لقد قَضَتْ الحكمةِ أن جُعِلَ الاختلاف بين الناس قديما قدم الخلق، وهو سنة كونية أبدية، وطبيعة بشرية، فمن المستحيلات الثابتة جمع الناس فكرا وفعلا، لذلك أضحى التعايش وقبول الآخر مشتركا إنسانيا بيننا يتجاوز عوادي الدهر وتعسفات البشر، لنكون أكثر قبولا للآخر وتعايشا معه. لكن من تأمل واقعنا ألفى اختلاف الناس بين مدرك واعٍ بهذه السنة الكونية، فهو مشرف على كمال العقل البشري الواعي في أبهى حلته جراء السعي إلى تحقيق هذا المشترك وبين غافل لها أو متغافل عنها.

فالصنف الأول هو صورة للعلم والمعرفة والرقي في أجمل حلله، باحث أدرك حقيقة التعايش وقبول الآخر، وتأدب بآدابه وراعى ضوابطه، وأدرك مقاصده ويتلهف إليها؛ باعتبارها همزة وصل مريحة، بمعنى أنها تفتح آفاقاً غير محدودة؛ لتمس إنسانيتنا من خلال الآخر، لتستشرف مستقبلنا في أمن وأمان، أما الصنف الثاني الذي ترعرع في الجمود والانغلاق والانكماش وقصور في الفهم، ونشأ على التفرد والاستبداد بالرأي والفكر والنظر، والذي يغلق أبواب عقله على ذاته، بحيث يرى رأيهُ الرأي المنيرَ القويمَ، وقوله هو القول الفصل الحكيم، فأنشأ الخلل إما بالنزاع أو الشقاق في أمور يسعها التعايش إما بالقبول أو الإعذار، ولكن هيهات هيهات. 

وجدير بنا في هذا المقام أن نقر بأن هذا الصنف في حاجة ماسة لفهم فلسفة التعايش معتمدين في ذلك منهج التخلية ثم التحلية بنبذ موانع التعايش التي أضحت متجذرةً في عقول الصغار فضلاً عن الكبارِ، ثم المعنى الحقيقي للتعايش وتَمَثُلِ شروطِهِ للظفرِ بحكمهِ.

 ومنه يبدو أن فَهْمَ فَلْسَفَة التواصل والتعايش مع الآخر أمراً ضرورياً وملحاً في عصرنا الراهن، حتى نواجه جَحَافِلَ العُنْفِ التي بدأت تطفو على السطح، ولا يتأتى ذلك إلا بالتخلي عن الموانع والتي تبث بالاستقراء والتتبع أن مَرَدَ انْعدام العيش المشترك لها.

 وتجدر الاشارة قبل فهم هذه الموانع ونبذها وراء الظهور لا بد للعقل وللقلب، أولا بإقرار بهذا المشكل إقرارا باطنا لا ظاهرا، وإقرارا عمليا لا قولا نفسيا متجردين من الأهواء والعواطفِ والانفعالاتِ المذهبيةِ والعرقية، حتى نكون أَصحاب فهمٍ دقيقٍ ورأي بديع، ثانيا أن ندرب أنفسنا على أسمى معاني الإنسانية، وترويضها على ما يتميز به البشر في العلو أو الانحطاط، من خلال هَجْرِ:  

النزعة الفردية: وهي شعور الإنسان بالعلو والاستعلاء بذاته المعنوية المستقلة، بحيث يتولد لديه رغبة في التفرد بكل شيء كان حسا أو معنى، ولو كان ذلك على حساب ذوات الأخرين، مما يدفعه إلى تكوين قناعات خاصة يعتقدها ابتداء ثم استدل ويجد لها الأعذار لإثباتها انتهاء.

التعصب: وهو تمركز حول الذات أو حول أشخاص الزائفين والتعصب لهم وهجر الموضوعية، والرد الصريح لسنة الاختلاف، وتحجير العقل وإخراجه عن وظيفته الطبيعية في تناول قضايا المشترك الإنساني، ليصبح استيراده للأفعال والأقوال اتجاه الآخرين من قناة واحدة دون أدنى حرج، وهو من أبرز سمات وأسس هذه الأزمة المتجذرة والتي تتمثل في نبذ الآخر وعدم قبوله. من تأمل سنة الأخيار وسيرة الأبرار رأى رحابة صدرهم وسعة تعايشهم.

الهوى: وهو ميل النفس إلى الصنم الخفي بذواتنا والذي لا يراه غيرنا من بني جلدتنا، بحيث نهوي إليه مكبرين مهللين كلما هممنا على اختلاف أو خلاف، دون الاستناد إلى المبادئ الفطرية، أو الدلائل العقلانية، أو التجارب العلمية، بل هو وضع الذات في كفة، ورفض الآخر والحكم عليه في كفة، وترجيح الذات ومصالحها ابتداء.

تقليد الأعمى: وهو الظل الذي يستظل به بدوى المذهب أو البلد أو القبيلة وما جرى مجراها ودار في فلكها، بحيث يُنَزَلُ الناس مَنزلةَ العصمة ومقام العظمة، فكم مرة أمكننا فهم اختلاف وفض النزاع بقبول للآخر إما باقناع أو اقتناع، لكن الركون إلى الأشخاص الزائفين جعل الاختلاف ينحرف عن مساره الصحيح ليسلك طريق الإمعة، ويضع السدود بين طرفين بدلا من إعانة على المقاربة والالتحام. 

إن إدراك المعاني الحقيقية للموانع آنفة الذكر، ونبذها لسبيل موصل إلى إدراك أن التعايش هو مُشْتَرَكٌ إنساني، وضرورة واقعة وأمر طبيعي بين بني البشر، ولا يَقَعُ عليه البتة ذَمٌ ولا تنقيص بقدر ما يقع على المسلكيات السيئة الناتجة عن عدم التخلق بضوابطه وامتثال شروطه، كما أن الاتصاف بنواقضه هو عين الظلم والبغي والجُورِ. 

أما التحلية فتنبثق من الفطرة الإنسانية التي إلى أن يؤمن جميع البشر بأنّهم متساوون في الحقوق والكرامة الإنسانية، ولا يوجد هناك تمييّز بين الأفراد، سواء أكان عرقياً أو ثقافياً وغير ذلك. فالإنسان هو الإنسان في أي بقعة من العالم، ويتساوى مع غيره من الناس في كلّ شيء، وهذا الفهم هو ما يدفع بالإنسان للعيش المشترك مع الآخرين واحترامهم وقبولهم، تفاوت الأفهام أثناء إعمال العقل والفكر والنظر في الأمور، وتباين المقاصد والمرامي نتيجة تدافع مصالح الناس، فيلزم من ذلك تشكل اختلافات متعددة السبل والطرق، وعليه اتساع رقعة الاختلاف. ولا عيب في ذلك ما دام الاختلاف يندر تحت اللواء المحمود، ومنه نفهم أن الآخر إذا سلم قصده لا تضر مطيته. إذا التعايش هو الإقرار بحقّ الاختلاف بين أفراد شتّى في مجتمع واحد، وأن يمارس الاختلاف بطرق سلمية بعيدة عن النزعة الفردية والتعصب والهوى. 

إن الكلمة الأخيرة في هذا المقام، تتعلّق بعنصر مهمّ لا يدفع إلى تحقيق التعايش فقط، بل يتجاوزه إلى أمور أخرى على المستوى الفردي والمجتمع ألا وهو طريقة التفكير. فتحقيق التعايش يرتكز على طريقة تفكير تستند إلى العقل، أي التفكير العقلاني المتجرّد من الأهواء والعواطف والانفعالات المذهبية والعرقية، ويحتكم إلى الصالح العام، ويتسم بالموضوعية وعدم التحيّز لأي أمر كان. وهذه الطريقة في التفكير هي نقيض التعصّب والتطرّف وإلغاء الآخر واحتكار الحقيقة والتمييز بين أفراد المجتمع ومكوّناته، وإعطاء الحقّ في الريادة والتحيّز لطرف ما ضدّ الأطراف الأخرى. 

فطريقة التفكير العقلانية تعزّز من قيم التسامح واحترام حقّ الآخرين في الاختلاف والتعامل الحضاري والإنساني مع الآخر سواء أكان ضمن نطاق المجتمع أو الآخر الخارجي، وترفض احتكار الحقيقة وترتكز على العقل في التعامل مع المشكلات أو الاختلافات بين مكوّنات المجتمع وتعزّز من التآخي والعيش المشترك بسلام بين الجميع، وفي حال غياب التفكير العقلاني ستكون النتيجة، أما تحجر الأذهان وصمم الآذان لم يبرز إلا الضعف والوهن والتشرذم في العديد من الدول العربية؛ بسبب افتقارها إلى أبسط مبادئ التعايش والواقع أعظم الشهـــــــــود.