في ثلاثينيات القرن الماضي، طرح المفكر اللبناني شكيب أرسلان سؤالا سُمي فيما بعد بسؤال النهضة، وذلك من خلال الكتاب الذي عنونه بـ "لماذا تأخّر المسلمون ولماذا تقدّم غيرهم؟" وهو السؤال الذي شغل بال كثيرٍ من المفكرين، فاتجهوا للبحث عن أسباب إخفاقات العرب والمسلمين وتراجعهم الحضاري، وعن أهم أسباب النهضة والصعود الحضاري لهذه الأمة..

قد اتجه المفكرون العرب للإجابة على هذا السؤال كلٌ بطريقته، فألفوا كتبا ومشاريعا متكاملة للإجابة عليه، فمثلا كتب فهمي جدعان "أسس التقدم عند مفكري الإسلام"، وكتب مالك بن نبي "شروط النهضة" وكتب أخرى، وكتب محمد عابد الجابري "سلسلة نقد العقد العربي"، وكتب هشام جعيط "المثقفون والعرب"، وكتب هاني نسيرة "أزمة النهضة العربية وحرب الأفكار"، وكتب محمد وقيدي وأحميدة النيفر "لماذا أخفقت النهضة العربية؟"، وكتب زكي الميلاد "عصر النهضة كيف انبثق ولماذا أخفق؟". 

كما لامست كتب أخرى سؤالَ النهضة من أوجهٍ مختلفة غير مباشرة، ككتابات أحمد أمين، طه حسين،عباس العقاد، سلامه موسى، حسن حنفي، زكي نجيب محمود، جورج طرابيشي، عبدالجواد ياسين، أبو يعرب المرزوقي، طه عبدالرحمن، طارق البشري، حسن الترابي، عزمي بشارة، لؤي صافي، برهان غليون، محمد عمارة، محمد سليم العوا، عبد الحميد أبو سليمان، عبدالكريم بكار وغيرهم كثير، وقد تنوعت الإجابات بتنوع اتجاه أصحابها، فكان منها الإسلامي وكان منها اليساري وكان منها الليبرالي.

كان يفترض أن تصل تلك المشاريع وتلك الإجابات بتنوعاتها المختلفة أو نبذة عنها إلى الشباب العربي المتطلع للنهضة، ولكن ما هي القنوات التي يمكن أن توصل تلك الإجابات وتغرس هم ذلك السؤال في أذهانهم وهم الإجابة عليه فتكون ديدنهم الدائم في نقاشاتهم واجتماعاتهم ومحورا مهما في حياتهم؟

لقد فكرت في أفضل الطرق وأجودها، ووجدت مؤسسات التعليم كونها المناخ الأجود والأفضل والأكثر انتشارا، فكيف إذا استوعبت الجامعات في منهجها ضمنا اهتمام الأجيال بسؤال النهضة؟

تمتلك الجامعات كتبا مقررة في جميع الأقسام كنوع من المتطلبات، كمادة "الثقافة الإسلامية" ومادة اللغة العربية" ورغم حسن عناوينها، إلا أن المادة المضمنة تحتاج لكثير من التجديد والمراجعة والتغيير، فمثلا بدل أن تغرق مادة "الثقافة الإسلامية" في تفصيلات تأتي متأخرة في قائمة الأولويات، أو قضايا محل الاختلاف، أو قضايا تزيد الطالب تعصبا، يمكن أن تركز أكثر - مادة الثقافة - على قسمين رئيسين، فيكون قسمها الأول حول فلسفة الإسلام المعاصرة للحياة والكون والإجابة عن أهم الأسئلة التي تطرح، بدل أن يعيش الطالب حالة صراع بين ما تقدمه النظريات الحديثة وما يراه في التصور التقليدي للإسلام الذي لم يعد منافسًا للفلسفات والنظريات الحديثة.

أما قسمها الثاني فيقدم إجابات مختصرة ومركزة على سؤال النهضة مشيرا لأهم الكتابات والمشاريع العربية المتنوعة، حيث يتعرف الطالب على مواقع التأخر والتراجع في المجالات المختلفة، فيعرف كيف ينطلق الانطلاقة الصحيحة من خلال تخصصه لسد ثغرة من تلك الثغرات، ويتمكن من الإبداع في تخصصه خدمةً لمسار النهضة في بلده وأمته، أما إن لم يشغل نفسه بسؤال النهضة فإنها سيشغل نفسه بأسئلة هي أقل أهمية وقيمة، ومن ثم يقل الإبداع أو يخفق لغياب المحرك الداخلي.

في زحمة الإجابات على "سؤال النهضة"، أقدم لكم خلاصة ما توصلت إليه بعد اطلاعي وقراءتي لبعض ما كُتِب حوله، محاولًا تقديمها للقارئ بشكل مبسط من ناحية وعملي من ناحية أخرى، فجاءت على شكل معادلة سميتها "معادلة النهضة".

تقف هذه المعادلة عند أهم المشكلات التي يعانيها الفكر العربي، وهي التقليد والاستبداد الفكري والسياسي والضعف المعرفي.

 خلاصة القول، لا يمكن لأي أمة أن تنهض دون تحقق الإبداع في كل المستويات، ولا يمكن أن يتحقق الإبداع إلا في مناخ الحرية، ولا يمكن أن تتحقق الحرية إلا بالوعي، وأول طريق إلى الوعي هو القراءة.

إذن فالمعادلة تقول: "القراءة تحقق الحرية، والحرية تحقق الإبداع والإبداع يحقق النهضة".

وبداخل هذه المعادلة كلام كثير يجيب على تساؤلات عدة، ما هي تلك المعرفة التي يمكن أن تحقق لنا الحرية؟ ما هي تلك الحرية التي ستنقلنا وتسهل لنا الإبداع؟ وكيف تتضافر الجهود الإبداعية لتشكل رافدا للنهضة؟

لا يكفي هذا المقال للإجابة على تلك الأسئلة، لكن يمكن المرور سريعا بكلمات مفتاحيّة للإجابة على الشق الأول منها، فأهم ما تحققه القراءة هو "اكتشاف الذات" والذي من خلاله نستطيع أن نوظف طاقاتنا وامكانياتنا وابداعاتنا، بدون معرفة الذات لا نستطيع أن نبدع، وقديما قال سقراط ملخصا هدف الفلسفة "اعرف نفسك بنفسك"، فالقراءة في الشعر والأدب تساعدنا على اكتشاف المشاعر والأحاسيس، والقراءة في الفكر والفلسفة تساعدنا على اكتشاف الأفكار، والمشاعر والأفكار هي من توجه سلوكنا، فإن اكتشفناها تحكمنا بها وإن لم نكتشفها تحكمت بنا..

إنّ الشاعر يلتقط المشاعر بالصور المجازية ثم يقدمها إلينا لنمسك بها، والمفكر يلتقط الفكرة ثم ينحت لها مصطلحا ويقدمها إلينا لنسمك به، وكلما زادت الصور المجازية والمصطلحات عندنا استطاع العقل أن يفكر بطريقة أعمق وأدق، لأن مساحة التفكير عنده أوسع، فنحن في الأخير نفكر من خلال الكلمات والمصطلحات التي في مخزوننا.

كلما كانت القراءة مختارة بعناية ومستمرة، كان التفكير أعمقا وأدقا وبالتالي يكون الوعي عاليا أكثر، وكلما وعينا بذاتنا انكسرت القيود الداخلية التي تقف أمامنا عائقا عن الإبداع، فتنكسر قيود الجهل التي تمنع عنا الحرية الداخلية، ثم بالوعي نناضل لاكتساب حريتنا الخارجية ممن يريد أن يغلقها باستبداده الفكري أو السياسي، فإذا صفى مناخ الحرية نبت الإبداع في شتى المجالات ووجد له من يسقيه حتى يثمر. 

الوصول للحكمة من أهم ما يسعى له البشر، والطريق السريع المؤدي لها يتمثل في القراءة والتجربة شرط أن يصحبهما التأمل، فبدونه لن يثمرا حكمة، وكم من أناس قرؤوا ولم يصلوا، وكم من أناس جربوا ولم يصلوا، التأمل أشبه بخض اللبن بعد تجميعه لإخراج زبدته، فمن لا يخض المعرفة والتجربة لا يمكن أن يخرج منها زبدتها..

إنّ الإبداع ينطلق أساسا من القراءة التخصصية في الفرع الذي اختاره الإنسان، ولكن وحدها قد تصيب صاحبها بضيق الأفق، لذا لا بد أن يصاحبها شيء من الثقافة المتنوعة، فتكون 60% من نصيب القراءة التخصصية حتى يكون خبيرا في مجاله، و40% للقراءة المتنوعة.