تضمن مقاصد الشريعة حياة آمنة للمسلمين، فهي تحفظ له نفسه وماله وعيشه في الدنيا، لذلك وجب على المسلم أن يفهم هاته المقاصد ويحاول إسقاطها في مختلف شؤون حياته بالشكل الصحيح،ويلزم بمختلف ما تفرضه الشريعة من واجبات فردية تحفظ سير المجتمع الإسلامي، من خلال رحلتنا هاته سنعرف كيف يستفيد المسلم من مقاصد الشريعة في مختلف مجالات حياته.
سيجيبنا دكاترتنا الأفاضل من خلال هاته الحلقة على تساؤلات عدة تتعلق بمقاصد الشريعة وعن كيفية توظيفها في مختلف المجالات الحيوية.

كيف يكون المال وسيلة للنهوض؟ 

المال عصب الدولة، كيف نستفيد من علم المقاصد في الأمور المالية للدولة ؟!

 د. علي القرة ياغي: لا يمكن أن يقوم المجتمع والدولة من دون المال، ولكن كيف يمكن أن يكون هذا المال هو وسيلة للنهوض؟
إنما يمكن أن يكون وسيلة للنهوض إذا كانت مقاصده، وأهم مقاصد المال هو الحفاظ على المال من حيثُ الوجود والبقاء، والمال يكون وسيلة للتنمية متى ما رُبط  بمقاصده، من خلال استثمار هذه الأموال وتحقيق أهدافه، ومن خلال توجيه هذه الأموال إلى ما يحوله لتنمية كبيرة، ثُم يربط بالمال بقية المقاصد، فليس مقصد المال بمنأى عن بقية المقاصد للحفاظ على النفس والعرض والنسل، وكذلك أمن المجتمع والنفس وبقية المقاصد.
 فالمال في دولة الإسلام يجب أن يوجه إلى تحقيق هذه المقاصد، بالإضافة إلى مرحلة الحفظ والتنمية والتطوير والقوة الكاملة، حتى تكون الدولة الحديثة على مستوى بقية المجتمعات، اليوم الدول الحديثة تنفق على مستوى التعليم ما يصل إلى 22%، وفي اسرائيل تصل إلى 8%، وفي العالم العربي تصل إلى 1%، وفي قطر بحدود 3%، فيجب أن يوجه المال إلى تنمية العلم وتنمية التقنيات وتنمية العقول والصناعات والزراعة، هكذا تكون الدولة الحديثة إذا ما طبقت تلك المقاصد.
 والمهم من ذلك حماية هذه الأموال من الفساد، فأخطر شيء في الدول العربية ليس المال بوجهه العام، وإنما كيفية توجيه هذا المال، وكيفية الحفاظ على هذه الأموال ووقايتها من الفساد المالي والإداري والاجتماعي، فمقاصد المال كثيرة جدًا ويجبُ على دولة الإسلام أن تتجه إلى تحقيقها، حينئذ تتحقق (وأعدّوا لهم ما استطعتم من قوّة).  

المقاصد خارطة الطريق للرشد السياسي 

كيف نستفيد من علم المقاصد في العلوم السياسية  وإدارة الدولة؟

د. أحمد الريسوني: المقاصد تتضمن كليات الشريعة، المقاصد تعطي كليات السياسة القضايا الكبرى، فإن السياسي لا بد له من المقاصد، فالمقاصد تعطي خارطة الطريق لمن أراد أن يراعيها ويلتزم بها، وضمن هذه الخارطة يضع برامجه، ويكون على هدى من الله.
ومن الأجزاء المهمة  في خارطة الطريق الضروريات الخمسة، ويقول بعض علماء المقاصد: (لو أن حكامنا وضعوا  في نصب أعينهم هذه الضروريات واحترموها لكانوا على قدر كبير من الصلاح والرشد السياسي).

نعرف تجرِبة رائدة تستحق أن نُشيد بها وننوه لها، وهي الدولة الماليزية التي منذ سنوات وهي في ظل عدة حكومات يطبقون معيار المقاصد التي هي على وفاق الإسلام، فيجب أن نعرف ما هي المقاصد ومقتضاها في السياسة الخارجية والأمنية والإعلام.


 وفي تونس عدد من المفكرين والسياسيين اعتبروا أن أهم مقصد جاءت به الثورة التونسية؛ الحرية، فهذا هو المكتسب النفيس الذي يجب المحافظة عليه ولو بتأجيل مقاصد أخرى، فقضية الحرية قضية أساسية ومركزية، فالمحافظة على الحرية هي ضمان المستقبل، أما إذا تضاربت وتعارضت المصلحة بين الحرية والاقتصاد، فالحرية قيمة كلية للسياسة والمجتمع، فتقدم قيمة الحُرية على عددٍ من القيم الأخرى والمصالح الاقتصادية والسياسية والمكاسب الاجتماعية، فيمكن أن نتساهل بهذا كله من أجل الحرية، كحرية المبادرة وحرية الرأي والمشاركة للجميع، هذه الحريات التي نفتقدها افتقادًا تامًا في العديد من المجتمعات.   

المقاصد والدوائر الثلاثة للتكافل الاجتماعي 

كيف نستفيد من علم المقاصد في الأمور الاجتماعية؟

د. عبد المجيد النجار: المقصد الأسمى للشأن الاجتماعي، هو مقصد التكافل الاجتماعي أن يكفل أفراد المجتمع وهيئات المجتمع بعضهم بعضًا، حتى لا يبقى فقير ولا محتاج، يرتقي هذا المبدأ إلى أن يكون مفردة من مفردات الإيمان، ففي حديث النبي -صلى الله عليه وسلم-: (ليس بمؤمن من بات شبعانا وجاره جائع)، وحينما نقرأ السور التي جاءت تأسس التوحيد، فإنه كثر جدًا ما يذكر التوحيد إلا ويذكر معه مشهد من مشاهد التكافل الاجتماعي، (أرأيت الذي يكذبُ بالدين فذلك الذي يدع اليتيم..)
 فالتكافل الاجتماعي مقصد عظيم من مقاصد الشريعة، ومن التحوطات الإجرائية في أن يتم هذا التكافل الاجتماعي أن جعل ليتحقق في دوائر ثلاثة إذا لم يتحقق في الأولى يتحقق في الثانية أو الثالثة، فالدائرة الأولى؛ التكافل الأسري، والدائرة الثانية؛  دائرة المجتمع ليكفل بعضه بعضًا، فإذا لم يتحقق هذا كله فهناك دائرة الدولة؛ وهي أن تقوم الدولة بكفالة من يحتاج إلى الكفالة المادية والمعنوية، فهذا مقصد عظيم وهو المقصد الأعلى فيما يتعلق بالتكافل الاجتماعي، ومع الأسف أننا نجد هذا المعنى غاب من دول الإسلام، وكأنه أصبح من هوامش الدين، ولذلك ينبغي في الفكر الحديث أن نعطي أهمية كبيرة لهذا التكافل، وأن نتجه به نحو المؤسسات التي تقوم بهذا المقصد، ولكن إذا تضارب مقصد الأمن الاجتماعي مع التكافل الاجتماعي، فيجب أن يتعامل الفقيه أو غيره بالموازنة في تقديم البعض وتأخير الآخر، بحسب الظروف والأحوال والملابسات، يقعُ التفكير، وهناك قواعد أصولية ومقاصدية تستعمل في التقديم والتأخير، كفقه الموازنات.   

مع استقرار المصلحة الشرعية.. من يُعنى بكيفيات تحقيقها؟ 

كيف نستفيد من مقاصد الشريعة في مصلحة العامة؟
د. نور الدين الخادمي:
سؤال جدّي يحتاج إلى دقيق عالٍ من النظر، المصلحة الشرعية مستقرة في الدراسات والسنة، ولكن كيف تتحول هذه المصلحة الشرعية في الدولة، لتكون في حفظ النفس من خلال الفرد والجنس، فالدولة الحديثة معنية بالكيفيات، وهي مجموع ما تحققه النظرة الشرعية، التي تحقق إنجازا وعملا في إطار النظم وتدخُل المتخصصين والشركاء في المصلحة الشرعية التي يحددها الفقهاء والعلماء، فمصلحة الغذاء هي مصلحة شرعية  باعتبار أن الشرع جاء لحفظ غذاء الإنسان، ولكن الذي يحددها علماء التغذية وخبراؤها وبرامج التغذية بالدولة، من خلال الأمن المائي والغذائي، وحفظ التعليم، كل هذه مصالح شرعية جاءت من خلال تقويم النفس والحرية وغيرها، نتحدث مثلًا عن حاجيات الدولة مثل الحاجيات السياسية أو الأمنية، فحاجيات الأفراد هي جزء من الحاجيات الأساسية.  
                                                                                      

مع تضخم أدوارها.. ما حدود الدولة الحديثة؟  

ما هي حدود الدولة الحديثة حتى لا تطغى وهي في طريقها إلى المقاصد الشرعية؟
 د. عبد المجيد النجار:
تضخم دور الدولة الحديثة على حساب دور المجتمع، وأصبح الناس يتكئون على الدولة في تحقيق مقاصد التنمية والاقتصاد والنمو، وهي أيضًا تدعي أنها ستحقق هذه المقاصد، حتى استعملت الاستبداد في قمع الشعوب.
والحقيقة أن الفكر الإسلامي هو خلاف هذا، فالخطاب الإسلامي يدعو الناس إلى البناء والحضارة، فالإسلام يكلف الدولة بمهام الناس وتوفير الأسباب التي تمكن الشعب والمجتمع من القيام بدوره، فالنهضة الحضارية صنعها المجتمع الإسلامي عبر وسائل مهمة جدًا من خلال منهج وسيلة الزكاة والأوقاف وغيرها، فقد كان التعليم في أيدي الشعب وكذلك الصحة والمستشفيات، وكذلك الاقتصاد بصفة عامة، والدولة هي القطار الذي يوفر الأسباب ليحدث هذا من خلال الحفاظ على الأمن الداخلي والخارجي.