لعل أعظم ظاهرة وقف أمامها العلم حائرا والفلسفة عاجزة هي ظاهرة الموت، العلم يريد التجربة للبرهنة أن يعود من مات فيخبر ماذا جرى؟ أما الفلسفة فهي في أحسن أحوالها تقول الموت واحد من اثنين ـ ربما منقولة عن سقراط ـ فإما كان الموت نوما مسترسلا بدون أحلام، أو هي حياة من ضرب مختلف ـ ربما العالم الموازي ـ حيث يتشكل جسم موازي بنفس الطاقة مع تبدل شحنة الذرات، لا أحد عنده الجواب؟

الدين يأخذ هذا التحدي مأخذ الجد ويراهن على عودة أكيدة كانت جزاء ومصيرا، أليس ذلك بقادر على أن يحيي الموتى؟ ولكن المطالع للآيات القرآنية يواجه ثلاث حقائق من زخم الآيات:

الأولى محاولة القرآن الدؤوبة لحل هذه المشكلة في الضمير ومراجعة بسيطة لسورة ق نرى استعراض مدهش لإثبات العودة؛ من الطبيعة والتاريخ والضمير والملائكة الشهود، وفي النهاية تشقق الأرض عنهم سراعا ذلك حشر علينا يسير. كل منا حين يتصور جنات تجري من تحتها الأنهار يسرى عنه ألم الموت وغمته إذا دلف إلى التراب وطواه الثرى، المنام ينقلنا أحيانا لمن نحب فنجتمع معهم في لحظات حميمية دافئة، وهو ما يتكرر معي من رؤية ليلى سعيد التي عاشت معي 36 عاما ثم مضت إلى ذلك المصير الذي صدمني وحيرني وأدخلني في تفكير ذكرني بصدمة تولستوي؛ فالرجل عاش ممتلئا بالحياة حتى صدم بالظاهرة فتبدل.

الأمر الثاني هو ذكر القرآن على نحو متكرر نوعين من الموت قد لا يتفطن له قارئ القرآن؛ فهو في سورة ق يتكلم عن الموت ذلك ما كنت عنه تحيد، وهو هنا كما في الجنة لا يذوقون فيها الموت إلا الموتة الأولى، ولكن الملاحظة التي شدتني هي ذكر موت مختلف يدفع أمما إلى الزوال، وهذه هي ملاحظتي الثالثة عن ظاهرة الموت.

نحن في حياتنا العادية نعاني الموت (الفردي) ولكن لا يستطيع أحد الادعاء أنه شارك في جنازة دفن (أمة)! 

نحن نصدم بظاهرة الموت فيمن حولنا ونبكي لفراق الأعزاء وينهدم الواحد منا فيستقر في حفرة البلى ويدلف إلى مستودعات النسيان، ولكن موت (الأمم) ظاهرة لا نعرف نظيرا لها سوى صفحات التاريخ حيث أن هناك حضارات سادت ثم بادت.

ويفرق القرآن بين موت (الأفراد) وموت (الأمم) فيتكلم عن سكرة الموت حين يختفي الفرد في لجتها ذلك (ما كنتَ) عنه تحيد، أما موت (الأمم) فيستخدم له لفظ المجموع فإذاجاء(أجلهم) لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون.

وهذا يؤكد حقيقتين: موت الأفراد على نحو (بيولوجي) تذوقه كل نفس، وموت (ثقافي) تتحلل فيه الأمم على نحو تدريجي مع بقاء الأفراد، والسبب في الفرق بين الميتتين أن الأولى تتحقق بزمن قصير فيسقط الفرد في لحظة بضربة من نوبة قلبية أو صمامة رئوية أو انفجار أنورزما. 

أما موت (الأمم) فهو من نوع مختلف ولا يمكن التحقق منه إلا برؤية تاريخية، وبقدر ما أننا متأكدون من موت الأمة الفرعونية فالسؤال هل الأمة العربية في حالة موت أم سبات؟ ولولا أخبار التاريخ ما عرفنا أن قرطاجنة أحرقت وذبحت ولم ينج من سكانها نصف المليون سوى خمسين ألفا إلى الأسر، وما عرفنا أن روما نهبت بيد الوندال الهمج، أو أن مصر الفرعونية دخلت في ممتلكات أوكتافيوس الروماني عام 30 قبل الميلاد بعد انتحار كليوباترا، نحن نعرف في الطب أن هناك مؤشرات على موت المريض مثل توقف التنفس وكف القلب عن الخفقان وتسطح مخطط الدماغ الكهربي إلى مستوى السواء الصفر، ولكن هل يوجد من المؤشرات العلمية الدقيقة ما يفيد أن أمة ما مريضة على نحو خطير أو أنها ماتت وتلقفتها يد الموت مع (بقاء) الأفراد؟

وإذا كان قيام الأمم وزوالها مسجلًا بشكل تفصيلي في التاريخ إلا أن نقطة التحول الخطيرة بالنقلة من الحياة إلى الموت لا يشعر بها في الغالب عامة القوم، وإنما هي من الأسرار المحجوبة القريبة التي لا يتفطن لها إلا الآحاد من الخليقة بتعبير (ابن خلدون).

نحن نعرف أن الجسم يضم 70 مليون مليون خلية، وفي الدماغ لوحده أكثر من مائة مليار خلية عصبية، وعندما يموت (الفرد) تموت معه الخلايا بشكل تدريجي وتتحلل في القبر إلى وحداتها الأولية ولا يضيع منها شيء، فتلتحق الغازات بالسماوات العلى ويتسرب الماء إلى ما تحت الثرى وتبقى العظام وهي رميم حتى تتحول في النهاية إلى تراب في قبضة زهيدة من معادن الكالسيوم والفوسفور والحديد.

ولكن موت الأمة مختلف فهو (ثقافيًا) وليس بيولوجيًا فلا يموت الأفراد كما ماتت الخلايا بل يستمرون في التكاثر والتناسل كـ(وحدات) تشارك في بناء جسم آخر وثقافة مغايرة، نعم يستمرون في الحياة ولكن مع تغير نظام القيم وملحقاته في المجتمع وتحمل الأمة ثقافة مباينة بالجملة لما حمله الأجداد.

ينطبق هذا بشكل واضح على الحضارة الفرعونية فلا نرى اليوم مصريًا يتكلم الهيروغليفية أو يصلي لآمون أو آتون؟ أي أن الأفراد يلعبون هنا دور (الطوب) من بيت مهدم يستخدم لبناء بيت جديد.

وعندما تمتد أمم حية على حساب أمم ميتة يحصل فيها ما جاء في تعبير الإنجيل «من كان عنده زيد له ومن لم يكن عنده أُخذ منه» وتنفعنا البيولوجيا في توضيح هذا الموضوع فنحن عندما نأكل الطعام من لحم وخبز نقضمه بأسناننا ولكنه في أمعائنا يتحول إلى وحداته الأولية من الأحماض الأمينية كما لو فككنا عبارات من الكلام إلى حروفها الأولية، فتبني العضوية مركبات جديدة، كما يمكن من أصل الحروف الانطلاق إلى تركيب كلمات جديدة ومغايرة تمامًا، خذ مثلًا كلمة (كفر) فيمكن تفكيكها إلى ثلاث حروف (ف -ك- ر) وقلبها إلى (فكر).

وكذلك يحدث من وحدات الطعام فاللحم يتحول تحت عصارات المعثكلة إلى وحدات من الأحماض الأمينية ومنها يمكن بناء هورمونات الجسم، أي أن الجسم الحي يستفيد من المواد الميتة الممزقة فيبني بها نفسه، وسبحان من يخرج الحي من الميت ومخرج الميت من الحي ذلكم الله فأنى تؤفكون؟

وإذا كان قيام الأمم وزوالها مسجلًا بشكل تفصيلي في التاريخ إلا أن نقطة التحول الخطيرة بالنقلة من الحياة إلى الموت لا يشعر بها في الغالب عامة القوم، وإنما هي من الأسرار المحجوبة القريبة التي لا يتفطن لها إلا الآحاد من الخليقة بتعبير (ابن خلدون).

وعندما فاجأ قوم سبأ السيل العرم فمزقوا شر ممزق لم ينتبهوا إلى أثر (الكفر) في إحداث الكارثة، ذلك جزيناهم بما كفروا وهل نجازي إلا الكفور؟ ولكن ما هو الكفر الذي مارسوه؟ إنه سؤال يتطلب بحثًا تاريخيًا فالمسألة لم تكن ثيولوجية بل خطأ اجتماعيا فادحا ونحن لا يخطر في بالنا إلا مقولات علم الكلام ولا نتصور الأخطاء الاجتماعية؟ وبقدر دقة التحليل رجوعًا إلى الخلف في محاولة اكتشاف ظاهرة (موت الأمة) والأسباب التي قادت إلى الموت كما فعل (جيبون) مع روما بقدر صعوبة بل استحالة رؤية الموت وهو يواجه الأمم.

ولو قيل للاتحاد السوفياتي أنه سيصبح في ذمة التاريخ وهو يمتلك أسلحة تدمير الكون مرات، أو لو تم مخاطبة إمبراطور هابسبرغ عام 1914 أن حادثة الأرشيدوق في سراييفو ستقود إلى نهاية المملكة لما صدق أحد، ولكن صاعقة التاريخ لا ترحم فتأتيهم بغتة فتبهتهم فلا يستطيعون ردها ولا هم ينصرون.

وهذا المثل ينطبق على مملكة آشور قديما التي حكمت معظم الشرق الأوسط الحالي في القرن الخامس قبل الميلاد وماتت وهي في أشد تسلحها، والكارثة العارمة التي قضت عليها لم تكن نقصًا في العتاد الحربي، فآشور كانت تعتني بتطوير ترسانتها الحربية حتى لحظاتها الأخيرة والعربة الحربية التي كانت مدرعات ذلك العصر هي نتاج آشوري، ولكن الموت جاءها من حيث أرادت القوة فأهلكتها النزعة الحربية فماتت (مختنقة في الدرع) حسب تعبير توينبي. 

مملكة آشور 

وفي مراقبتنا لأي جهاز مثل الكرسي أو الكمبيوتر أو أفعى البوا نصل إلى ملاحظة جوهرية في علاقة (الاسم) بـ(الشكل) و(الوظيفة)، فالكرسي مكون من التحام مجموعة من القطع تعطيه اسم الكرسي ويؤدي دورا محدودا في الجلوس. وبالارتقاء من هذا النموذج إلى الكمبيوتر يزداد الشكل بساطة والوظيفة تعقيدا، فلا يزيد الكمبيوتر عن علبة مغلقة من الصفيح، أما في الأفعى فكل خلية من جسمها معجزة، وإذا قمنا بتفكيك قطع الكرسي عن بعضها ضاع الشكل وتعطلت الوظيفة ولو كانت المواد الأولية موجودة، وهي في الكمبيوتر معقدة درجات، وبالصعود إلى مستوى الخلية تصبح الوظيفة أشد حساسية وأكثر هشاشة وأقصر زمنًا فالحياة تنطفئ في لحظات، كما تتوقف كل حركة في السيارة مع زوال الكهرباء. وفي البدن الميت يبقى الشكل لفترة طويلة مع أنه فاقد الحياة وحسب الطب الشرعي فقد يحتاج الجسم ستة أشهر قبل أن يتحول إلى هيكل عظمي.

أما قطع الكرسي أو جهاز الكمبيوتر فسهل تركيبها سهل فكها عكس الحياة فسهل تدميرها ومستحيل إعادة صنعها ولكن الكرسي والكمبيوتر والخلية تشترك في موضوع واحد هو أن بعثرة الأجزاء لا يعني الجهاز أو الكائن، و(مجموع) قطع الشيء لا يعني الشيء و(قطع) الكرسي لا تجعله كرسيا. ومجموع القطع لا يساوي وظيفتها أو يخلقها مثل الأرقام بدون علاقات، ورصف كتل من الحجر لا يجعل منها هرما أو بيتا. واختلاف شيء عن آخر يرجع إلى طبيعة التركيب الهندسي الداخلي، والسكر والفحم والألماس تحوي نفس الذرات من الكربون ولكن طبيعة تراكب وعلاقات ذرات الكربون داخل البناء الذري هو الذي يمنح السكر الحلاوة والفحم السواد والاتساخ والألماس التألق والتوهج والمضاء، وعندما وصل كيكول إلى صيغة الحلقة البنزينية لم تأته إلا في المنام على شكل أفعى تلتهم ذنبها.
وعندما تموت الأمم تفقد وظيفتها وتحافظ على شكلها حتى حين، سنة الله في خلقه،{لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ إِذَا جَآءَ أَجَلُهُمْ فَلاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ }، {وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ قُلْ إِي وَرَبِّيۤ إِنَّهُ لَحَقٌّ وَمَآ أَنتُمْ بِمُعْجِزِينَ}.