وحسبُ ذلك الفتى يقف أمام بحر العلم والمعرفة الواسع؛ لا يرى له نهاية ولا يتوقع للمُبحِرين عودة، ويرى هؤلاء الناس كلٌ قد جرَّ مركِبًا من الشاطئ داخلًا البحر، عازمًا أن ينهل منه حتى يرتوي، فإذا دخل الداخل وبدأ يُجَدِف تهللت أساريره وانشرح قلبه وازداد عزمه، وهمَّ بالدخول أكثر حتى يبتعد شيئًا فشيئًا..
والفتى على الشاطئ مراقبًا مغتبطًا يرنو إلى الإبحار مثل غيره، فأخذ يجُر مركبه الصغير محاولًا الدخول إلى ذلك البحر الكبير، ولكن مركبه جدًا ثقيل.. ما بالك أيها المركب؟ هَلمَ للدخول هيا.. ها قد بدأ يتزحزح، يتحرك ببطء والرمال تعوقه.. هيا سنقترب.. وما زال الفتى يحاول حتى أوشك أن يَمَل، وتمَلكَه التعب، وجار عليه اليأس، فهل يكمل ما بدأه؟
إن القراءة والاطلاع شيء لا بد منه، ومنطقيًا فإن القراءة تساعدنا على فهم ذواتنا، وفهم العالم من حولنا، وتزيد من ثقافتنا وقدرة تعبيرنا، وأهدافًا أخرى لا حصر لها ولا عد، ولكن رغم الأسباب المنطقية فإن الحب مطلوب فهو يغير النظرة إلى الأشياء ويُزيد الإقبال عليها.
وكل شيءٍ في الحياة بثمن؛ حتى الحب يلزمه جهدٌ لبلوغه، وأول خطوة لحب الكتب وقراءتها وعشق الاستزادة منها هي الصبر، الصبر على البداية، الصبر على المَلل الذي قد يعتريك، وأخذ نفسك بالانضباط والالتزام، فقد تُقبل على القراءة مُحبًا حينًا وتُقـبل كارهًا حينًا أخرى، لكن لا تُعرِض ولا تولي وجهك، وهذا في بداية الطريق فقط حتى تَلِجَ بحر القراءة والمعرفة فلا يشغلنك عنها شاغل، ولا ينافس عشقها في قلبك منافس.
هذا المقال موجه للذين يجدون في أنفسهم بذرة حبٍ للقراءة ورغبةٍ بها، ولكن لا يستطيعون المداومة ويعتريهم الملل، وودوا لو كانوا عاشقين للقراءة فلا يَملون منها ولا يزهدون فيها، إن بداية الأمر صبر وإصرار حتى تنبت هذه البذرة، فنتعهدها بالرعاية والسُقيا؛ حتى تغدو نبتة خضراء زاهية مثمرة يانعة.
ثم إن اختيار الكتب وموضوعات القراءة المناسبة لك؛ من الأمور التي تساعد على استمرار القراءة، واختيار ذلك بعناية يتطلب معرفة بالاهتمامات الشخصية وتحديد أهداف القراءة الخاصة بك، حينها تستطيع أن تختار مجالات قراءتك. أيضًا إذا اخترت كتابًا واستعصى عليك بصعوبته، اتركه فترة حتى تطور مستوى معرفتك بكتبٍ أبسط، ثم تعود إليه وقد تغير الكتاب في نظرك وطريقة تناولك إياه.
الانضباط والنظام أيضًا من الأمور المهمة خاصة في بداية الطريق، فتحديد الكتاب وعدد الصفحات الواجب قراءتها في اليوم؛ سيكون جيدًا ومساعدًا لك على الالتزام والمداومة، الفتور والملل واليأس والنسيان وعدم فهم المكتوب أحيانًا، جميعها عوارض طبيعية ومن البداهة أن تحدث، فلا تقلق واستمر في جذب مركبك حتى يُبحِر.
حاول أن تُحَدِث الآخرين من حولك كأسرتك أو أصدقائك في بعض ما تقرأه، شيء تأثرت به أو لفتَ نظرك مثلًا فتُحَدثهم عنه، وذلك له فائدتان؛ أولها أن هذا يُثَبِت ما قرأته ويجليه في ذهنك أكثر، وثانيها أن هذا يشجعك أكثر على القراءة عندما ترى نفسك تتحدث في أشياء وموضوعات جديدة.
في النهاية.. كل جهدٍ في سبيل سعيك محمود، وكل صبرٍ على الطريق مطلوب، وأي شروقٍ ما أتى إلا بعد غروب، فخذ بعزمك وانطلق فنتيجة السعي والصبر وصولٌ محتوم.
أما عن الفتى فقد لامس الموج قاربه بعد صبر وعناء، ثم انطلق في بحر العلم مبتهج القلب مسرور الخاطر، لا ينتهي من كتاب حتى يبدأ في آخر، ينهل دون شبع، فلا يكاد يرشف رشفة حتى يغترف أخرى وهكذا..
وكيف لا ! وقد ذاق حب المعرفة وعَشِق الكتاب، وتَعَرف على هذا الصديق الذي يأخذه كل يوم في رحلات شيقة وعوالم زاخرة، يُبحِر مع التاريخ تارة، ويسافر مع الأدب تارة أخرى، ويطلق الخيال والعنان للروايات والقصص، ويأبى إلا أن يطير إلى الفضاء ويستكشف كواكبه ومجراته، ثم يقطع التذاكر للجلوس إلى دروس الفلسفة وعلم النفس وعلوم الشريعة.. ذلك الصديق الذي ما بخل عليه بعلمٍ ولا معرفة وأرضى فضوله وأشبع رغبته.