كيف تبنى الإرادة السياسية؟ أبوعي المجتمع أم بالقادة؟
لا يختلف إثنان أن من أهم أسباب المحنة التي يعيشها المسلمون اليوم، ودخولهم تيه التخلف وعدم التمكُّن من الخلاص، هو فقدان جماهير الأمّة وقادة الرأي فيها وصُناع السياسة والقادة للوعي الكامل برسالة الأمة، وما تحتاجه من تضحيات للتحرر والنهوض، وعدم الاستعداد لتقديم التضحيات في سبيل ذلك، وعدم المعرفة الدقيقة للعدو من الصديق.
الوعي السياسي من منظورٍ آخر
إنّ فقدان الوعي بهذه الصورة العامة معناه تفشي وشيوع حالة الغفلة، والتي هي أبشع حالة يمكن أن تسيطر على أمة فتجعلها بلا وزن، وتجعلها تتخبط ولا تصل إلى أية غاية، فتتعطل مقاومتها لعدوها، فالوعي هو إدراك الإنسان والمجتمع لحاله على ما هي عليه بلا تهويل أو تهوين، ومعرفته التامة والدقيقة بنقاط قوته ونقاط ضعفه، واعترافه بأمراضه وعيوبه، وأعلى درجات الوعي: الوعي السياسي الذي هو النظرة إلى العالم من زاوية خاصة، والذي لا يتم وجوده إلا إذا توفر فيه عنصران، أحدهما: أن تكون النظرة إلى العالم كله، والثاني: أن تنطلق هذه النظرة من زاوية خاصة محددة، أياً كانت هذه الزاوية، سواء كانت مبدأ معيناً أو فكرة معينة، إلا أن الزاوية الخاصة إن كانت مبدأً تجعل الوعي السياسي ثابتاً.
إذن فالوعي السياسي ليس خاصاً بالسياسيين والمفكرين، بل هو عام قد تجده عند العوام والأميين، كما يمكن إيجاده عند العلماء والمتعلمين، بل يجب إيجاده ولو إجمالاً، في الأمة بجملتها؛ لأنه بدون هذا الوعي السياسي عند الأمة -بل عند أي فرد -لا يمكن إدراك قيمة الأفكار التي لديه في حياة الأمة. إذ يمثل حاجة ملحة لا غنى عن سدها وتأمينها لدى الأمة الإسلامية، وبدونه لا يمكن إدراك قيمة الإسلام في حياة الأفراد والمجتمع.
القيادة السياسيّة من نظام سياسي لآخر
ولمّا كانت القيادة السياسيّة مبدأ عالمي بالشّكل أو بالمضمون (كالرأسماليّة والإسلام)، فإنّ لها دور فعال وحيوي في صياغة وتنفيذ كل من السياسات العامة على الصعيد الداخلي والسياسة الخارجية، وهي من خلال هذا الدور تقوم بعملية متشابكة تتداخل فيها عناصر عدة من تخطيط وتنفيذ ورقابة، عاكسة بذلك طموحات وآمال مجتمعها.
ومن هنا، تلعب الشخصية الكاريزمية للقائد السياسي دورًا بالغ الأهمية في تعاظم دوره في صياغة السياسة الخارجية لبلاده حيث أن تلك الشخصية يستمد منها القائد السياسي شرعيته، كما أنها تعطي انطباعا لدى العامة أن حل كافة المشكلات لا يمكن أن يتم إلا من خلال هذا القائد السياسي دون غيره، الأمر الذي يعطيه شرعية مطلقة في اتخاذ كافة القرارات السياسة الخارجية دون الرجوع لأحد.
تتفاوت سلطة القائد السياسي في صناعة السياسة الخارجية من نظام سياسي لآخر. ففي حالة النظم الديكتاتوريّة تكاد تكون سلطة القائد السياسي مطلقة في إدارة كافة شؤون الدولة، وعليه فإنّ مساحة القائد السياسي للغاية وتأثيره المباشر هو العامل الرئيسي والحاسم الوحيد في قرارات السياسة الخارجية لبلاده.
أمّا في النظم الديمقراطية فتكون هناك قيود كبيرة على القائد وذلك نظرًا لطبيعتها وهُنا يكون غير قادر على اتخاذ أي قرار سياسي دون الرجوع للبرلمان. وبالتالي فإنّ مساحة دور القائد في تلك النظم في صياغة السياسة الخارجية للدولة تكون محدودة بشكل كبير.
إنّ خبرة القائد السياسي تؤثّر بطريقة أو بأخرى على قرارته في صناعة القرار السياسي لبلاده على المستوى الخارجي، فعمله في منصب سياسي خارجي سابق، وذلك لأنّ عمله كوزير خارجية أو أي عمل خارجي آخر قبل وصوله للسلطة يؤدي للتأثير على شكل السياسة لامتلاكه آراء وعقائد وأسلوبًا واضحًا لصنع السياسة الخارجية لبلاده. كما أنّه يعرف الكيفية التي تدار بها السياسة الخارجية وانعكاساتها على السياسة العامة للدولة.
وعلى العكس من ذلك فكلما كان هذا القائد بعيدًا عن العمل السياسي الخارجي قبل وصوله للسلطة، كلما انخفضت فرصة مساهمته أو تأثيره على السياسة الخارجية لدولته نظرًا لعدم امتلاكه رؤية واضحة حيال الكيفية التي تدار بها الشؤون الخارجية لبلاد.
من القيادة إلى تشكيل الوعي
تشكيل درجة عالية من الوعي لدى الجماهير يستوجب مخاطبتهم في كلّ زمانٍ ومكان، عبر مختلف الوسائل، خاصّة منها وسائل الإعلام والتعليم والثقافة، وقيادته وبث الأشواق الحضارية فيه بمضامين إسلامية .
فالرأي العام هو "موقف جماعة من الناس تجاه قضية معينة، سلباً أو إيجاباً، كانتخاب رئيس دولة، أو مجلس استشاري، أو تجاه مشكلة ما؛ كالفقر أو الاستبداد، أو حادثة ما كالكوارث الطبيعية، أو البشرية كالحروب وغيرها".
والمتفحص لتاريخ الشعوب، يجد أن للرأي العام تأثيراً كبيراً في مدى استقلالها وحريتها، حيث إن أغلب شعوب العالم مرت بظروف قاسية، وامتحانات واختبارات كثيرة، فبعضها اجتاز هذه الاختبارات، وتخطى الصعوبات بنجاح باهر، والبعض الآخر كانت نسبة نجاحه أقل، وبعضها فشل فشلاً ذريعاً.
وإذا راجعنا الأمور وتحرينا الأسباب، فسوف نجد للرأي العام تأثيراً بالغاً في مثل هذه النتائج، بل هو الذي يحدد هذا التأثير أحياناً كثيرة.
ومن النماذج السلبية التي تعبر عن كبت الرأي العام؛ الدول الرأسمالية، حيث يسيطر أصحاب رؤوس المال على صنع القرار، فيصبح الرأي العام مجرد غطاء يستغله أصحاب الأموال لمصلحتهم عن طريق الخداع أو شراء الذمم، وليس هناك تمثيل حقيقي لهم في إدارة الشعب، والمراقب لمهزلة الانتخابات في معظم البلدان الرأسمالية، يجد –بوضوح- أن جميع الذين يفوزون في هذه الانتخابات هم من أصحاب المال، أو المرتبطين بهم، وهذا أوضح دليل على زيف هذه الانتخابات. كما لا تختلف الدول الاشتراكية عن الرأسمالية في خداع الرأي العام وتضليله، وإن اختلفت الخطابات والأساليب.
لكي نُكَوِّن رؤية عن المستقبل علينا أن ندرس الماضي، ونستفيد من دروسه، إلى جانب فهم الحاضر ومكوناته؛ كما أنه من المهم ربط المستقبل بما يحدث في الحاضر، واستيعاب دروس الماضي بما فيها من نقاط قوة أو ضعف، فغالباً -إن لم يكن دائماً- ما يكون تطور المجتمعات الإنسانية ناتجاً من عملية تراكمية. أما مجرد التغني بأمجاد الماضي كهروب من مواجهة الحاضر والاستعداد للمستقبل، فهو لا يعدو أن يكون خداعاً للنفس، كما أنه يشكل أكبر خطورة على مستقبلنا وحاضرنا؛ إذ إن ذلك يعني أننا نعيش في الحاضر على إيقاع الماضي وبطولاته، فيما لا نبذل أي جهد من أجل صناعة الحاضر والمستقبل.
كما أن عالم اليوم يموج بالكثير من التطورات والتغيرات والمستجدات على مختلف الأصعدة والمستويات؛ ولكي نفهم المستقبل لابد من متابعة جميع المستجدات والتغيرات المتلاحقة، والسعي لفهم ما يجري، وتشكيل رؤية تجاه ما يحدث وما سيحدث، وقراءة المتغيرات بروح علمية ومنهجية ومنطقية.
ومما يؤسف له حقاً أن يعيش البعض منا الحاضر -وفي الألفية الثالثة- ولكن بعقلية قديمة، بل وموغلة في القدم، وكأنه غير معني بما يحدث في الحاضر من تغيرات سريعة لم تشهد لها البشرية مثيلاً على طول تاريخها الطويل.
إن تكوين الوعي بالمستقبل يستلزم بالضرورة أن نفتح أعيننا وقلوبنا على كل ما يجري من حولنا من تغيرات، سواء في عالم السياسة أو الاقتصاد أو الاجتماع أو التعليم والتربية أو الإعلام ووسائل الاتصال الأخرى، أو التكنولوجيا والتقنية المتقدمة… وغير ذلك كثير.