في احتفال حضانة "مفاز" لإعداد القادة في الكويت لتخريج طلبتهم اليوم، كنت أراقب الأطفال الصغار على خشبة المسرح، وبينما كان أولياء الأمور والمعلمات مستمتعين بأداء الأطفال الممتع، كنت أراقب من فيهم أستطيع أن أطلق عليه لقب "المختلف"! طبعا هذا مقياس غير كافٍ لكنه مؤشر أولي ومدخل لطيف لمقالي هذا عن "المختلف"! وطبعا هناك أطفال لم أستطع الحكم عليهم بسبب مرضهم أو بكائهم الشديد عندما رأوا أمهاتهم! ومن الطبيعي كذلك لم أستطع الحكم على البعض بسبب طبيعة فقرتهم مثل "قراءة القرآن" والتي تتطلب سكوناً وضم اليدين!
"المختلف" ليس هو "القيادي" الذي يتحدث بجرأة وقوة، أو الذي يجُرّ الأطفال الآخرين نحو الميكروفون إذا حانت فقرة كلامهم، أو الذي يناديهم للخروج إذا انتهت فقرتهم، وهذه كلها علامات للقيادة يجب الانتباه إليها، ولكنها تعرفنا على "القيادي" وليس "المختلف".
في القضايا الدينية؛ "المختلف" لا يقبل التسليم بكلام العلماء من البشر دون سؤال، فهو يحكّم عقله، ولا يقبل الكلام غير المنطقي، سواء جاء ممن يحبهم أو ممن لا يوافقهم، ولا يقبل ما جاء في كتب التاريخ من مبالغات وقصص خرافية. بالطبع "المختلف" ليس هو "الملتزم"، وهو الطفل الذي التزم بالنص والتزم بالحركات والرقصات البريئة التي كانوا يؤدونها، والذي التزم بدوره فلم يتخطه، والذي التزم بطريقة السير والتزم بمكان الوقوف، فكلها علامات على "الملتزم" وهو محبوب جدا لدى المدرسين والمدرسات، ولاحقا عندما يكبر يسمونه "المواطن الصالح"! وهذا جميل لكنه ليس "المختلف"! إذاً "المختلف" صنف آخر من البشر، وهو صنف نادر لا يتجاوز 2% من الناس!
وفعلاَ وجدت اثنين من بين مائة طفل تقريبا كانوا يقومون بأداء فقرات الحفل؛ الأول: كان في صف مقابل للجمهور يقدم أغنية لطيفة بحركات ألطف لكن بالتزام كل طفل منهم بمكانه، وخلفهم شاشة كبيرة تعرض صورا معبرة عن الكلمات التي في نشيدهم. بعد بدء النشيد بقليل، "المختلف" ترك النشيد ولم يعر انتباهًا للجمهور (رغم أنّ أمه وأخته في الصف الأول يصورونه ويحيّونه)، "المختلف" أعطى للجميع ظهره وأخذ يتابع العرض الذي على الشاشة غير عابئ بتعليمات المدرسة، وغير مهتم بما يعتبره "الجمهور" عدم انضباط، فالمختلف يقرر لنفسه ولا يقرر له أحد حتى والديه!
والثاني: كان يؤدي نشيدا فيه حركات ورقصات وفيه وقوف في المكان ورفع لافتات. "المختلف" الثاني كان يؤدي النشيد والحركات بكل إتقان وحماس، لكنه كان يترك مكانه أحيانا ليرفع لافتة من الأرض ويشفي فضوله بمعرفة ما فيها، غير عابئ أيضا بالتدريبات التي تعبت المدرسات عليها، وغير مهتم برأي الجمهور كذلك.
طبعا "المختلف" غير مرغوب به عند المسؤولين عنه، وحتى والديه رغم حبهم له لكنهم يحتارون كيف يتعاملون معه! "المختلف" قد يكون قياديا، وقد لا يرغب بالقيادة! "المختلف" -هو أو هي- مختلف ليس بإرادته وليس بتربية من رباه، "المختلف" مختلف لأنّ الله تعالى خلقه مختلفا! ولأنّ "المختلف" لا يسير وفق الأنماط المجتمعية المحددة، ووفق القوانين المدرسية والحكومية الصارمة، لذلك سيكون أداؤه وإنتاجه مختلفا! حتى في عبادته، "المختلف" مختلف! فبينما يحرص الناس على الأشكال والمظاهر وإتقان الحركات في الصلاة والعمرة وغيرها، يركز المختلف على صلته بخالقه العظيم، وصدق عقيدته تجاهه.
"المختلف" ضروري للحياة والبشرية، إذ لولا "المختلف" ما جاءت الإبداعات ولما تطورت الحياة! أدرك الغرب أهمية "المختلف" و"المختلفة" فعملوا حولهما أفلاما مثل (Divergent) و(Insurgent) لينشروا الوعي العام بمن هو "المختلف" ليحترمه الناس ويقدروه.
وحتى على مستوى التعليم العام والجامعي نجد أنّ خمسين بالمائة من المختلفين درجاتهم الدراسية سيئة لعدم قدرتهم على "السير" مع التيار والالتزام بالمنهجية التعليمية المحددة، والتي غالبا ما تكون سيئة. حتى في القضايا الدينية "المختلف" لا يقبل التسليم بكلام العلماء من البشر دون سؤال، فهو يحكّم عقله ولا يقبل الكلام غير المنطقي، سواء جاء ممن يحبهم أو ممن لا يوافقهم، ولا يقبل ما جاء في كتب التاريخ من مبالغات وقصص خرافية يقول الناس عندما يسمعونها مندهشين "سبحان الله"، بينما المختلف يقول "سبحان الله ماهذا الهراء!" وحتى في عبادته "المختلف" مختلف!
فبينما يحرص الناس على الأشكال والمظاهر وإتقان الحركات في الصلاة والعمرة وغيرها، يركز المختلف على صلته بخالقه العظيم، وصدق عقيدته تجاهه، وعدم التسليم في العقيدة وشعاره "المقلد في الإيمان لا إيمان له"! ويركز أن يعيش لله ومع الله فلا يعبأ بكيد البشر ولا يهمه تقييمهم له، فالأهم عنده " تقييم" الله -عز وجل- له. إذا عرف (المختلف) أنه "مختلف"، وعرف معادلة الصراع هذه فهو الذي سيصنع "الاختلاف" المحمود، "ولا يزالون مختلفين، ولذلك خلقهم"!
لكن هذا "المختلف" مزعج جدا لأنه يهز قناعات الناس، ويغير النمط السائد بينهم، مما يجعلهم ينتقلون من (منطقة الراحة Comfort Zone) إلى (منطقة التساؤل Wondering Zone). والذين لهم مصالح من بقاء الأمور كما هي سيحاربونه لأنّ التغيير يهدد مصالحهم. والذين يفهمون أنّ الدين قواعد جامدة سوف (يكفّرونه) لأنه "يغير الدين" بالنسبة لهم! والذين لا يفهمون ماذا يجري حولهم سوف يتجنبونه لأنهم لا يفكرون لأنفسهم، وسيتبعون تحذيرات من يفكرون بالنيابة عنهم!
"المختلف" هو الذي يغير الدنيا، ويشعل فتيلة النهضة للدولة، وهو الذي يبدع في العلوم الإنسانية والتطبيقية فيطورها، وهو أو هي من يصنع الحضارة أو يساهم في صنعها ويغير مسار التاريخ كله مباشرة بصنع يده أو بشكل غير مباشر على يد من تأثروا به. "المختلف" متعب وتعبان! المختلف يُهاجم ويهاجَم فهو في صراع دائم، وفي الغالب لن يتبعه الجيل الذي يقود حاليا "في كل المجالات"، لكن التاريخ واضح في أنّ الجيل التالي سوف يتبعه. إذا عرف (المختلف) أنه "مختلف"، وعرف معادلة الصراع هذه فهو الذي سيصنع "الاختلاف" المحمود؛ "ولا يزالون مختلفين، ولذلك خلقهم"!.