إنّ التسليم بأنّ التخلف والنكوص هو سمة ملازمةٌ للمجتمع الإسلامي، بسبب طبيعة إزدواجية المعرفة الإسلامية في تعايشها العملي مع منهج النّقل، وتعطيل منهج العقل، كما يزعم بعضُ المستشرقين، والمنبهرون بهم من المستغربين، من أبناء العروبة والإسلام، هو خطأ جسيمٌ نرتكبه في حقّ أنفُسنا، وذلك لأنّ راهن الحال المتردِّي للأمة -كما يعرِفُه المهتمون بدراسة تاريخ الحضارات -هو إفراز للظاهرة الاستعمارية كنتيجة موضوعية، وليس مجرد تجلٍّ محلي لتداعيات ذاتية محضة في حركة مسيرة الأمة.
وربّما إذا أمعنّا النظر في أبرز التحديات التي يفرضُها الواقعُ اليوم والتي تُضعف قدراته، وتعرقل خططه التنموية، فسنجدُ أنّ أَزمة العقل العربيِّ المعاصر من خلال ثنائيَّة الإبداع والاتِّباع، هي أول التحدّيات التي تُحاصر العالم العربي. نظَرًا لكونه (أي العقلَ العربيَّ)، في هذه الحالة بالذات، خاضعٌ بوجهٍ خاصٍّ لتاريخ التخلُّف الذي أَعقب فترةَ ازدهار الحضارة العربيَّة الإسلاميَّة.

 هل العقلُ العربيّ سَجينُ لتاريخيَّته، أم سجينُ تخلُّفه الحضاريّ؟

 الإنسان العربيّ العادي سجين في سجون منيعة متعددة الأصناف والأسوار. سواء رسميّة أو مجتمعيّة، ثقافيّة ودينيّة، خارجيّة أو ذاتيّة، حضاريّة وتاريخيّة تجعلُ منه مُجتمعًا مُشبَعًا بفخر الأجداد وتعظيم السَّـلَف وتمجيد الماضي بل حتّى وضعه في منزلة أكثر تبجيلاً من منزلةَ الحاضر...  وكلها تتعاونُ وتتفاعلُ للتأثير المُركّبِ على طريقة تفكيره ثم على سلوكه وتصرّفه ونظرته إلى الأمور. وما أن يظهرَ بعضٌ من ذوي الأفكار الثورية النيّرة لتحرير الناس من سجونهم المركّبة، حتى يتعاون على قمعه ورفضه وإلغائه كلٌ من السلطة الحاكمة (السجّان)، والمجتمع بأفراده السجناء أنفسهم الذين ألِـفوا سجنهم الدائم، واستساغوا قهرهم الأبدي. بل إنّ معظمهم لا يعيِ سجنـَه، أي لا يدري أنه سجين أصلاً، لأنه ولد وعاش في هذا السجنِ الكبير وقد يموتُ فيه.
ثمّ إنّ الإنسان العربي أُصيب بصدمة عنيفة نتيجة لتكرار هزائمه أمام الغرب المتقدم. ثمَّ تفاقمت هذه الصدمة، وازدادت تفاقمًا وتأزُّمًا في كلّ مرّة يتواجهُ فيها الغربيُّ مع العربيّ ويسقط فيها هذا الأخير من علوّ شاهق، حتّى أصيب العقل العربي بتلك الصدمة العنيفة بسبب فشله في مواجهة "الآخر"، ومن هنا بدأ مسخ الحضارة العربية الإسلامية، وطمس منجزاتها يأخذ شكلاً مُمَنهجًا، بهدف طمس الهُوِيَّة العربية الإسلامية للأمة كهدف مركزي للمستعمر الغاشم. وربّما لو وُجّهت أصابعُ الإتّهام لكلّ واحدٍ منّا لبرّر مثلاً تلك الهزائمَ بكون الغرب يمثل دولاً كبرى مُقارنةً بنا، لكن كيف لنا أن نبرّر هزائمنَا المنكرة أمام الكيان الصهيوني الذي لا نعتبرهُ دولة وإنّما مُجرّد عصابات؟

هل أسفرَت صدمةُ العقل العربيّ-الإسلاميّ بالحضارة الغربيَّة الحديثة، إلى “نكوص” ذلك العقل، ولجوئه إلى الماضي، تعويضًا عن فشله وعن واقعه المُرّ؟

من الطّبيعيّ أنّ الصّدمة تُفقدُ الشّخص توازنه لفترةٍ ما، ثمَّ بعدها تكونُ الإستجابة بطريقتين:
الأولى: تـقـبُّـلُ هذه الصّدمة والاعترافُ بها وعَـقـلـَنـتــُها، ثمَّ محاولة التغلـُبِ عليها باتِّخاذ مواقفَ جديدة أكثرَ مُلاءَمة، أو حتَّى العمل على تغيير نمَطِ حياته وتكييف وسائل التّعامل مع النّفس أو مع الآخر.
الثّانية: تكون ببداية ظهور الانحرافات النفسيَّة أو العقليَّة التي يؤدِّي بعضُها إلى الإنطواء على الذّات، أو بالعودة إلى الماضي، فتُغرق المُجتمع في أحلامه ومُخيّلاته، وهكذا يستعيدُ الماضي مُعظـِّمًا إيَّاه، مُتمسِّـكًا به تعويضًا عن واقعه المُرّ، وهي ما قد نسمّيها حالة "النّكوص".
وبطبيعة الحال فالعالم العربيّ اليوم يعيش على أمجاد أسلافه (نكوص). فيتغنّى بماضيه التّليد وتاريخه المجيد، ويظنُّ أنْ ليس له ما يُعادله لدى أيِّ أمَّة من أُمَم الأرض، وكلامي هذا لا يعني عدم إحترام التّراثِ وما تركه السّلف، وإنّما يجدرُ بنا، دراسته دراسة واقعيّة، وتحليله بتعمّقٍ إستنادًا إلى نقدٍ علميّ موضوعي، فنحن لم نتمكـَّـن حتى من كتابةِ تاريخنا وتـُراثـنا وتحليله ونقده بقَدر ما تمكـَّن منه "الآخر" وقد أذكر على سبيل المثال كتاب: "الإسلام والفنّ الإسلاميّ" لأَلكسندر بابا دوبولو.
وفي هذا يقول الإمام جمال الدين الأفغانيّ مقولته المشهورة إنَّ: “العربيَّ... يُعجَبُ بماضيه وأسلافه … وهو في أشدِّ الغفلة عن حاضره ومستقبله“.
والحقيقة أنَّ الإلحاح في التنويه بهذا الماضي وما أورثهُ للعالم عامّةً، وللغرب خاصَّة، وكذا الإمعان في التـلـذُّذ بأحلامه وأمجاده وشخصيَّاته، ما هو إلاّ ظاهرةً مَرَضيَّة، إذا لم نقرنه بالعَمل الجادّ والإبداع الفكريّ والحضاريّ، بما فيه العلميّ والتكنولوجيّ على وجه الخصوص، لمواكبة الحضارة الحديثة القائمة على هذه المُعطـَيات… هذا من جهة.
من جهةٍ أخرى، العقل العربيّ يُعاني من التقليد والثبات وعدم إدراك أبعاد أهمِّـيَّـة الإبداع والتجديد. فمثلاً استـيرادَ بعض المناهج الدراسيَّة من الغرب وتطبيقَها في مدارسنا ما هو في حقيقته سوى نمطٌ آخر من أنماط التقليد والاتِّباع، وقد أوهمنا أنفسنا أنّنا بإمكاننا اختيار ما يُلائمنا من حضارة الغرب الصّاعدة دون التفريط بتلك "الأُصول" التي تربطنا بماضينا المجيد. فأصبحنا بذلك نحمل شخصيَّاتٍ ضعيفةٍ مزدوجة، ففي الوقت الذي نؤمنُ بقـِـيَمنا ونقدِّسُها أحيانًا ونحتـقرُ قـِـيَمَ "الآخر" ونفضحُها في كلِّ مناسبة، فإنـَّنا نلجأ إلى "الآخر" في كلِّ أمورنا الكبيرة منها وحتّى الصّغيرة: الغذاء، الدّواء، السيّارات، الأزياء، بل حتَّى آداب الجلوس والتصرُّف في الحفلات واللقاءات والاجتماعات…

ما السبيل لتحرير العَقل العربيّ  وإطلاق طاقاته من عِقالها؟

إنَّ عقلَنا لم يُدركْ بعد، أنَّ التقليد، مهما كان، سواء تقليد السَّلَف وهو ما قد أسمّيه (الأنا) أو تقليد الغرب (الآخر)، يُشكِّل انتهاكًـا لشرف العقل الذي دُسناه بأقدامنا. وبالتّالي فتحريرَ الإنسان يتطلَّب النظرَ في تحرير عقله قبل كلِّ شيء. ذلك العقلُ المكبَّل بأَغلالٍ مفروضة عليه من سلطات متعدِّدة، سواءٌ في الداخل (الحاكم المدني أو الدّيني) أَو من الخارج (الاستعمار، النفوذ الأجنبي)، و/أَو سلطة الماضي، و/أَو سلطة المجتمع بكلِّ ما يحملُه من تقاليدَ وأَعرافٍ وقِيَمٍ وعقائدَ متخلِّفةٍ ورثَها من الفترة المظلمة، بوجهٍ خاصّ-أَقول: العقل المكبَّل لا يخلـِّف إنسانًا حُرًّا مُبدِعًا، بل دُمية تحرِّكها الخيوطُ المتَّصِلة بتلك الأمجادُ والسلطات.
ورغم أنّ هذه العقبة (سجن العقل العربيّ) التي يواجهها العالم الإسلامي، عقبةٌ صعبةٌ في تركيبها لها من الضراوة والشدة والخطورة ما يشتّتُ الذّهن ويُعيق المسير، خاصّة وأنّ لها إمتدادٌ واسعٌ يعود إلى مراحل عديدةٍ سابقة، إلاّ أنّها لا يُمكنها أن تُطفئ جذوة الأمل، وأن تُضعف إرادة العمل، بل يجب أن تكون حافزاً إلى النهوض من الكَبْوة، والعمل من أجل التّغلب عليها، بتقوية التضامن الإسلامي، وتضافر الجهود للتغلب عليها، ولمواجهة تداعياتها، بالحكمة البالغة، وبالعزيمة القوية، في إطار تحرير الإنسان العربيِّ أَوَّلاً ليتمكَّن من الحركة والتفكير والإبداع، وبالتالي التقدُّم، ثمّ مواجهة تيارات الفكر الغربي التي باتت تهدد المصالح العليا للعالم الإسلامي، بسياسات مُنسّقة، وبإرادة قوية، وبإستراتيجية واضحة المعالم.