ظهر مصطلح الشفافية في الثمانينات من القرن الماضي كواحد من المفردات التي أثارت جدلا كبيرا حول مدلولاتها، وقد أشارت مضامين العديد من التعريفات إلى أن المصطلح يدعو إلى نمط جديد من التفاعل يقوم على إرساء مجموعة من القيم تأتي على رأسها قيم النزاهة والمساءلة والإفصاح ومحاربة الفساد.

وقد جعلت التغييرات المتسارعة التي شهدتها المجتمعات خلال العقدين الماضيين، والإنفتاح الكبير الذي فرضته العولمة وثورة الإتصالات، الشعوب تحلم بأمل جديد في تحقيق التقدم والتطور الذي تنشده، فارتفاع مستوى الوعي العام لدى المواطنين ومطالبتها لحكامها بضرورة الإصلاح، وإجراء تعديلات جوهرية في النظم الإدارية السائدة الموصومة بالضبابية والديكتاتورية واحتكار القرار، زاد من درجة الحريات الممنوحة للمواطنين، وساعد في بلورة مفاهيم تتواءم مع ضرورات التوجهات المتجددة في عالم متغير.

حيث أصبحت مفردة الشفافية تفرض وجودها بقوة في واقع الممارسات الإدارية والحياتية بصورة أكسبت تطبيقاتها أهمية في ظل الانفتاح الكبير الذي يشهده المجتمع الإنساني في عالم أصبح يوصف بالقرية، اتسعت فيه دائرة المصالح المشتركة، الأمر الذي يتطلب المزيد من الموضوعية والوضوح، لتحقيق أعلى معدلات المنفعة والتطور. 

ولا يتأتى ذلك إلا من خلال محاربة الضبابية والفساد الإداري الذي يعتبر أحد مهددات التطور والتنمية والإصلاح والحكم الراشد. فهو يعيق توفير الخدمات العامة الجيدة، ويقلل فرص الإستثمار، ويميز بين الفقراء والأغنياء، ويدمر ثقة الجماهير في الحكومات، ويؤخر تقدم الشعوب ونموها، ويضيق هوامش الحرية والديمقراطية، ويشيع الفوضى السياسية والاقتصادية والاجتماعية في المجتمعات.

وبالتالي فإن هناك العديد من التحديات التي أصبحت تفرض وجودها على العنصر البشري في ظل ثورة المعلومات والتقدم التكنولوجي المطرد في العالم اليوم، بالإضافة إلى التنوع والشمول المعرفي المتسارع وعمليات التحول الاجتماعي والاقتصادي والسياسي، حيث تعتبر الإدارة هي الضمان الأول لاتساق منظومة هذه التحديات على مختلف مستوياتها وتفاصيلها وتطبيقاتها.

 وأصبحت الشفافية تلعب دورا مهما في تطور محاور العمل الإداري وضبط إيقاع العمل الوظيفي، لتأكيد مصداقية المنظمة أمام الرأي العام، هذا التطور لا بد أن يصاحبه إصلاحات إدارية عديدة تسعى إلى تأسيس فلسفة إدارية تقوم على تحرير المواطنين والموظفين لكي يكونوا قادرين على أن يفعلوا ما في وسعهم وأن يستعملوا الأساليب الإدارية المتطورة للحصول على أفضل ما يمكن أن تقدمه الحكومة، كل هذه الإصلاحات تجسد دور الشفافية والحكمانية في تحقيق مبدأ إعادة إكتشاف وظائف الحكومة[1]. وتجديد دور المجتمع المدني ومؤسساته للتعاطي مع واقع التغيير الذي لا ينفك عن طبيعة الوجود الإنساني.

وعليه فإن هناك عدة دواعي تكمن وراء هذا الكتاب، لأن انتشار ظواهر الفساد الإداري وتأثيراته على المستويات المحلية والإقليمية والعالمية، تدعو للقلق، خاصة في دول العالم الثالث والدول العربية والإسلامية. وذلك يظهر أن هناك مشكلة تدعو لاستجلاء أسبابها ونتائجها، فهل بالضرورة وجود فساد إداري إذا لم تكن هناك شفافية؟ ولماذا تحدث الضبابية في الممارسات الإدارية؟ هل نتيجة لضعف وقصور في النظم والإجراءات الإدارية؟ أم نتيجة لقصد وتعمد في السلوك الإداري لانعدام دور القيم والأخلاق في الممارسة الإدارية؟ وإلى أي مدى يمكن أن تمثل الشفافية سلوكة وظيفية؟ وما هي أبعاد ذلك السلوك وتأثيراته على الأداء الإداري؟ 

تبرز أهمية موضوع هذا الكتاب في إرتباط تطبيق الشفافية بنمو وتطور الشعوب باعتبارها قيمة من قيم الإصلاح الإداري والتنظيمي لتحقيق الأهداف والغايات المنشودة. بالاضافة إلى تزايد المشكلات العامة والمتعلقة بقضايا الفساد الإداري الذي يشكل غياب الشفافية والمساءلة دورا كبيرا في تفاقمها وإسقاطاتها. كما يمكن الإستفادة من نتائج هذه الدراسة وتطبيقها على مختلف مؤسسات المجتمع المدني والأعمال الأخرى، بما يساهم في الكشف عن التأثيرات الإيجابية للشفافية على السلوك الإداري. وتحديد العلاقة بين الفساد الإداري وغياب الشفافية، وتعزيز الجهود التي تحكم شفافية السلوك الوظيفي في الأجهزة الإدارية.

يعتبر هذا الكتاب امتدادا للأطروحات والدراسات التي تهتم بتعزيز قيم النزاهة والشفافية ومحاربة الفساد، حيث يتعرض للتعريف بمفاهيم الشفافية ومرتكزات تطبيقها ورسوخها في متون الرسالات السماوية، والتعرف كذلك على مدلولات الفساد وخطورته على هياكل أبنية المجتمعات الإنسانية، ويتناول أيضا السلوك الوظيفي والعوامل التي تؤثر عليه، ودور أخلاقيات العمل ومدى إنعكاس ذلك على الأداء إيجابا أم سلبا، ويعرض الكتاب في فصله الأخير لواقع الشفافية في ديوان الزكاة، وإجراء دراسة ميدانية لتأكيد الفرضيات التي بنيت عليها فكرة هذا الكتاب.