القضية الفلسطينية هي قضية أرض ومصير، ويتجاوز بعدها حيز القومية إلى حيز الإسلام الواسع، فالدفاع عنها من أجل مبدأين رئيسين مبدأ رد المظالم لأهلها ممن اغتصبت أرضهم وشردت أسرهم، ومن باب قدسية الأرض، وما تحمله من تاريخ عريق ومعنى تعبدي كبير عند المسلمين، فمن يخدمون القضية هم حراسها، ومهما توالت السنين يبقى للقضية من يساندها ويقوم مقام الدفاع عنها.

بين تساؤلات عديدة واستفهامات متكررة، تقدم لنا هذه الحلقة إجابات فيما يتعلق بالشأن الفلسطيني، وعن الجانب العميق للإسلام وكيف أنه يعزز إيمان الأفراد بالقضية الفلسطينية، فهي قضية أمة لا شعب.

هناك عدد كبير في التاريخ خدموا القضية الفلسطينية، وهناك الشيخ القاضي الفاضل له فضل في تحرير القدس، فهل تشرح لنا ماذا كان دور القاضي الفاضل رحمه الله؟

د. علي الصلابي: هو من الفقهاء الكبار وعالم بالمقاصد والسياسية والشعر والأدب، وكان يشتغل في دواوين الدولة الفاطمية، فلما وصل أسد الدين شيركو صلاح الدين بجيوشهم التي أرسلها نور الدين زنكي، كان حينها القاضي الفاضل هو المستشار، فأخذ بسنة التدرج بالقضاء على الدولة الفاطمية فكان المعتقدون بمعتقد الدولة الفاطمية يرون العصمة للخليفة الفاطمي الأخير، فدخلوا على خطب مصر للتحدث في العقيدة القائمة على العصمة، ثم تم الخطبة وقول (اللهم ارضى عن الخلفاء الراشدين) وكانت ممنوعة، لم تتحرر فلسطين إلا باتحاد العراق وبلاد الشام ومصر وامداد من شمال افريقيا كمقاتلين مع صلاح الدين في تلك الفترة.

 فكان القاضي الفاضل هو العقل المدبر في هذه القضايا وله فتاوى تتعلق بالشأن العام، فمثلًا لما تم الصلح بعد تحرير بيت المقدس ما بين ريتشارد قلب الأسد وبين صلاح الدين، أراد أن يحج حجة الاسلام، صلاح الدين لم يحج فاستشار القاضي الفاضل فمنعه من الذهاب إلى حجة الإسلام وقال له إذا ذهبت إلى الحج تصبح كبيرة من الكبائر.

 حجك في رفع الظلم وإقامة العدل وتحصين الحصون والحفاظ على دولة المسلمين، وكانت عقلية الفاضل بهذه النوعية.

هل نستطيع أن نطور حلًا للقضية الفلسطينية في الوقت الحاضر؟

كان في القديم العرب والأتراك والفرس مجموعين تحت راية الإسلام، من خلال العلماء والقادة السياسيين والعسكريين، الفلسطينيين وحدهم النواة لتحرير بيت المقدس، ولكن وحدهم لا يستطيعون، الأمة تستطيع أن تطور شيء لفلسطين، والفكر والنظريات تسيق الجانب العملي، وهذا دور المفكرين والعلماء وأصحاب السياسية الذين يمتلكون بعد نظر استراتيجي، وبالتالي هنا نقطة البداية، تشكيل أو الاتفاق على مشروع حضاري يرجع حق الفلسطينيين في تحرير بلادهم، فهذه نقطة أصيلة في تحرير فلسطين.

بالنسبة لموضوع صفة القرن، ما رأيك عن صفقة القرن؟

العلامة. محمد الحسن ولد الددو الشنقيطي: بالنسبة لفلسطين فهي أرض لكل المسلمين، فعندما فتحت في عهد عمر لم يوزعها بين الفاتحين، وإعادة الغنائم لأصلها (وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُم مِّن شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ) أربعة أخماس للفاتحين، لكن الأرض في العراق والشام ومنها فلسطين وأرض مصر، اتفق الصحابة على أن لا يقسموها للفاتحين فكانت بمثابة الوقف الإسلامي، ففيها مقدسات مثل مساجدها، وأعظمها المسجد الأقصى الذي هو أعظمها، فهذه لا يحل بيعها ولا التفريط فيها، لأن قاعدة الوقف (لا تباع ولا توهب ولا تورث)، فلذلك ليس لأحدٍ الحق في بيعها والتنازل عنها.

صفقة القرن أرادوا بها أن يجمعوا أموالًا من المسلمين، وأن يدفعوها لإسكات المقاومة وهذا لن يقع قدرًا ولا شرعًا، والشرع حرمه، وحرم التنازل عن هذه الأرض وحرم بيعها، والقدر أثبت أن هذا لن يكون.

 فالمقاومة ستستمر إلى يوم القيامة (وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلَىٰ يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَن يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذَابِ ۗ إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقَابِ)، نحن نتكلم هنا عن عقيدة وشرع، والعقيدة هي القدر، والقدر ما أخبر به النبي وما جاء في القرآن، فنحن نؤمن أن هذه الأرض ستبقى للمسلمين، وسيقتل فيها الدجال واليهود، وإنها ستكون هجرة بعد هجرة.

أما حكم التنازل عن هذه الأرض، حكم صفقة القرن، حكم بيع الأرض وحكم خذلان المهاجرين، وقصف البيوت وقتلهم في مدارسهم، فهذا الفعل من أكبر أنواع الطغيان، فمن وقع صفقة القرن حكمه الشرعي أنه (خائن)، وهذه صفة المنافقين، لأن من صفاتهم  (إذا اؤتمن خان).

إذا كان هناك من وقع وهو خائن، فكيف سيتعامل العلماء مع الخونة إذن؟ 

لا بد أن يعلنوا خيانتهم وأن ما فعلوه لا يلزم أحد سواهم، فالخائن لا يمثل الأمة وتوقيعه يمثل نفسه هو لأنه أهدر الكرامة. 

ما يجب على العلماء فعله لفلسطين؟

د. نور الدين الخادمي: العلماء لهم سلطة وهي سلطة الكلمة والبيان، وسلطة تقرير هذا الحق باللسان وبالعلم والفكر، وهذا الموقف من الحق الفلسطيني -وأنا أميل إلى التعبير عن الحق الفلسطيني أولى من التعبير عن القضية الفلسطينية- لأن هذا حق اعتدي عليه، سواء كان حق العودة لملايين المهجرين، وحق الأرض والمقدسات. 

هذا الحق لا ينبغي لأي عالم حر أن يقف ضده، وهذا الموقف، موقف قديم ويتجدد الآن عن طريق هيئات العلماء في العالم كله، وأيضًا عن طريق علماء فلسطين وخطباء المساجد وكل الذين يتصلون بالعلم، هم واقفون مع هذا الحق الفلسطيني، ويدافعون عنه، وينكرون على من يدعون العلم ويقومون بزيارة تطبيع أو بمحاولة لتغير هذا الموقف.

 تشاهدون كيف أن بعض وجوه الذين يزورون الكيان الغاصب يدخلون هذه الأراضي، كيف ينكر عليهم من الفلسطينيين أنفسهم، وهل الذين طبعوا مع الكيان الاسرائيلي، هل أخذوا الموافقة من العلماء؟ أم من الداخل الفلسطيني، أم من أصحاب الحق؟

لم يأخذوا هذا قطعًا، وإنما عبروا عن هذا بمواقف شاذة، الأمة بعلمائها وبجمعياتها الحية ترفض هذا الاعتداء، لا يجوز لأي عامل أن يقر ظلمًا، فما يتعلق بالحاكم يتعلق به، عليه أن يدير مشكلة التطبيع والتوقيع لوحده، وليس العلماء يتحملون هذا.

العلماء عليهم مسؤولية البيان وإنارة الرأي العام، مسؤوليتهم مشغولة دينًا أخلاقيًا وسياسيًا، ولا يجوز لهم أن يسايروا من يريد أن يبيع القضية وهذا الحق الفلسطيني، ولما صمدوا العلماء في موقف الحق الفلسطيني أو في أي حق آخر، فيه استقلال شعب واستقرار دولة ومواجهة للعدوان، والاحتلال هذا عدوان، بالإضافة إلى المنظمات العربية، لا يجوز لعالم حر أن يساند الاحتلال، سواء كان في الاستيطان أو غيره، نحن نلاحظ أن تهجير العائلات مستمر، بل أغلب علماء الأمة تقف مع هذا الحق. 

كتبتم مقالًا فيما يتعلق بالقضية الفلسطينية، هل ممكن أن توضح أكثر ما حكم السلام المؤقت مع الاحتلال الصهيوني، كيف يتعامل الفلسطينيون في هذه القضايا من ناحية فقهية؟

د. أحمد الريسوني: فلسطين لا بد عائدة إلى أهلها وأن هذا الاغتصاب سينتهي حتمًا، وهذه المسائل نؤمن بها وإشاراتها صريحة في القرآن ، نفرق بين هذا الذي يجب أن نمضي عليه عمليًا وفقًا لهذه العقيدة، فهذا مسار القضية، التدوير اليومي للحياة الفلسطينية، هذا متروك للفلسطينيين أن يقدروه، فهناك فلسطينيون في الداخل وآخرون في الخارج، وفي أراضي 48 لهم أوضاع مختلفة، يقدرون كيف يتعاملون مع ضرورات حياتهم، أما المسار العام للقضية وموقف الشريعة منه، فهو ما يتمناه الجميع بتحرير فلسطين. 

الجانب الفقهي للقضية الفلسطينية، أظن أنكم كتبتم مقالة في هذا الموضوع، هلا وضحتم رأيكم؟

د. علي القره ياغي: في اعتقادي وعلمي أن القضية الفلسطينية والحق الفلسطيني قضية الأمة، ولا يمكن أن تعالج هذه القضية من خلال شعبٍ واحد حتى إخواننا الفلسطينيون هم جزء من هذه الأمة، ولا يمكن أن تتحرر فلسطين بشعب لوحده (أنتم شرقي الأردن وهم غربية) دليل على أنه حقيقة أن الأمة في جانب وهم في جانب آخر.

 إذا كانت القضية قضية أمة، فيجب أن يكون لهذه الأمة مشروعها، فلسطين لن تتحرر بالجزئيات، تتحرر بمشروع شامل وهو تقوية الأمة، مثل ما فعل صلاح الدين عندما حكم 24 سنة تقريبًا، 20 سنة في الإعداد وتوحيد الأمة وتقويتها.

 لا بد أن ننطلق من إعداد الأمة إلى الجهاد، القوة العلمية والعسكرية والفكرية  والقوة الناعمة، فبذلك تقوية الأمة واجب، ولا يجب عليها أن تستعجل وأن تستهلك طاقاتها، يجب أن تتقوى علميًا وحضاريًا وفكريًا، حتى تكون أمة قادرة على المواجهة، فإذا تحقق هذا المشروع بصورته هذه سوف يكون طبيعيًا لوعد الله الحق، وفلسطين في اعتقادي مثل الترمومتر، إذا كانت الأمة قوية ففلسطين محررة، وإذا كانت الأمة ضعيفة ففلسطين محتلة. 

بحكم أنك عضو في مجلس الفتوى الأوروبي، كيف تعبرون في أمور الفتوى بالقضية الفلسطينية، في الدول الأوروبية، هل اللغة الإسلامية الموجودة في الشرق هي نفسها في أوروبا؟

وسؤال آخر: لما نتكلم عن القضية الفلسطينية، أهلها وحدهم الذين يناضلون، أليس من حق الفلسطينيين أن يتخذوا بعض القرارات المرحلية المؤقتة؟

د. عبد المجيد النجار: بالنسبة للمسلمين الذين يعيشون في الغرب قد يكون منطقهم في الدفاع عن القضية الفلسطينية، يختلف شيء ما عن المنطق الذي يسود في بلاد المسلمين، لأن بعض القوانين تمنعهم أن يقولوا ما يريدون أن يقولوه، ولهذا الموقف السائد هناك هو أن هذه القضية هي قضية ظلم وقضية حقوق للإنسان، شعب كامل اعتدي عليه وأخرج من دياره وانتهكت حرماته، وله الحق في تقرير المصير، فكما كان الانتصار لجميع الشعوب التي كانت مستعمرة فإنه ينبغي الانتصار لهذا الشعب الفلسطيني الذي احتل، هذا المنطق الذي يكون سائدًا هناك.

بالنسبة للسؤال الثاني: نعم، هذا من خذلان المسلمين، الكلام كثير والنفاق هو اللغة السائدة، وانتصار لقضية فلسطين في الأقوال، لكن في الأشياء الحقيقية في الدعم بجميع أنواعه لا

فحينما يأتي موسم الدعم يتخلى الكثير، الفلسطينيون رأس الحربة، ولكن ينبغي أن يكون نضالهم وكفاحهم في دائرة أوسع، وهي دائرة المسلمين. 

قضية فلسطين قضية المسلمين جميعًا، بل أنا أقول أنها قضية الإنسانية جميعًا، لأنها قضية ظلم، والظلم يجب أن يهتم به كل العالم، وعليهم أن يحسنون السياسية في استقطاب المسلمين بجميع فئاتهم.

كيف نحقق الاستفادة من تاريخ الأمة والتاريخ الانساني في قضية فلسطين؟

د. علي الصلابي: الحديث عن فلسطين وكيفية التحرير، هذا له علاقة بفقه إدارة الصراع، فعندنا تجربتين أصيلتين في هذا التاريخ، احتلال بيت المقدس في عهد السلاجقة والزنقيين والأيوبيين، هذه المرحلة لا يليق بقائد سياسي وعسكري أن لا يطلع على جهود نور الدين زنكي وصلاح الدين فيها، وعن الأدوات التي استخدمت، والسنن التي تعاملوا معها، وقراءة كتب معينة ككتاب (هكذا ظهر جيش صلاح الدين) للكيلاني، وأيضًا دراسة لكفاح الشعب الجزائري، وكيف استطاع الشعب الجزائري دحر الفرنسيين على المستوى السياسي والعسكري، فهناك يظهر فقه إدارة الصراع بين المحتل وبين الشعب الذي وقع عليه الاحتلال، فنحن في أشد الحاجة إلى هذا، لأن تحرير بيت المقدس لا يمكن أن يكون بالخطب العاطفية وإن كانت مهمة، ولن يكون بالندوات وإن كانت مهمة، وبالتالي الأمة في أشد الحاجة لإيجاد رؤية شاملة تستطيع أن تفجر الطاقات  لتحرير فلسطين.