الأمن لدى مختلف المجتمعات والأمم ركن مهم لكي تقوم ببناء نفسها والنهضة بمؤسساتها، فالتربية ينبغي أن يتحقق لها الأمن وأن يكون الناس مطمئنين على أرواحهم وأموالهم وأعراضهم لكي تنجح، فإذا اختل الأمن فإن المجتمع لا يمكن أن ينتج شيئًا، ولا أن يزرع قيما.

إن الأمن الاجتماعي هو مطلب حيوي وهام. وأمام تحدياتٍ كبيرة تواجه الأمة، والدولة الحديثة والشعب، فهو مطلب ضروري جدًا، لا بد أن يعمل على تعظيمه وتعزيزه والحفاظ عليه، وهذه التساؤلات ستجيبنا على أهم القضايا المتعلقة بالأمن في الحلقة الرابعة عشر من برنامج بيان للناس.

كيف نؤصل فكرة الأمن في الفقه، وكيف نطورها لتكون مسؤولية اجتماعية في المجتمعات المعاصرة؟

د. علي القره ياغي: الأمن الاجتماعي هو مقصد مهم جدًا من مقاصد الشريعة (أطعمهم من جوعٍ وآمنهم من خوف)، والمقصود بالأمن الاجتماعي؛ أن يكون المجتمع آمنًا في كل الجوانب، السياسية والعسكرية والاقتصادية والعلمية والبيئية.

ولكن المسؤولية الاجتماعية ظهرت بعد الأزمة المالية العالمية وقد ظهرت في بدايتها بالولايات المتحدة الأمريكية، حيثُ كانت هذه الشركات التي انهارت، قامت الدولة بمساعدتها بأكثر من ترليون دولار، وقد طالبت الحكومة برئاسة أوباما؛ أن تكون لهذه المؤسسات أدوارها في خدمة المجتمع، وهذه الكلمة مخالفة للرأسمالية، لأن الرأسمالية رأس مال حُر، يؤخذ منه الضرائب ولكن لا يكون مكلفًا بأي مسؤولية اجتماعية، فعندما ناقشهم المسؤولون الكبار.

  • وقالوا: حينما انهارت بعض مؤسساتكم، من الذي ساندكم؟
  • قالوا: الدولة.
  • والدولة من أين أتت بالمال؟
  • قالوا: من الضرائب، والضرائب أصلها من المجتمع.

هذه القاعدة التي توصل إليها الفكر الحديث والذي يسمى الآن بالاقتصاد الاجتماعي، هو فلسفة الملكية في الإسلام التي تقوم على هذا الأساس، المال مال الله، والإنسان له حق التصرف به فيما يرضي الله، ولا يكون مقيدا بقيود في التملك والاستنتاج والتبادل والتوزيع، هذا تأصيل القضية.

فما دور هذه الشركات؟

أن تقوم بمساعدة المجتمع من خلال مؤسسات تساعد في القضاء على التضخم والفقر، ومن خلال فتح ثغور للمشروعات الصغيرة، ويجب على هذه المؤسسات المالية أن تكون لنا قيمة الفائدة منها أقل، فإن قدمت مشروعا للقضاء على الفقر، يجب حينها على المؤسسات الاجتماعية أن تطبق نسبة الفائدة 5 %

كيف سنحارب التخلف والبطالة والجرائم الاجتماعية من خلال الأمن الاجتماعي؟

د. عبد المجيد النجار: المجتمع لا يمكن أن يقوم بدوره في البناء والتعمير إلا إذا تحقق له الأمن، وحكم القانون في العلاقات بين الأفراد، وهذا الأمن لا يتحقق بمجرد اجتماع الناس، وإنما يكون فلسفة اجتماعية وتطبيقات عملية توفر الأسباب لتطبيقه.

 وحقيقة الأمن ينقص من برامجنا التعليمية والجامعية، يعلم الناس كيف يحترم الناس بعضهم، وكيف يختلفون، ثم اذا اختلفوا كيف يفكون هذا الاختلاف، وكيف يتعاونون، وكيف يتسامحون، هذا ناقص في مشاريعنا التعليمية، وهو أساس من الأسس التي تحقق أمننا الاجتماعي، والتوافق الاجتماعي.

 وكذلك من أهم الأسباب التي تحقق الأمن الاجتماعي؛ توفير العمل للمواطنين؛ لأن الإنسان إذا انخرط في العمل وجه عقله نحو هذا العمل والتطوير فيه، فإن هذا العقل لن يفكر تفكيرًا شيطانيًا في نطاق المجتمع، وستكف الأيدي عن كل ما يمكن أن يكون من جرائم، كذلك التكافل الاجتماعي، فالناس لهم طبائع بشرية، المحروم والفقير والمعدوم حينما يرى الآخرين في ثروتهم وغناهم، تنشأ في نفسه من الأحقاد ما يدفعه إلى أن يؤثر في المجتمع تأثيرا سلبيا، إما بالجرائم أو السرقات.

 فكلما تكافل الناس وحققوا بعضهم لبعض حد الكفاية، فإن كل المواطنين سيشعرون بالأمن النفسي ويشعرون بالود والتراحم، فيتحقق أهم سبب من أسباب الأمن الاجتماعي، والذي لا يتحقق إلا به، ولا يمكن أن نحقق تنمية واقتصادا إلا به.

المجتمعات العربية إلى الآن، متأثرة بتجربة القبائل، فكيف نستفيد من وجود القبائل والعشائر لتحقيق الأمن الاجتماعي، وبدلا من أن يتخاصموا فيما بينهم يساهمون في تحقيق وتطوير هذا الأمن؟

عبد المجيد النجار: هناك إيجابيات في هذا النظام القبلي يمكن أن ننطلق منها حيث نجد القبيلة في داخلها تشتمل على قدر لا بأس به من التضامن والتكافل فيما بينها، يمكن الانطلاق من هذا من خلال جرعة من القيم الإسلامية التي تضع الإسلام الرابطة الأكبر والأعم بين المسلمين، وهذا الوئام في نطاق القبيلة إلى نطاق القبائل فيما بينها بالتعاون وبالقيم الاسلامية.

كيف نستفيد من المؤسسات النقابية في تحقيق الأمن الاجتماعي وحل أزمات الفقر والبطالة؟

د. نور الدين خادمي: المؤسسات النقابية والعمالية التي تناضل من أجل العمال وراحتهم، هذه مؤسسات ضمن نسيج المؤسسات في الدولة، وهي معنيةٌ بأن تحقق هذا الأمن، وأن تسهم فيه، فليس هناك تعارض من حيثُ الأصل بين المطلبية النضالية والحقوقية، وبين الأمن المجتمعي وحقوق العمال والدفاع عنها، تمثل قاعدة من قواعد الأمن الاجتماعي في حدود ما يسمح به القانون والإمكانيات، والمفاوضات الاجتماعية بين النقابات والقطاعات الأخرى، كل هذا يمثل إطارًا مرجعيًا.

المجتمع المدني والقطاعات الشعبية في الدولة الحديثة، تمثل الجناح الثاني للدولة الحديثة، فالدولة الحديثة بجناحين؛ جناح رسمي حكومي، وجناح مدني شعبي، فلا يمكن للدولة الحديثة أن تطير بجناح واحد، هذا يسمى المجتمع المدني المتواصل مع المجتمع الحكومي في إطار المصلحة العليا والعون المشترك.

من خلال التجربة التاريخية، كيف استطاع النبي أن يجمع بين القبائل مثل الأوس والخزرج وكيف أسس الأمن الاجتماعي في المدينة؟

د. علي الصلابي: وثيقة المدينة بينت التكافل بين الأنصار والمهاجرين والقبائل، وكانت هناك مجموعة من القيم حافظت على النظام الاجتماعي القبلي، ونقل النبي -صلى الله عليه وسلم- هذا إلى مفهوم الأمة، وقد بدأ الرسول في الأمن الاجتماعي بالفرد الذي هو بار بوالديه، فهذا ينعكس على الأمن الاجتماعي، كان للقطاع الخاص من خلال عثمان وأبي بكر للنفقة على الفقراء أمر كبير في تعزيز الأمن الاجتماعي مما أوجد نوعا من التراحم والعدل.

ما هي المشاكل الأساسية التي تدمر الأمن الاجتماعي في المجتمعات العربية؟

د. أحمد الريسوني: نحن سبق وأن تحدثنا عن الظلم الذي يفكك المجتمع وتزيد به الكراهية، وينشر الإحساس بالحرمان، وهذا يؤدي إلى رغبة في الانتقام والتمرد وبالتالي يقل الأمن، ومن العدل أن تعطى للناس حقوقهم، ومن العدل إقامة الزكاة لأن الفقهاء وضعوا شروطا لتطبيق حد السرقة، والتي كان منها وجود الصدقات، فإذا لم تكن الزكاة موجودة فلا يمكن قطع يد السارق، الواجبات والحقوق متقابلة، ولابن حزم كلمة رائعة يقول فيها: "عجبتُ لمن لا يجد قوت يومه، كيف لا يخرج شاهرًا سيفه على الناس". 

 إذن كأنه يقول من الطبيعي أن من حرم حقه وقوته وبقي جائعًا ولم يجد من ينجده، أن يحمل سيفه، فالزكاة التي هي ركن من أركان الإسلام وضعت لهذا الغرض.

 يثار نقاش عند بعض التوجهات والتيارات السياسية واليسارية، يرون أن الأمن الاجتماعي يخدم الفساد السياسي لأنه يخدر ويعطي استسلامًا ولا يساعد على التغيير الشامل، فكيف ترون هذه القضية؟

د. عبد المجيد النجار: عندما نتحدث عن الأمن الاجتماعي نتحدث عن أسبابه القريبة، وأسبابه العميقة والبعيدة، أما أن نفتح الباب باسم التغيير وباسم الثورة للشعوب كي تكون عندها ثورات اصطناعية، هذا كله يفتح أبوابا للفوضى التي لا تلد إلا الفوضى في متتاليات ليس لها حد، ولهذا فإن بعض الشعوب حتى وإن كانت تبدو في ظاهرها تعيش أمنًا اجتماعيًا، فإننا لا نعد هذا أمنًا اجتماعيًا، إذا كانت هناك أسباب كامنة تعمل على وجود الظلم، فإن هذه الأسباب تعمل داخليًا في ضمائر الشعوب ودواخلهم، وإنما تتربص الأسباب بالأوقات المناسبة حتى تنقذ الأمن الاجتماعي.