في ظل نظام عالمي بات يفرض سيطرته على كل تفصيل في مختلف دول العالم، من ذلك دول العالم الإسلامي، بات التشريع هو الآخر خاضعا للتشريح والتنقيح، في سابقة من نوعها، فأصبح من هب ودب يقارن ويحلل ويشكك.

من أبرز البنود التي طالها التدخل هو قانون العقوبات، هذا الأخير الذي بات يشكل على الكثير من المفكرين والمستغربين ممن عجزوا على طمسه أو مواكبته مع مواثيق الدول الكبرى.

الأمر الذي أوقع الكثيرين في فخ الانتقائية، والإقصاء المتعمد لبعض تكاليف التشريع الواضحة، ومن ذلك برزت العديد من الشبهات التي باتت تشكل على العامة من العقول.

في الحلقة الخامسة عشر من برنامج بيان للناس سيعرض لنا دكاترتنا الأفاضل إجابات عن أهم التساؤلات والشبهات التي تمس العقوبات الإسلامية.

من أكبر القضايا التي تناقش في الإسلام قضية التشريع الإسلامي، فكيف نؤصل قضية التشريع وكيف نفهم المجتمعات هذا الأمر؟

د. أحمد الريسوني: لا شك أن التشريع الجنائي جزء من التشريع الإسلامي، وهذا من كمال الإسلام وصلاحيته للأزمان والظروف المختلفة، فالإسلام ليس للوعظ لوحده، ولكن كما قالوا: (إن الله يزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن).

حالات لا ينفع فيها إلا العقوبة، ولا سيما إذا كانت الجرائم مجبرة ومتعمدة، فالشريعة حينها تقرر عدم الإفلات من العقاب، لا بد لكل جريمة من عقوبة، إلا أن الشريعة جاءت بعقوبات محددة وقليلة جدًا، وتركت العقوبات للتقدير التشريعي والقضائي، لأن الجريمة نفسها قد يكون لها حجم معين من الخطورة والفساد والضرر، وهي نفسها في ظروف أخرى يصبح لها شأن آخر، ومن شخص إلى شخص، ومن قصد إلى قصد، الذي يقتل في شجار، ليس كالذي يقتل في تدبير وترصد وإعداد.

هناك جرائم تركت للتعزير في الإسلام، بينما العقوبات المحددة جدًا هناك القصاص، والقصاص له مخارج؛ كالعفو والدية، ويمكن يكون أو لا يكون، وهناك 6 عقوبات منصوصة في الشريعة، والشريعة لا تشجع على تطبيقها إلا إن كانت هي الحل الأفضل الذي يزيح مشاكل عديدة، فمثلًا في الحدود تشدد الشريعة في إثباتها، من خلال طلب الشهود والشهود لا يكون فيهم شك وبهم ثقة، وفي إثبات الزنا هناك تشدد كبير جدًا، لأن هذا يضر بالعائلة بأكملها، كان النبي صلى الله عليه وسلم لا يعجل الحكم، رغم أن اعتراف الزاني سيد الأدلة، لعله كذا وكذا، يلتمس النبي المخارج كي لا يطبق العقوبات. فهذه العقوبات على شدتها فإن الشارع لا يريد تطبيقها، إلا بعد تحريات والبحث عن حلول أخرى، النتيجة.. 

الشريعة الإسلامية هي الأقل اعتمادًا على العقوبات، لذلك تجد في العالم أن القانون الجنائي ينص على العديد من العقوبات، والغرامات، فالإسلام عقوباته مضيقة والباقي تعازير فيها إمكانية العفو.

الإسلام لديه عقوبات عديدة، وهي شديدة جدًا، فما فلسفة العقوبات في الإسلام، لماذا هذه العقوبات كلها، مع أنه دين الرحمة؟

د. عبد المجيد النجار: الإسلام دين واقعي يتلاءم مع واقع الفطرة البشرية، فالفطرة فيها التحسب للمستقبل، وفيها الارتداع حينما يستشعر الإنسان أن عمل من أعماله سوف يكون له عقوبة، فالعقوبات مجالها محدود وضيق، وقائمة على جملة من القواعد الفلسفية.

 أول قاعدة، هي أن العقوبة شخصية، لا يعاقب إنسان ما إلا بما كسبت يده من الأفعال، فيحاسب على فعله الذي اكتسبه بإرادته، لا يعاقب على ما لم يكن مكتسب بإرادته، كأن يعاقب على ما فعله قريبه أو ما خلق عليه من لون أو جنس، هذا لا يوجد في الإسلام، فهناك مذاهب أخرى توجد فيها عقوبات على ما لم تكتسب به يد الانسان، بل بعض الأديان فيها عقوبات على ما اكتسبه أبونا آدم، يتحمل أبناء آدم على ما اقترفه.

 كذلك فإن العقوبة في الإسلام مبنية على الردع، لا يوجد فيها انتقام، كي يتفكر الإنسان تلك العقوبة المصورة والموضوعة إذا ما فكر أن يقترف جريمة، ترتدع نفسه خشية أن تطبق عليه العقوبة.

 والدليل على ذلك في مقاصد الشريعة، أنه لظرف أو لسبب ينتفي معنى الردع في عقوبة من العقوبات، فإن هذه العقوبة لا تطبق في الواقع، عمر بن الخطاب، حينما أجل عقوبة السرقة، كان يظن أن الردع سيوقف السرقة، لأن الذي يمسه حر الجوع في عام المجاعة فإنه سيسرق ولن يفكر في العقوبة.

كذلك من هذه القواعد الفلسفية في العقوبات، أن العقوبات أحيطت بترسانة ضخمة جدًا من التحريات، فأسندت لجهة معينة وهي جهة الدولة والقضاء، فهي التي تقوم بتنفيذ هذه العقوبات لا جهة أخرى،  ثم أحيطت بشروط قاسية وصارمة لإثبات هذه العقوبة، وإذا وقعت شبهة صغيرة جدًا في هذه العقوبات فإنها لا تطبق، فالعقوبات هي فلسفة تتلاءم مع الطبيعة البشرية.

الدولة التي لا توفر المطالب الاقتصادية الأساسية، كيف تريد أن تطبق الشريعة على الفقراء الذين يسرقون؟ كيف ننزل أحكام الحدود على الواقع في مجتمعات معاصرة؟

د. علي القرة ياغي: العقوبات ما نزلت في الإسلام إلا بعد استكمال بقية الجوانب العقائدية والأخلاقية والاجتماعية والاقتصادية، وتوفير الأمن للمجتمع، فكل هذه العقوبات نزلت السنة السادسة أو الثامنة، كأنها نزلت بعد استكمال متطلبات الحياة والتشريع والتربية، ومن هنا تكون هذه العقوبات لحماية هذا المجتمع، وهي ما تسمى بأساسيات التشريع. 

فالله سمى القصاص (حياة)؛ لمنع الإقدام على القتل، النفس البشرية عزيزة، ففرض القصاص حتى لا يقدم أحد على إزهاق روح، قضية السرقة فيه للجاني عقوبة، ولكن الجانب الأساسي هو المنع والردع، ولذلك جمعت في كتابي  الشبهات والشروط في حد السرقة فوصلت إلى 67 شبهة وشرطًا، بالإضافة إلى أن هناك بعض الآراء يمكن الأخذ بها، بما فيها الشخص الذي ليس لديه سوابق خطيرة، ممكن أن يتوب إلى الله حتى تقبل توبته وبالتالي لا يقام عليه الحد.

والأمر الأخر في قضية تنزيل العقوبة، الزنا في تاريخنا الإسلامي لم يثبت إلا بالإقرار، أربع مرات يقر، وحتى في الأربع مرات يمكن أن يفر ويهرب، القضية ليست في العقوبة بل في قضية الردع، وأنا قرأت لأحد علماء الغرب في سيكولوجية العقوبة: (العقوبة الأساسية لما تكون قوية وشروطها تكون صعبة، يخاف منها الإنسان)، فسيدنا عمر لم يطبق حد السرقة في عام المجاعة، فهؤلاء لم يوفر لهم ما يقتاتون به، فكيف نقطع أيديهم؟

والجانب الأخر، أن الحدود حق الله، وحق الله دائمًا الدولة تمثله، فيجب على الدولة أن تقوم بجميع الأمور، فعلى الدولة أن توفر حقوق الفرد، ولم يثبت أن الرسول صلى الله عليه وسلم أقام الحد على المرتد. 

فيما يتعلق بالتشريع الجنائي الإسلامي الذي وقع الحديث عليه، هناك مشكلة يحدثها اليوم إلى تطور العلاقات الدولية، أصبح يرى ويقال أن هذه العقوبات ربما لم تعد مناسبة لتطور العلاقات الدولية والمعاهدات، كيف نشرح هذا الموضوع؟

د. أحمد الريسوني: كلمة التشريع الجنائي الإسلامي، كلمة مبالغ فيها، عندنا أحكام جنائية منصوصة ومحدودة ولو تمت مقارنتها بمجال تشريعي آخر، سيكون الفرق كبيرًا، أحكام الأسرة بالمئات وأحكام المجتمع بالمئات، بينما عندنا أحكام تتلاءم مع جميع الاعتبارات المعقولة، فإذن هذا لا إشكال فيه، الإشكال يكون حول العقوبات المنصوصة كالحدود والقصاص، لا نريد أن ننساق مع التضخيم الذي يقع، سواء من المسلمين الذين لا يرون أن الاسلام يسير ولا يعول كثيرًا على العقوبات وتضخيمها.