يومًا: "هربت من قسوة الخلق"؟ أو: "ضيقت بي السبل"؟ أو: "لم أعد أحتمل"؟ الجواب بين يديك: "ولن تجد من دونه ملتحدًا". هذا أسلوب حصر فيه ردع وترهيب، يقرر أن كل من يطلب الأمن أو النصر أو العزة بعيدًا عن الله... فلن يجد.
تأمل بلاغة الآية. بدأت بالفعل: "واتلُ"... حركة تنجي، ثم "ما أوحي إليك"... لا ما تهواه، ثم "من كتاب ربك"... لا من مدونات الغرب أو صالونات المترفين، ثم "لا مبدل لكلماته"... أمان من تغيرات الحياة، ثم "ولن تجد من دونه ملتحدًا"... حضن لا يُفتح إلا لطالب الله.
العالم كله قد يغلق الأبواب، لكن القرآن مفتوح. منه تُصنع الرجال، وتُوقظ الشعوب، وتُبنى الأمة. فهل رأيت أمانًا بعد هذا؟
اللهم إن ضاقت بنا السبل، فافتح لنا في كتابك دربًا، وإن ظنّ الناس أن الملتجأ في غيرك، فزدنا بك ثقة، وإن حاولت قلوبنا أن تضعف، فثبّتها بقولك: "لا مبدل لكلماته". ربّ، لا تجعلنا ممن يلتمسون الملجأ في غير بابك، ولا تكتب علينا الضياع بعدما أنزلت كتابك هدى. ففي كل حرف ملتحدٌ لك، وفي كل آية عزّ ينجيك من طوفان التبدّل.