ذلك الميدان اسمٌ على مسمى، اجتمعنا فيه تحت راية الحرية وهو ميدان التحرير، جَمع أطيافنا ووحد اختلافنا، وشد أزرنا بعدما كنا نثرًا منثورًا نتخبط في شِعاب الوطن؛ لا ندري ما الحرية وما الأمل، لا ندري حلاوة الهتاف في الأفواه، لا نعلم جمال التهاب الحناجر من علو الصراخ، لا عهد لنا بمذاق الحرية إلا ببعض أوصافٍ أدركت سمعنا وأحببناها بقلوبنا، نجهل شعور ارتجاف القلب ثورةً، وقوة نبضه حماسًا.. هنا أنت بين أبناء وطنك؛ يهتفون نفس العبارات وينشدون عذب الأغاني، يحلمون نفس الحلم، ويتشاركون الخوف والقلق كما يتشاركون قطعة الخبز. 

 

تسير بينهم فترى أعينهم تفيض بالأمل؛ رغم اشتداد الأزمة واحتمالات سوء العاقبة، لا يهم أيُ شيءٍ يا أبناء وطني.. طالما نحن مجتمعون، لنتوحد فقط وعلى الدنيا السلام، جميعنا هنا فلا يهم إن اعتصمنا يومًا أو مائة يوم، نحن هنا ويعم الدفء أرجاء الميدان رغم برودة يناير، دعوا الزمن يشهد أننا اتفقنا على رأي واحد ولو ليوم واحد، اتفقنا أن نهدم منظومة العسكر التي حكمتنا واستنزفت خيرات بلادنا، وجعلتنا أذلة بين الدول ونحن خير دولةٍ وأعظم مِصرًا.

كم كان الوطن جميلًا يومها، يكتسب معنى جديدًا بداخلنا، كأنه يولد من جديد، فأصبح أكثر إشراقًا وبهاءً، أكثر أمانًا وحرية، يمتزج مع أرواحنا فهو نحن ونحن هو، لقد تغيرنا فتغير الوطن وأبينا إلا الحرية فتحرر الوطن.

مرت تسع سنين على ذكرى يناير، شهدنا فيهم فرقةً وشتاتًا، وظلمًا واستعبادًا، وقتلًا وقيدًا، وكأننا سنظل ندفع ثمن اجتماعنا لثمانية عشر يومًا طيلة عمرنا! يناير لم تعد ذكرى للحرية أو الثورية أو التغيير.. بل أصبحت ذكرى جِراحنا التي لم تندمل، وصورة لأحلامنا المنهوبة ولحريتنا المسروقة، وعَـيشنا المكلوم وغُربتنا الأبدية، صورة لأدمعنا المتحجرة خلف أبصارنا، وصراخنا الذي يخنق حناجرنا، ورثائنا الصامت لآمالنا، وتشييع زهرات شبابنا، ذكرى الدماء السائلة على تراب الوطن التي ينتشر عَبقُها بكل ركن فيه، ذكرى الأرواح التي وهبت نفسها ولم يتحقق مرادها.. إنها ذكرى مؤلمة.

ما فرَّقَ يناير عن غيرها من الأيام أننا اجتمعنا واتفقنا، فما لنا ألا نجتمع أخرى؟ وقد ذقنا قطرة من قطرات الثورة فلم يزل حلو طعمها في حلقنا إلى الآن، وشعرنا بقبسٍ من حرية فكأنها قبس من نور، وأُهْـدِينا مسًا من الوطنية فعرفنا معنى الانتماء.

إن روح يناير لم تزل حية فينا، والدليل هو نبض قلوبنا في ذكراها، ودمع أعيننا عند رؤية صورها وحِراكها وذِكر أحداثها، وأشجان أرواحنا عند ذِكر نجاحها الزائل، الدليل هو صراخنا الصامت لإعادة محياها.

يناير روح لم تمت فينا وستنتفض من جديد، فمن ذاق جمال الحرية لحظة أبى على نفسه القيد ولو بعد سنين، لازال التحرير ميدان الثورة ولازالت الدماء على الأرض لم تَجِف، ولازال الوقت كافيًا لقيامة جديدة، ولازال بإمكاننا إعادة حق الشهداء وحق الأحياء.. لازلنا ثوار.

كما أن اشتداد الظلم وضغطه، وقوة القيد وألمه؛ علامة بِشر وخير في باطنها، فما زُلزِلَ عرش الظالم إلا بعد بلوغ ظلمه منتهاه، ولا جاءت الثورة إلا بعد المَوات الشديد، وحتى يكاد اليأس يغلبُ الأمل، وتكاد الظلمة تلتهم كل النور فلا يبقى منه ثقب، ولا تجد الروح أي دليلٍ لقيام ثورة، وتُسد كل الطرق فلا يبقى منفذ؛ حتى يظن الظان أنها نهاية الطريق، فيأتي الله على كل ذلك وتنتقل كل القوة إلى كل ضعيف، فيفوز الأمل وينتشر النور وتُـفتح الطرق وتَجد الروح ما ظنته يومًا خيالًا، قال تعالى "حَتَّىٰ إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَن نَّشَاءُ ۖ وَلَا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ" 

إن تصدير خطاب الأمل ليس ضربًا من ضروب العبث، أو نوعًا من تخدير القلوب والعقول، أو بثًا للأوهام والأماني الزائلة، وهو أيضًا ليس من التحليلات السياسية أو ظهور شخصيات تُـبشر بالثورات وتتنبأ بها، بل إن الأمل من الله أولًا وآخرًا ودائمًا، نرجوه رفع الغمام وانتفاض النيام، وندعوه زوال الأزمة وثورة الأمة.