الفقه الدستوري يعني العلم بالدستور ضمن موضوع القانون، والفقه الإسلامي يعني العلم بالأحكام الإسلامية، أما إن تحدثنا عن موطن البداية سنجد أن الفقه الدستوري كان مؤسسا من قبل النبي -صلى الله عليه وسلم- فيما يُعرف بدستور المدينة، وقد غُيب الفقه الدستوري من الأنظمة الاستبدادية والأنظمة العسكرية التي حرمت الشعوب من مطالبها العامة ومن الوصول إلى دولة الدستور.

تأصيل معاصر للفقه الدستوري

هل أصل العلماء للفقه الدستوري في الكتب المعاصرة؟
د. علي الصلابي:
الوثائق الدستورية المشهورة؛ هي وثيقة المدينة، وخطبة سيدنا أبي بكر الصديق  تعد وثيقة دستورية عندما قال: "إني وليتُ عليكم فلستُ بخيركم، فإن أسأت فنبهوني، والصدق أمانة والكذب خيانة"، وكذلك خطبة سيدنا عمر لما تولى الُحكم وجه الأمة في توجيهات، تعد من الوثائق الدستورية، وكذلك عثمان وعليّ في علاقتهم بالدستور بين الحاكم والمحكوم، والصلح الذي تم بين الحسن بن علي ومعاوية، يعتبر من الوثائق الدستورية من حيثُ المرجعية.

ووثيقة المدينة تعتبر من المضامين والقيم التي بقيت حتى يومنا هذا؛ لأنها قامت على العدل والمساواة والحرية، حتى الفتوحات الإسلامية الّتي حدثت في بلاد الشام وفي أفريقيا والعراق وبلاد فارس، كانت المرجعية مع تلك الشعوب -والتي أصبحت جزءًا من الدولة الإسلامية-.
الوثيقة الدستورية نعم المُلهم للقيادات في تلك الفترة، فمن حيثُ التأصيل ووجود الدستور والمكونات الاجتماعية، تعتبر القاعدة الدستورية والمتينة هي قاعدة دستور المدينة المنورة، ففي هذا الدستور نجد أن النبي نقلهم من القرية إلى المدينة "إِنَّ هَٰذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ"، والدمج بين الأوس والخزرج، فجاءت تلك الوثيقة بالمفهوم السياسي، فوثيقة المدينة ضمنت حقوق الإنسان والحريات والتعايش السلمي، فكثير من الناس لربما يقول لا نحتاج إلى الدستور بل نحتاج إلى السنة، تلك الوثيقة وضعها النبي -صلى الله عليه وسلم-، وهي جزء من السنة، ومعالمها استمدت من القرآن، فالفكر الدستوري في العلاقة بين الحاكم والمحكوم هو فكر أصيل في تنظيم العلاقة بينهم.

هل يناقض الدستور الشريعةَ؟ 

كيف نجمع بين الشريعة والدساتير المعاصرة؟ وهل الدستور المعاصر كله مخالف للشريعة، وإذا كان كذلك لماذا لم يكتب الفقهاء الدساتير، أو إذا كان ليس كذلك، لماذا الشباب يخالفونها؟
د. عبد المجيد النجار:
ينبغي أن نحدد مفهومًا للشريعة؛ لأن هناك لبس في هذا الموضوع، والبعض بجهلٍ أو بمكرٍ، يريد أن يحصر الشريعة في العقوبات والحدود، ولكن في الحقيقة الشريعة ليست كذلك، وتلك العقوبات جزء من الشريعة، فكل ما يتعلق بالمعاملات سواء بين الحاكم والمحكوم أو بين الناس؛ هو شريعة، فحقوق الإنسان شريعة وكرامته شريعة، والشورى والديمقراطية والتكافل الاجتماعي شريعة، والدستور -بالمعنى الحديث- هو قانون أعلى يحدد العلاقات بين أفراد المجتمع والحكام.
 فالدستور يجب أن نأخذه في الفكر الإسلامي وأن ننطلق به قاعدةً في قضية الدولة وإدارتها، وندخل الأحكام الشرعية ضمن الدستور الكلي، وحينما نسطر في الدستور طريقة الحُكم  وطريقة انتقال الحكم من شخص إلى شخص وحينما نربط العلاقات بين الأشخاص على أساس الحرية وعلى أساس التشاور؛ فإننا نكونُ في صميم الشريعة، ونحنُ عندنا تجرِبة عملية عشناها عندما كنا مشاركين في وضع الدستور في تونس وأثيرت قضية الشريعة ومكانتها في الدستور، وجاء بعضُ الناس يطالبون أن يكون الدستور مبنيا على الشريعة وأصبحت هناك فوضى، حتى قلنا:


إذا كان هذا الدستور يضمن طريقة شورية وديمقراطية والتشاور في طريقة الحكم والتكافل والحقوق والحريات والكرامة؛ فإنه دستور يقوم على شريعة، وما بقي من التفاصيل الجزئية فيما يتعلق بالجنايات والحقوق؛ فتبقى مجالا للاجتهادات بحسب الواقع وتنزيلها للواقع.

إذن فإن الدستور بمفهومه الجديد في الدولة الحديثة والذي يعود إلى دستور المدينة، لا يتناقض هذا كله مع الشريعة، وإنما يمكن أن نقيم هذا الدستور على أحكام الشريعة فيما هو معلوم بالدستور، وفيما هو قابل للاجتهاد في الفهم أو التنزيل، وندرجه على هذا النحو من الاجتهادات، حتى يكون الدستور قائمًا على الشريعة بهذا المعنى.

القانون الأعلى المقدم على الاتفاقات الدولية 

المواثيق الدولية تفرض علينا أشياء جديدة من خلال بعض مؤسسات مخالفة لثقافتنا المحلية، فكيف سنبقى في هذه المؤسسات الدولية وبدستور محلي؟

د. نورالدين الخادمي: بالنسبة للدستور الوطني فهو مرجعية وطنية، والمواثيق الدولية مرجعية دولية، فالتساؤل المتعلق بهذين المرجعيتين؛ كيف يمكن أن نحقق التقارب أو التباعد، ونحنُ نأمل أن يكون التقارب مبنيا على طبيعة المرجعيتين بضوابط السيادة الوطنية والشريعة الإسلامية وحقوق الإنسان، فكيف يمكننا أن نحدث التقارب بين المرجعيتين، المرجعية الدستورية هي القانون الأعلى وهو يتضمن المرجعية الإسلامية بالنسبة للدول الإسلامية، وعندنا في تونس الفصل الأول في الدستور الوطني؛ ينصُ على الإسلام، وهذا الفصل لا ينبغي أن تتقدم عليه اتفاقية دولية تُعارضُ هذا الإسلام أو الإرادة الشعبية، فإذن؛ النص الأول هو الدستور الأعلى مقدم على الاتفاقيات الدولية، ونحنُ هنا أمام ثلاثة اتجاهات:

  1. الذي يقول بالتماهي بين المرجعيتين، الوطنية والدولية.
  2. اتجاه يقوم بالتنازع والتدابر والانفصال بين المرجعيتين.
  3. اتجاه التوثيق بين المرجعيتين، (وهذا ما نميل إليه).

الاتفاقية الدولية لا ينبغي أن تعارض الدستور في الإسلام أو في الإرادة الشعبية، مثل ما قيل في قضية حقوق المساواة المطلقة بين الرجل والمرأة في موضوع الأحوال الشخصية وفي الميراث على وجه التحديد، هذا الأمر الدولي اعتبرناه في بلادنا مخالفًا للدستور وللخصوصية الثقافية والعرف الاجتماعي، واعتبرناه مخالفًا للفصل الأول من الدستور التونسي، وقلنا بأن الأحوال الشخصية التونسية، جديرة بأن تسير نفسها بحسب هويتها الإسلامية، وكذلك قضية النوع الاجتماعي الذي هو موجود الآن باعتباره أمرًا دوليًا، ولكن العديد من الدول متحفظة على هذا.


الحلقة الخامسة| لماذا تخلفت الأمة عن الفقه الدستوري؟  

وهناك اتفاقيات دولية أخرى لا تضرنا، اتفاقيات تتعلق بالصحة أو الأمن أو منع التسلح أو توازن البيئة، فكل ما هو موافق للدساتير الوطنية لا غبار عليه، بل هذا مقتضى العيش الدولي والإنساني، ينبغي نحنُ معشر الدول الإسلامية بدساتيرنا الوطنية وبمرجعيتنا الإسلامية؛ أن نتواصل مع العالم.

فشأن الشريعة هو شأن عالمي أيضًا؛ لأن الشريعة عالمية وتُعرِف بنفسها وتتحاور مع غيرها وتنافس غيرها منافسة علمية وحضارية وسياسية، من أجل أن تعرِف بمنتوجها وقضيتها، وهذا حق للمسلمين كما هو حقٌ لغيرنا.فنحنُ معنيون بالفضاء الدولي والمؤسسات الدولية؛ أن نعرف الشريعة في عمقها وأبعادها في حدود الدساتير الوطنية، ويمكن أن نتحدث عن أقدار عالية من التأليف والتوفيق من خلال جهد فقهاء الدستور والشريعة.


السياسة من القضايا التعاملية أم التعبدية؟

 هناك مقولة معروفة لدى الشباب "القرآن دستورنا"، هذا المفهوم في بعض الأحيان أدى إلى إلغاء الدستور المطبق في البلد في أذهان الشباب وأدى إلى موقف سلبي، مع أن بعض الدساتير الموجودة لا تعارض الإسلام، فكيف بنا أن نعالج هذه المشكلة؟

د. علي القره ياغي: هذه المقولة لو أدخلناها في مفهومها العميق، لا تتعارض مع قولها، لأن القرآن نفسه تضمن أمرين أساسيين في قضايا العلاقات السياسية، الأمر الأول؛ القضايا السياسية ليست من القضايا التعبدية الّتي لا يجوز فيها الاجتهاد أو أنها غير معقولة المعنى، وإنما هي قضايا من القضايا التعاملية والحقوقية، فالأصل فيها الإباحة، فالقرآن والنصوص الشرعية تدلُ على ذلك.


 لما نقول القرآن دستورنا؛ أي في مبادئه وقواعده العامة وقواعده الكلية التي هي قطعية الدِلالة وقطعية الوصول، وهذا القرآن أجاز لنا الاجتهاد في غير ذلك.

وإمام الحرمين تكلم وقال فيما سوى المبادئ العامة والقواعد الأساسية: إن القضايا السياسية وهي عن القطعيات العلية، مبادئ عامة وما عدا ذلك فهي اجتهاد، وحتى لو وجدت النصوص الظنية، فإن هذه النصوص قابلة للاجتهاد، فالسلف اجتهدوا في هذا النص ويمكن لنا أن نجتهد بأسلوب آخر، ما دام الاجتهاد آتٍ من أهله.
وهناك قاعدة تكمل هذه المسألة؛ أن قضية السياسة قائمة على نظرية العقد الاجتماعي والتعاقد، وقد فهم ذلك بعض الصحابة، فأبو مسلم الخولاني لما جاء إلى سيدنا معاوية، قال: مرحبًا بك أيها الأجير، وكررها ثلاث مرات، أي أن العقد بيني وبينك كخليفة هو عقد الإجارة، وإن عقد الإمامة وكالة بالأجل، وعقد الوكالة دائمًا الموكل يكون فيه أقوى.


ما تعليقك على المسألة السابقة (القرآن دستورنا)؟

د. أحمد الريسوني: أحب أن أذكر بقاعدة أصولية وقاعدة عامة تحكم هذا الموضوع ومنها قضية الدستور، هل هو متعارض مبدئيًا أم متواجد بتفاصيله مع الشريعة وهي؛ أن كل ما لم ينص عليه بشكل مباشر وصريح فهو مباح وهو محلٌ للاجتهاد والتطوير والتأقلم مع الاحتياجات.
فالدستور ضرورة ملحة، فعمر بن عبد العزيز اشتهرت عنه قاعدة: "تحدث للناس أقضية بقدر ما تحدث من فجور"، فإذا كان الناس منسجمين وصالحين لربما لا يحتاجون إلى دستور، يرجعون إلى القرآن فيحلون مشاكلهم، لكن حينما تكثر المشاكل والاعتداءات والتجاوزات من الحاكم والمحكوم، لا بد حينها من الدستور ويصبح الدستور واجبًا شرعًا، وكل شيء نظمه الدستور بما لا يلغي نصًا شرعيًا فهو من الشرع.

كما قال ابن القيم: "كل ما يؤدي إلى إقامة العدل والإحسان والصلاح فهو من الشريعة وإن لم ترد به الشريعة."

ويقول الفقيه الحنبلي ابن عقيل:"السياسة الشرعية هي ما يكون الناس معها أقرب إلى الصلاح وأبعد عن الفساد، وإن لم ترد في القرآن والسنة".
كل ما يجلب المصالح الحقيقية ويدرأ المفاسد الحقيقية فهو من الشريعة، وكل ما تنص عليه الدساتير بكل ما نحتاجه فهو من الشريعة، ما دام لا يلغي شيئًا من الشريعة ولا ينص على إلغاء شيء منها، فهو من الشريعة، فالدساتير والقوانين غير المنافية من الشريعة.