لا يمكن أن تكون الكوارث في المجتمعات البشرية نقيضا للأسس الفكرية للإيمان بالله، حتى لو بلغت تلك الكوارث حدودها القصوى. ذلك لسبب بسيط وهو أن الرؤية القرآنية تعيد التكرار والتأكيد بكثافة في كل موطن من القرآن على حقيقة فناء الدنيا وقصرها وأفولها والتحذير من الركون إليها: "إن الذين رضوا بالحياة الدنيا واطمأنوا بها والذين هم عن آياتنا غافلون....."

الصدمة النفسية التي تصيب الناس في أوقات المحنة تتناسب طرديا مع تضخم مركزية الدنيا والتعلق بها في قلوبهم، فكلما زاد تعلق الناس بالدنيا قويت صدمتهم وذهولهم إذا انتزعت منهم هذه الدنيا.. لكن القرآن يدفع باتجاه إضعاف التعلق بالدنيا إلى أدنى حد ممكن: "وما أوتيتم من شيء فمتاع الحياة الدنيا"، " وللآخرة خير لك من الأولى".

بل إن القرآن يهيئ نفوس الناس إلى تقبل فكرة الزوال والافول وعدم الاغترار بأحوال العافية وزخرفة العمران:

  • "حتى إذا أخذت الأرض زخرفها وازينت وظن أهلها أنهم قادرون عليها أتاها أمرنا ليلا أو نهارا فجعلناها حصيدا كأن لم تغن بالأمس "
  • "وإنا لجاعلون ما عليها صعيدا جرزا "
  • "كل من عليها فان"

فمن غذى قلبه بمئات الآيات التي تؤكد هذا المعنى صار مهيئا لتقبل حقيقة الزوال والأفول وتغير الأحوال فاكتسب حصانة نفسية تمنعه من الانهيار.

لذلك فالسؤال عن الله حين تنزل المحن هو سؤال مبني أصلا على تصور خاطئ، إن الله لم يعدنا أصلا بضمانة بقاء أحوال العافية والسلامة في هذه الدنيا، بل إنه يهيؤنا لعكس ذلك ..يمكن تشبيه الأمر بأن يؤجرك أحدهم بيتا ويؤكد لك أنه استئجار لشهر واحد فقط وأن عليك إخلاء البيت بعد شهر، فلا يستقيم إذا انقضت المهلة أن تنقم عليه لأنك دخلت البيت أصلا وفق هذا الشرط.

منذ أن هبط آدم إلى الأرض فإقامتنا فيها مشروطة بأجل مسمى وملتبسة بالكبد، وغايتها الابتلاء ثم الرجوع إلى الدار الحقيقية: "وإن الدار الآخرة لهي الحيوان" وقوله تعالى: "لقد خلقنا الإنسان في كبد".

لا ننكر أن الإنسان يحب أوضاع المعافاة والعافية ويود لو خلدت تلك الأوضاع وليس في ذلك إثم عليه، لكن من الضروري أن يفهم الحياة ابتداء حتى يثبت أمام صدماتها القاسية وتقلبات الأيام.

الكوارث قد تكون تطهيرا وابتلاء وقد تكون عقابا وكثيرا ما تجمع بينهما فالقرآن يعلل نزول العذاب ب"لعلهم يرجعون" أي أن الله يتجلى للناس في جلاله بصفات القوة والبأس والشدة والانتقام كما يتجلى لهم بصفات الرحمة واللطف والعطاء، ورسالة الله أن يدفع الناس إلى مراجعة ذنوبهم والتوبة منها..

مبدأ القرآن أن تتضاءل مركزية الدنيا في قلوب الناس وأن يعظم حضور الآخرة في قلوبهم فإذا عظم حضور الآخرة وضعف حضور الدنيا كان ذلك أكبر عون وسلوى للإنسان لتجاوز أحوال البأساء والضراء بسلامة.