في زمن المعلومات أين اكتسبت هذه الأخيرة أشكالًا عدة، وكانت حافزا للإنسان ليطوِّر من أجل إيصالها وتناقلها وفق وسائل عدة، وقد تسبب ذلك في خلق ثورة وعصر جديد يختلف عن غيره من العصور، ولعل أهم المجالات التي نالها الحظ الأوفر من التنويع والتطوير هو مجال الإعلام، فقد أصبح هذا الأخير يشكل كوكبا فيه الصالح وفيه الطالح، صار سلطة تتحكم في مصائر دول وشعوب بأكملها، ووسط كل ذلك يقف الفرد المسلم في زاوية قريبة محفوفة بالحذر والحرص، فالوقوع في فخ الإعلام قد يسبب له تضليلا وانحيازا لم يكن في الحسبان.
لماذا «العصر» هي الدستور العظيم للإعلام؟
هل هناك تأصيل قرآني فيما يتعلق بالإعلام، وكيف نؤصل أهمية الإعلام في القرآن؟
د. علي الصلابي: الإنسان يحب أن يعبر عن آرائه وأفكاره، وبالتالي يبحث عن وسائل تحقق له هذا الهدف، فالله بين لنا في القرآن أهمية الأحداث كمدخل إلى قلوب الناس، (وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا* وَلَا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا)، فالجدل مع الأعداء والشبهات والرد عليها من الوسائل التي استخدمها القرآن في تحقيق الهدف السامي من مقصد الإعلام في توصيل الرسالة.
فالمشهد السامي في عهد النبي -صلى الله عليه وسلم- كحادثة الإفك، ثم نزول الآيات القرآنية، وفي صلح الحديبية عند خروج خبر مقتل سيدنا عثمان عندما أرسله الرسول للمفاوضات، حتى وصل هذا الخبر لكل الأفراد الموجودين داخل مكة، وطبيعة الأحداث وحسن التعامل معها سواء كانت اجتماعية أو عسكرية، من الوسائل المهمة في توصيل الرسالة.
بعض العلماء قالوا أن الإعلام ينطلق من كونه يبنى على العلم والاهتمام بالعمل الصالح، وقد استنبطوا هذا من قول الله (والعَصِر إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصالحات وتواصَوا بالحق وتواصوا بالصبر)، فقال العلماء إن هذه الآيات تصلح أن تكون دستورا عظيما للإعلام، الدعوة بالحكمة تعطي قوة إعلامية هائلة في نشر الحق، والجدال بالتي هي أحسن، الوسائل الإعلامية عند النبي كانت متنوعة فقد استقبل الناس في بيعة العقبة، والهجرة أيضًا كانت ضجة إعلامية عظيمة.
متى يتحول الإعلام إلى «تضليل شيطاني»؟
كيف نميز بين الإعلام الأخلاقي الهادف وبين الإعلام الآخر؟ وكيف نحافظ على أنفسنا؟ ونطور إعلاما متميزا؟
د. أحمد الريسوني: الوظيفة الإعلامية يجب أن تكون حاكمة، ونتساءل: لماذا أنشئ هذا الإعلام، ولماذا نرحب بهذا الإعلام؟
الإعلام هو أن يعلمك الشخص بما ليس لك به علم، وهذا موجود في قصة الهدهد في القرآن (فَقَالَ أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِن سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ)، النبي سليمان كان بحاجة إلى الإعلام، وأهم شيء به أن يكون الخبر يقينًا، ومع ذلك قال سيدنا سليمان (..سَنَنظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنتَ مِنَ الْكَاذِبِين)، قضية الصدق في الإعلام هو العنصر الأخلاقي الذي لا هوادةً فيه، ومن دونه يتحول الإعلام إلى تضليل شيطاني.
فكيف إذن سنحافظ على قيمنا في المسارات المختلفة من الإعلام؟
الإعلام أخبار من الدرجة الأولى، ماذا نريد بهذا الإعلام، فهو بمعناه الثقافي يمكن أن يكون حلالًا أو حرامًا، بحسب المقاصد التي نستخدمه فيه، وحتى كثير من الفقهاء -قديمًا وحديثًا- عندما يتحدثون عن حكم الغناء أو الموسيقى، كثير منهم ينطلقون في التحريم والتحليل من الأهداف التي تنبع من هذا العمل الفني أو الأدبي، فإذا كان غرضه تنمية الأخلاق والمبادئ وتنمية السلوك الاجتماعي وترقيته وترشيده؛ يكونُ حلالًا، وإذا كان غرضه التضليل واللهو؛ يكون حرامًا، فإذن عنصر المقاصد يكون محددًا لطبيعة هذا العمل، فالأمور تكون بمقاصدها ومآلاتها.
«النضال الإلكتروني» بديلًا!
كيف نستفيد ونحافظ على أنفسنا من الإعلام الجديد، ونستخدمه بالطريقة الصحيحة؟
د. نور الدين الخادمي: يستهوي الإعلام الجديد شباب اليوم، بالإضافة إلى اهتمامات علمية وشخصية، ويهتم بالفضاء الافتراضي كفيس بوك وغيره، ويهتم بنوافذ تملك المعلومة السريعة الضخمة وبأثر كبير من جهة المصالح والمفاسد، لذلك نتحدث عن استخدام رشيد واستخدام ذكي، والذكاء هو أن يكيف الشخص نفسه بحسب خصوصيته ومصلحته وما يتعلق بإنسانيته، فالاستخدام الراشد لهذه الفضاءات والوسائل الحديثة يتعلق بالزمن الافتراضي والمضمون والمحتوى وبتبادل مفردات الثورة.
ونحنُ نعلم في بلادنا العربية والإسلامية كان لمواقع التواصل الاجتماعي أثر كبير في محاربة الاستبداد وفضح سياسات الاضطهاد والاحتلال، ومحاربة القرارات الفاسدة في النضال الإلكتروني؛ لأن هذه المِنصات أصبحت بديلًا عن الإعلام الرسمي الّذي يُمجدُ الحاكم المستبد والسياسة الفاسدة، هذا الاستخدام يكون أيضًا على مستوى التواصل الاجتماعي، ولا ينبغي أن يكون هذا التواصل بديلًا عن التواصل الاجتماعي الحقيقي بزيارة حقيقية وتفاعلية فيها الذاكرة والعون وواجب المواساة.
وهذا الافتراض لا ينبغي أن يكون بديلًا عن الكتاب الحقيقي وعن الشيخ المدرس الحقيقي، ولذلك الكتاب بملامسته ومعرفته يظل ملمسا للمعرفة، وهذا للمسلمين وكافة الناس، وتظل هذه الأمور بحقيقتها وبجدواها وليس افتراضًا.
ولو تساءلنا: ألا يمكن أن يكون الإعلام الجديد مضللًا في نفس الوقت؟
لأجل هذا جاءت عبارة "الذباب الإلكتروني"، في معنىً من معانيها وهي التشويه للمصادر الحقيقية بمعلومة فيها تضليل، ولذلك يقال بأن الأنترنت ونوافذه إنما هو سلاح ذو حدين، يمكن استخدامه في الثورة وفي البناء الوطني وتحقيق الاستقلال، ويمكن أن يتم استخدامه في تكريس الاستبداد.. استباق الخير الافتراضي يكون في بناء وطن مستقل وتحقيق تعايش لجميع البشر، مع تداول الشأن الإنساني في حقوقه بالسلم والعدل".
«وجاهدهُم به» بالمقاصد دون مخالفة الأصول
هل تعتقدون أن اتحاد العلماء المسلمين يستخدم الإعلام الجديد كثيرًا؟
د. علي القرة ياغي: الله سمى الإعلام بالجهاد الإعلامي (وجاهدهُم به)؛ أي بنشر الجهاد والإعلام به، وأن الإعلام مربوط بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، بما تعرفه العقول المستقيمة والفطرة الصحيحة، الاتحاد العالمي من يوم أن أنشئ اتجه نحو الإعلام بكل وسائله، الوسائل التقليدية والمعاصرة بمواقعنا المختلفة، ونحنُ نؤمن بأن الإعلام من أهم الوسائل للدعوة إلى الله ولتحقيق المعروف ونهي المنكر.
وإن تساءلت وقلت: كيف ننشر قيم الإعلام الإسلامي في المسلسلات وغيرها، فهناك من يقول أن الفقهاء يقيدون الشباب؟
شاركنا في بعض الفتاوى المتعلقة ببعض الأفلام والمسلسلات، كمسلسل سيدنا عمر ومسلسل الحسين، ووضعنا أمورا مرنة وتجاوزنا بعض الأمور القديمة وانطلقنا بالمقاصد دون مخالفة الأصول والثوابت التي لا نخالفها وبين النصوص الظنية والعواطف، وما اعتاد عليه الناس بسبب التكديس.
ما تعليقك على السؤال الأخير؟
د.عبد المجيد النجار: أصبح للإعلام القضية الكبرى في توجيه الشخصية وسيادتها وخاصة الشباب، كما أن هذا الإعلام أصبح يُستغل استغلالًا كبيرًا من بعض الجهات، تحت عناوين ظاهرها جيد وباطنها سيء، يقولون حرية الإبداع، ولكن الباطن يكون خلاف ذلك، ثُم يستعمل الإعلام للتسويق الأيديولوجي والذي كثيرًا ما يكون مخالفًا ومضادًا لمعتقدات الشعب.
ينبغي أن تكون هناك مراقبة، ويجب أن لا أن تسند هذه المراقبة إلى رئيس الدولة، كي لا يتم توجيه الإعلام لصالحهم.
ولكن هناك حل وهو أن تتأسس منظمات مستقلة شعبية ومنتخبة تراقب هذا الإعلام بدقة، ففي تونس انتخب مجلس الشعب هيئة مستقلة للإعلام تراقب الساحة وتوجه الإعلام الجديد في مساره الصحيح.
«التدافع بين قوى الخير والشر».. متى تنتصر قيم الحق؟
ما تقويمك للمشهد الإعلامي خاصة في بعض الثورات العربية، وما آفاق هذا المشهد على مستوى الشعوب والحقوق العامة؟
د. علي الصلابي: لا شك أن الثورة الإعلامية التي تحدث الآن هي ظاهرة صحيحة، وما كانت الشعوب تستطيع أن تعبر عن آرائها إلا بعد الثورات، فنشاهد نوعا من التدافع بين قوى الخير والشر، واستخدمت أساليب متعددة من خلال أعداء الشعوب لتشويه شخصيات إسلامية مع وضع أموال هائلة لتنفق على هذا، وبعد فترة فهم الشعوب وتدافعوا وميزوا بين الخطابات الصادقة والكاذبة، وخطاب الاستبداد وخطاب العدالة.
وهذا التدافع نوع من الإيجابية، ومع الوقت تنتصر قيم الحق التي وصلت إليها الشعوب، بعد أن قامت بعض الدول بحظر بعض المواقع الإلكترونية المتحدثة بلسان الشعوب وبعض الفضائيات؛ لأن مجموعة من الشعب كان لديه توجه حر، فنتمنى أن توظف وسائل الإعلام لصالح الخير ولصالح الشعوب، خصوصًا وأن الإعلام يقيم الحضارة ويوجه الشعوب نحو الحرية، ويكون الإعلام عاملًا للتقدم الحضاري؛ من خلال مساهمته في نشر التوعية وتوصيل تجارب الأمم والشعوب ونشر الفقه الحضاري في قيام الدول وسقوطها، ومن خلال الإعلام يمكن أن تقدم تجارب الشعوب على طبق من ذهب، ويجب أن يكون لكل مؤسسة من المؤسسات التي تخدم الشعب مِنصة إعلامية تتحدث بها.