في ظل التجاذبات المتناقضة حول مفهوم الحرية، ومع بداية عصر مادي يقدم الحرية الفردية المطلقة على كل المنظومة المجتمعية، الأمر الذي خلق مجتمعات لا تراعي حدود الآدمية، ولا تحترم عقل الإنسان وانتمائيته، بل تجعله كائنا حرا بشكل ينافي احتياجه الحقيقي، من ارتباط وثيق مع أخيه الإنسان، هذا الارتباط الذي ينبني على احترام وجود الآخر.. من هنا ندرك أن مفهوم الحرية في الإسلام يختلف عن مفهومها عند الغرب وسنتعرف على الكثير من التفاصيل من خلال الإجابات التي يطرحها دكاترتنا الأفاضل في الحلقة الرابعة والعشرين من برنامج بيان للنّاس. 

الحرية من أعظم القيم في الإسلام بعد العدالة، ما هي ضوابط الحرية في المجتمعات الاسلامية؟

د. عبد المجيد النجار: قد تكون العدالة والحرية توأمان، عندما نتحدث عن السياسة فنقصد إدارة الشأن العام، ومن أهم ما يتعلق بهذه الإدارة ممارسة شؤون الحكم والعلاقة بين الحاكم والمحكوم.

هذه الإدارة للشأن العام لا تكون إدارة مثمرة تؤدي إلى ما يريد الإنسان أن يصل إليه للحضارة والتعمير في الأرض، إلا إذا بنيت على الحرية، وبنيت على أن يشترك جميع أفراد الشعب والأمَّة أن يعطوا رأيهم في المشروع الذي يريدون فيه أن تنتظم عليه حياتهم، وأن يكون لهم رأي في انتخاب واختيار من يقوم على هذا المشروع من خلال التنفيذ.

فإذا عدمت هذه الحرية وأصبح شخص واحد أو فئة قليلة هم الذين يقررون كل شيء، فإن هذا مفسدة كبيرة في مجال التنمية والتعمير والبناء، لأنه يحدث عند عموم الأمَّة نوعًا من الانهزامية ونوعًا من الحنق والرفض، لأنهم لا يشاركون في هذا الموضوع الذي يفرض عليهم أن يطبقوه في الحياة، ولهذا فإن الحرية السياسية مبدأ أساسي في إدارة الشأن العام.

أكبر استثمار حصلنا عليه بعد الثورة التونسية، هي الحرية وهي مكسب، وكل ما عداها من الأشياء التي قد تبدو فيها اغتراب وتأثر يمكن أن يصلح أمرها إذا ما استقرت الحرية، لأن الحرية هي التي تأتي بالإبداع والحماس، والحرية تقتضي مقتضيات، كحرية التنظيم أن ينتظم الناس حينما يكونون أفرادًا ينتظمون في مجموعات، والتي هي الأحزاب السياسية من جمعيات المجتمع المدني، لتقوى إرادتهم الجماعية وليساهموا في التنمية والبناء، ولكن هذه الحرية لا ينبغي أن تكون مطلقة بغير قيود.

كلما كثر عدد الأحزاب السياسية ألا تكون إدارة الدولة أصعب والفوضى أكثر؟

لا تكون الفوضى؛ لأن المجتمع سيفرز من يبقى في الساحة والبقية الذين ليس لهم حركة سوف يطويهم التاريخ، الحرية السياسية أمر مقدر وواجب، ولكن ينضبط بأن لا تمارس هذه الحرية إلى ما يمكن أن يؤدي إلى التشويش والاضطراب، فالحرية السياسية واجبة ولكن الحرية مسؤولة. 

ما حدود الحريات الدينية في المجتمعات الإسلامية؟

العلامة. محمد الحسن ولد الددو الشنقيطي: بالنسبة للدين في أصله هو العلاقة بين العبد وربه، والانسان مفطور على الحاجة إلى الدين، ولو ولد إنسان في جزيرة وحده ولم يجد معلم وإذا عقد سيبحث عن شيء يعبده، إذا هدي إلى عبادة الله عبده، وإلا اتخذه صنمًا من دونه يعبده، فالإنسان من فطرته حاجته إلى عبادة ودين.

 وهذه الفطرة هي مقوم أساسي من مقومات البشر، ونحن لا نستطيع أن ندرك الله بأبصارنا ولا يمكن أن يكلم كل واحد منا ربه ولن يرى أحد ربه حتى يموت (وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِن وَرَاءِ حِجَابٍ)، فاحتياج إذن إلى أن يكون لنا قانون ديني نعبد به الله وحده، وشرع الله أحكامه، قد أتاح الله حرية الدين.

إذا وسع الله علينا في أمرٍ وترك لنا فيه مجالًا للاجتهاد فمعناه أن من مصلحة البشرية أن يجتهدوا فيه، ولكن سيختلفون، ولكن ذلك الاختلاف يجب أن يكون له مرجعية وهذه المرجعية إذا رجعنا لها لن نرجع قطعًا إلى السلاح والقوة، سنرجع إلى الحوار والنقاش (قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ).

 وحينئذٍ إما أن نكتشف أن الخلاف صوري لا وجود له، مثل ما حصل لدينا في الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين عندما دعونا 35 من علماء الصومال وكانوا يظنون إذا اجتمعوا فإنهم سيقتتلون، فجلسنا معهم جلستين وأجلسناهم، فكانت المحبة والألفة ولا خلاف بينهم.

الوجه الثاني إذا تبين أن هناك خلاف، فإن هذا الخلاف ينقسم إلى قسمين:

  1. خلاف محسوم: هو ما حسنه الدليل وحينئذٍ لا بد من الرجوع إليه. 
  2. خلاف غير محسوم: هذا الأمر فيه سهل، يمكن أن ترى أنك أنت على صواب وأنا ارى أنك على صواب، وكل واحد منا له دليل، ولكن لا يمكن أن يحتقر الآخر غيره، في الرأي الديني كل واحد منهم له مرجع يرجعون إلى الوحي ليحسموا الأمر.

كما قال ابن حزم عندما ذكر قضية الغناء ذكر 21 حديث وقال: (والله الذي لا إله غيره، ولو صح منها حديث واحد لقلت به).

بالنسبة للأديان والمذاهب المختلفة كيف هي الحرية بالنسبة لهم؟

الدولة تتسع لكل الديانات، ودولة المواطنة يعيش بها كل أحد وتوفر له حقوقه، كما جاء بذلك ديننا الحنيف، فالله أرسل لنا محمد صلى الله عليه وسلم وجعله أسوة لنا، والرسول لما أقام أول وثيقة حقوقية في المدينة كان لها حقوق للجميع. 

بالنسبة للحريات الشخصية هل هناك حدود معينة وأحكام لها؟

د. نور الدين خادمي: الحريات الشخصية تكون فردية وعامة، والأحكام الإسلامية تقوم على أساس الجمع بين النوعين، الحرية الفردية الخاصة، والحرية العامة، ضمن مقاربة في الوعي والتطبيق.

الحرية في الإسلام من أحكامها، حرية الاعتقاد (لا إكراه في الدين) حرية الصلاة؛ يصلي في هذا المسجد أو في ذاك المسجد، حرية الزواج والبيع والشراء، الحرية تعلقت بأحكام فيما يعرف بتحرير العبيد في وضع يوجد فيه عبيد، جاء من أحكام الإسلام تحرير هؤلاء من العبودية والرق.

 بعضُ المفسرين فسروا تفسيرًا لطيفًا، يقولون فيه أن الحرية هي الحياة وأن الحياة هي الحرية، قال: (من يقتلُ إنسانًا قتل خطأ فإنه قد أخرج هذا الانسان المقتول من دائرة الحياة والوجود، فليطالب بإعادة نفس أخرى إلى دائرة الحياة والوجود، وهذا يحصل في العبد الرقيق في وضعه وفي حاله، فإذا أخرجه من دائرة الرق فقد أخرجه من دائرة الموت ومن دائرة الاضطهاد إلى دائرة الحياة).

فالرق موت والحرية حياة، والحرية في عنوانها الأكبر-كما يقول بعض المحققين من العلماء- هي مراد الخالق سبحانه، ومصلحة للمخلوق، فالله خلق الإنسان ليكون حرًا ولا يكون عبدًا إلا لله سبحانه، وكلما كان عبدًا لله كان حرًا كريمًا.

 وقول عمر الفاروق في هذا الصدد (متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارًا)، ولذلك ارتقت الحرية الفردية والعامة ضمن نسق الوعي والتنزيل بحسب السياق والمآل إلى الدين الحنيف. 

هناك من يقول أن القرآن يقول (لا إكراه في الدين)، لكن هناك أحاديث وأحكام حول قتل المرتد، كيف نفسر هذه التساؤلات؟

 د. علي القره ياغي: المبدأ الأساسي في هذه المسألة والقاعدة الكلية فيها أن الحرية (لا إكراه في الدين)، وليس هذا خاص في الإسلام، وإنما الإسلام بمعناه الشامل، فكل الأديان كانت تقول (أَنُلْزِمُكُمُوهَا وَأَنتُمْ لَهَا كَارِهُونَ)، لا يمكن أن تكره الشخص، لأن أساس التكليف على الحرية والإرادة، فإذا لم تكون هناك حرية ليس هناك تكليف وليس هناك عقاب.

ولذلك دائمًا تكون الحرية المسؤولة، بما أن مبدأ المسؤولية على الحرية فيجب أن تكون الحرية مسؤولة، ومن هنا تثبت تلك الآيات الحرية الكريمة للناس. وهناك في بعض الأمور في كل الأنظمة قد يمنع شيء يصطدم مع النظام العام، حتى في أمريكا ليس الإنسان حرًا في كل شيء ولا في أوروبا، هناك حرية مسؤولة، لا تستطيع أن تصطدم مع النظام العام، وهناك في الإسلام وضعت قيود من دائرة الحرية المسؤولة كما أن أساس التكليف على الحرية كذلك أساس الالتزامات والحقوق الأخرى على هذه الحرية، ومن هنا قضية تغير الإنسان لدينه إلى دين آخر يأتي في هذا الإطار.

 إذا كان الشخص يغير دينه ولا يدري به أحد، فالله يتولى الباطن والناس على الظاهر، إذا كان الشخص أصبح داعية ومفسد يدخل في قضية الحرابة والفساد، إذا أصبح الشخص مفسدا وضالا ويحدث الفتن هنا يحاسب على هذه المسألة من هذا الإطار.

بعض العلماء قالوا عن هذه المسألة، أنها تدخل في إطار السياسة الشرعية، لأن الشريعة لم تضع للمرتد حدًا معينًا، بل ذكر مجموعة من الآيات تتحدث عن ردة بعض المنافقين جهارًا نهارًا، مثل عبدالله بن سلول (يقُولُونَ لَئِن رَّجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ)، مع أن الرسول لم يقتله، هذه القضية يمكن إنما قاله الرسول حتى من بدل دينه فاقتلوه، يمكن أن يدخل في قول النبي صلى الله عليه وسلم بحكم السياسية الشرعية.

لو نظرنا إلى تجربتنا التاريخية، ما المشكلة في أحكام السياسة الشرعية، وفي عهد النبي صلى الله عليه وسلم هل حصل هناك أي قتل للمرتد؟

د. علي الصلابي: بالنسبة للتنزيل في مفهوم الحريات عهد النبوة كان واضح، وحق اليهود في اختيارات متعددة، وايضًا الذين آمنوا في الصباح وكفروا في المساء لم يقتلهم النبي صلى الله عليه وسلم بنص الآيات القرآنية في ذلك المعنى.

 أنت قلت أن العدالة قبل الحرية، هذا غير صحيح. الحرية قبل العدالة، لأن الحرية صفة أصيلة في الإنسان وليس حقًا من حقوق الإنسان، اليوم تمنع الإنسان من حقه في اختيار العقيدة أو حقه في التعبير فأنت نزعت منه إنسانيته. 

وقد قال الله سبحانه (وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ)، أعطاه القدرة على التعبير عن مشاعره وأحاسيسه وعما يدور في داخله وبالتالي هي صفة أصيلة من صفات الإنسان وليست حقًا من حقوقه، (علمه البيان) تؤكد أنها صفة من صفات الإنسان.

الحراك التاريخي المتعدد والمتنوع الحرية لها كانت أسمى شيء، وأعلى مفهوم للحرية هو التوحيد، وبالتالي حققه الأنبياء فهم الأحرار الحقيقيون على هذه الأرض هم الأسياد، وبعدهم الخلفاء الراشدون.