ما إن يبدأ أحدهم بفتح موضوع الفساد على المستوى العربيّ، حتّى يبدأ حديثٌ مُتسلسل لا تنتهي فصوله وتداعيّاته إلّا بانفضاض الجلسة والجُلاّس من حوله. فمثلاً، الجهاز الإداري العربي اليوم معطوبٌ وموصومٌ بالترهُّل والوَهن والفساد لدرجة بلغت مطالبُ الإصلاح الإداري فيه ذروتها. والحديثُ عن الفساد الإداري مُرتبطٌ بشكل مُباشرٍ بالحديث عن وجود الأنظمة السياسيّة والتّنظيم السّياسي والذي يُعتبر واحدًا في كلّ البلدان، إلاّ أنّه يتفاوتُ من حيث الحجم والدّرجة من مُجتمع إلى آخر، حيثُ أنّ البيئة التي تُرافق بعض أنواع الأنظمة السياسيّة كالأنظمة الإستبداديّة الديكتاتوريّة تُشجع على بروز ظاهرة الفساد وتغلغلها أكثر من أيّ نظامٍ آخر، بينما تَضعفُ هذه الظاهرة في الأنظمة الديمقراطية التي تقوم على أسس من إحترام الحريات العامّة والشفافيّة والمساءلة وسيادة القانون، كما تختلف النّظرة إليه باختلاف الزاوية التي يُنظر إليها ومن خلالها وذلك ما بين رؤية سياسيّة أو إقتصاديّة أو إجتماعيّة، وهو ما يُبرّر الإختلاف في تحديد مفهوم الفساد.

إن البيئة التي ترافق بعض أنواع الأنظمة السياسية كالأنظمة الإستبدادية الديكتاتورية تُشجع على بروز ظاهرة الفساد وتغلغلها، بينما تَضعفُ هذه الظاهرة في الأنظمة الديمقراطية.

وعندما نقول الشفافيّة فإنّنا نقصدُ بها ذلك المفهوم الحديث والمتطوّر الذي تسعى المنظّمات الإداريّة إلى تحقيقه، فهي السّبيل الرّاشد لتحقيق تنمية إداريّة ناجحة والوصول إلى بناء تنظيمي سليم قادر على مواجهة التحدّيات الجديدة والمتغيّرات المُحيطة. وهي من أهم الإستراتيجيّات التي قد تتّبِعُها الدول لمُكافحة الفساد الإداري بأشكاله المُختلفة (سياسي/مالي/إداري) والذي عرّفتهُ منظّمة الشّفافيّة الدوليّة بأنّه: "كل عمل يتضمّن سوء استخدام المنصب العام لتحقيق مصلحة خاصّة ذاتية لنفسه أو جماعته"، والذي يُمكن إجماله بالرّشوة والمحسُوبيّة والمُحاباة ونهب المال العَام والابتزاز.

فقد أصبح الفساد ظاهرة تتصدّر عناوينها التّظاهرات الشعبيّة في المدن العربيّة المُطالِبة بالعدالة الإجتماعية ووقف السرقة المنظَّمة والهدر النّظامي،وحتّى القضاء، الذي من المُفترَض أن يكون نزيهاً، يُعاني جسمه في بعض البلدان العربيّة من فسادٍ فاضحٍ، ورشاوى مُعلَنة وأخرى مُستترة. وكلّما ازداد انبعاث روائح هذه الظّاهرة، تجد الدولة تخرج علينا بعناوين باهرة لمكافحتها، ومنها تشكيل لجان حول الكسب غير المشروع أو ضرورة إعلان مَن يتولّون المسؤوليات العامّة عن تقديم بيانات بممتلكاتهم قبل تولّي المسؤولية أو أنّها تسنّ بعض القوانين الرادعة لمَن ثَبَتَت عليهم تهمة الفساد ومزاولته... وما هذه إلاّ إجراءات ظاهرة ليس لها في الواقع والتطبيق من سبيل.

ولا تكاد تأتي حكومةٌ عربيّة جديدة تقريباً، إلّا ويكون على رأس برنامجها محارَبة الفساد واستئصال شأفته، عن طريق تعديل القوانين أو تحديثها والتي عفا الزّمن على بعضها بفعل التطوّرات الإجتماعيّة والإقتصاديّة، وحجم الإنفاق العامّ والخاصّ، ودخول القطاع الخاصّ إلى جانب القطاع العامّ في عمليّة التنمية والإنتاج، والتي تسبّبت في مُجملها في عجز القوانين عن ضبط الفاسدين الذين يعرفون جيّدًا كيف يستغلّون الثّغرات القانونيّة لمصالحهم الشّخصيّة ... لكن في النتيجة لا حياة لمَن تُنادي.

وممّا لا شكّ فيه أنّ هيبة الدول واحترام قوانينها، تعتمد أساسًا على نزاهة العاملين فيها وتمسُّكهم بأخلاقيّات الوظيفة، حيث يفقد المواطن ثقته بالدولة وعدالتها حينما يُواجه فساداً إدارياً قد استشري في أجهزتها. فمثلاً الفساد الواسع ينمو من خلال الحصول على تسهيلات خدماتية تتوزّع على شكل معلومات أو تراخيص... أما الفساد الضيّق فهو قبض الرشوة مقابل خدمة إعتياديّة بسيطة، أي عندما يقوم موظّفٌ بقبول أو طلب إبتزاز أو رشوة لتسهيل عقد أو إجراء طرح لمناقصة عامّة مثلاً، كما يُمكن للفساد أن يحدث عن طريق إستغلال الوظيفة العامّة من دون اللجوء إلى الرشوة، وذلك بتعيين الأقارب ضمن منطق (المحسوبيّة والمنسوبيّة) أو سرقة أموال الدولة المباشرة. وتُعدّ السلطة أنسب بيئة لإحتضان الفساد الإداري، وحماية الفاسدين وهي الراعية لبؤرة الفساد فمنها يستشري وينطلق ويتوسّع ويصبح للمفسدين تنظيم يحتوي على شبكات قويّة وضاغطة تتخفّى خلف لوائح وتشريعات قانونية قابلة للتأويل، ليتوغّل كبار الفاسدين في قلب النّظام بل يصبحون قيّمين على الدولة برمّتها إلى درجة أنهم يستطيعون التحكم في التشريع والملاحقة والمساءلة والتحكُّم بالقوانين.

إنّ الفساد الإداري بشكل عام يُؤدّي إلى زيادة العجز في الموازنة العامّة للدول، وإرتفاع تكلفة الخدمات التي يحتاجها الأفراد، بالإضافة إلى إعاقة التنمية الإقتصاديّة وتقليل فُرص الإستثمار المحلي والأجنبي، هذا من النّاحية الإقتصاديّة، أمّا من الناحية الإجتماعيّة فهو يزيد من الشّعور باللامبالاة والسلبيّة لدى الأفراد والأنانيّة أيضًا، كما يقتل الرّغبة في الإنجاز وأداء الواجب،  فهو يُمثّل القاطرة التي تجرُّ وراءها كافة بُنيات المجتمع نحو الهلاك. وهُنا تأتي أهميّة الشفافيّة والنّزاهة والمُساءلة كسبيل للخروج من أزمة الفساد الإداري، وتحقيق الرضا الوظيفي الذي يُنشدهُ كلُّ العاملين وتهدفُ إليه المُنظّمات، فهي تُتيح في مجموعِها الممارسة الرقابيّة للأجهزة وللمجتمع المدني، وذلك بتوفّر المعلومات الدقيقة في مواقيتها، وإفساح المجال أمام الجميع للإطّلاع على القرارات في مجال السياسات العامّة، وإبراز المعلومات الإحصائيّة حول السياسات النقديّة والماليّة والإقتصاديّة والإداريّة بشكل عام، ممّا يترتّب عليه إشباع الحاجات والإبتعاد عن الرّوتين وتحقيق الرضا وزيادة الإنتاجيّة... إذن توافرها أصبح شرطًا لتحقيق التنمية الشاملة  بما في ذلك تطوير وتحديث أجهزة الإدارة العامّة.

والحلّ الأنسب لإرساء مبدأ الشفافيّة والمُساءلة لا يكون إلّا بإعادة تشكيل ثقافة إجتماعية جديدة حول الدولة ودورها، وحول علاقة الفرد بها وبالمجتمع. والذي بدوره يحتاج إلى دراسات معمّقة للانتقال بالمجتمع إلى مفهوم الدولة الحديثة أو المدنيّة مع كلّ التفرّعات القانونيّة والسلوكيّة، وإلّا فإنّ ثقافة الفساد سوف تزداد رسوخاً واتّساعاً لا محالة.