قال الله تعالى في سورة الجمعة: ((هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ (2)))، ويؤكد قولَ الله تعالى حديثُ المصطفى عليه الصلاة والسلام الذي نحن بصدده (( إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق))، فما العبادات الشخصية، من صلاة وصيام وذكر وحج وعمرة إلا لتربية المؤمنين وتذكيرهم حتى يثبتوا على الفطرة التي فطر الله تعالى عليها عباده، أو يعود بهم إليها إذا انحرفوا عنها فيوحدوه سبحانه ويوقروه ويطيعوه، ويكون كل منهم على السلوك السوي الذي يؤهلهم للانسجام مع قوانين الكون المسخر لهم وسنن الاجتماع النافعة لمعاشهم، فيسعدوا في الدارين. وقد يدرك كافر قسطا من مكارم الأخلاق، المغروسة في خلقته، فيعلو شأنه بها في الدنيا، وقد يُحرَمها مؤمن فيفسد بفقدها دينُه، وإن نجا برحمة الله يوم القيامة فلا قومة له أبدا في الحياة الدنيا.
ومن مكارم الأخلاق التي تدل على صحة التدين وقوام صاحبها في شؤون دنياه خلق الأمانة. ولو لا قوة النصوص الدالة على أولوية الصدق في مكارم الأخلاق لكان بدء حديثنا في المقال السابق عن الأمانة أولا. غير أن الأمانة من أجَلّ مظاهر الصدق وفق ما روي عن أبي بكر رضي الله تعالى عنه في السنن الكبرى عن البيهقي: (( أصدق الصدق الأمانة، وأكذب الكذب الخيانة)). بل إن عمر ابن الخطاب لم يكن يعتدّ بإقبال أحدهم على العبادة ما لم ير فيه خلق الأمانة فقال رضي الله عنه في ما ورد عن المحدّث ابن جعفر الخرائطي في كتابه مكارم الأخلاق: (( لا تغرّني صلاة امرئ ولا صومه، من شاء صام، ومن شاء صلى، لا دين لمن لا أمانة له))، وذكر ابن المفلح في كتابه الآداب الشرعية عن نافع مولى ابن عمر قال: ((طاف ابن عمر سبعًا وصلَّى ركعتين، فقال له رجل مِن قريش: ما أسرع ما طفت وصلَّيت يا أبا عبد الرَّحمن. فقال ابن عمر: أنتم أكثر منَّا طوافًا وصيامًا، ونحن خير منكم بصدق الحديث، وأداء الأمَانَة وإنجاز الوعد)).
إن هذا الفهم الصحيح للتدين أخذه أصحاب رسول الله أبو بكر وعمر وابنه عبد الله من التوجيه النبوي المتكرر وفق ما ورد في الحديث الصحيح الذي أخرجه أحمد عن أنس بن مالك أنه قال: ((ما خطبنا رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم إلَّا قال: لا إيمانَ لمن لا أمانةَ له، ولا دينَ لمن لا عهدَ له)).
إن صفة الأمانة صفة عظيمة وازنة تجاوز ثقلُها ما تقدر السماوات والأرض على حمله، وحملها الإنسان لما يتمتع به من حرية الاختيار التي اختص بها دون سائر المخلوقات. غير أن ذلك الاختيار الحر غرّه فتحمل مسؤولية لم يُحِط بأبعادها الخطيرة فظلم نفسه وظلم غيره إلا من وفقه الله فصان الأمانة، وهؤلاء قلة من ولد آدم اختارهم الله لكي لا يختل نظام الكون قبل قيام الساعة. قال الله تعالى في سورة الأحزاب: ((إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإِنسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولاً لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ وَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا - 72- 73)).
ومما يبين أن خلق الأمانة جُبِل عليه ابن آدم وأن القرآن والسنة إنما جاءا لإحيائه في النفوس، وأن هذا الخلق صفة موقرة عند البشر جميعهم حتى وإن لم يتصفوا بها، وأن المرء تُرفع مكانته بين الناس وينسب نجاحه وظفره إلى أمانته وإن لم يكن في قلبه شيء من الإيمان، وأن ضياع الأمانة هو ضياع الدين وانخرام أسس المجتمع ما ورد في الحديث العظيم الذي رواه البخاري ومسلم عن حذيفة بن اليمان أنه قال: ((حدَّثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثين رأيت أحدهما وأنا أنتظر الآخر: حدَّثنا أنَّ الأمَانَة نزلت في جذر قلوب الرِّجال، ثمَّ علموا مِن القرآن ثمَّ علموا مِن السُّنَّة. وحدَّثنا عن رفعها. قال: ينام الرَّجل النَّومة فتقبض الأمَانَة مِن قلبه فيظلُّ أثرها مثل أثر الوَكْت. ثمَّ ينام النَّومة فتُقْبض فيبقى فيها أثرها مثل أثر المجْل، كجمر دحرجته على رجلك فنَفِط فتراه منتبرًا وليس فيه شيء، ويصبح النَّاس يتبايعون، فلا يكاد أحد يؤدِّي الأمَانَة، فيقال: إنَّ في بني فلان رجلًا أمينًا. ويقال للرَّجل: ما أعقله، وما أظرفه! وما أجلده! وما في قلبه مثقال حبَّة خردل مِن إيمان)) [ الوكت: الأثر اليسير كالنقطة، المجل: القرح في اليد من أثر العمل بالفأس].
إن المعنى اللغوي لكلمة "أمانة" مأخوذ من كلمة "الأمن" وهي مصدر أمِن بالكسر، وكأنها توحي بأن لا أمن ولا أمان في حياة الناس بلا أمانة. ثم استُعمل المصدر على سبيل المجاز في الأعيان، فقيل الوديعة أمانة ونحو ذلك، وكل ما يؤمّن عليه الإنسان أمانة، وفي الإصطلاح تعني كلمة الأمانة كل ما لزم المرءُ أداءه وحفظه.
ومن مرادفات الأمانة والأخلاق المتصلة بها كالإخلاص والوفاء والعدل وغير ذلك مما يتصف به المؤمنون أصحاب المروءات، وعكس الأمانة الخيانة، ويتصل بالخيانة أخلاق ذميمة أخرى كالغدر والخديعة والغش والكذب، وهي صفات تجتمع كلها في المنافق والعياذ بالله، ولذلك ورد في الحديث الذي رواه الشيخان عن عبد الله بن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((أربع من كن فيه كان منافقًا خالصًا، ومن كانت فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة من النفاق، حتى يدعها: إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا خاصم فجر، وإذا عاهد غدر)).
وأصناف ومجالات خلق الأمانة كثيرة، أساسها التعامل مع الله الخالق الرازق بما هو أهل له من الإيمان به وذكره وشكر نعمته وحفظ حرماته والالتزام بأوامره واجتناب نواهيه، ومن الأمانة تعظيم مقام الرسول المصطفى الذي جعله الله سببا لما نحن عليه من الإيمان والإسلام وذلك بالصلاة عليه واتباع سنته ونصرة أمته، فقد قال الله تعالى في سورة الأنفال: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَخُونُواْ اللّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُواْ أَمَانَاتِكُمْ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ وَاعْلَمُواْ أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلاَدُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللّهَ عِندَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ - 27-28)).
ثم ثمة الأمانة تجاه الذات بحفظ البدن وسائر الجوارح، وتجاه ما أنعم الله على المرء من سائر النعم والأرزاق والفرص والمواهب بما يحفظها من الاستعمال المخالف للشرع أو ما يلحق بها الضرر للنفس وللغير.
ومن الأمانة إعطاء حق الولايات وأداء كل مسؤول حق ولايته وعهدته ورعيته، في أي مجال من مجالات المسؤولية وأي مستوى من مستوياتها، من مثل رعاية الأسرة ومسؤولية الأهل والأولاد، وترأس وإدارة شؤون أي مجموعة من الناس أو أي صنف من المخلوقات الحيوانية أو الطبيعية، والمسؤولية على اللجان والهيئات والجمعيات والجماعات والأحزاب، والمديريات، ومختلف المؤسسات التطوعية أو الرسمية.
ومن أعظم أنواع الأمانة القضاء والوزارات ورئاسة الدول إذ بالأمانة في سياسة شؤون الخلق تُحفظ الدنيا ويعم الخير ويأمن الناس وبالخيانة يحل الظلم والفوضى والخراب. ولخطورة هذا الأمر خص الله تعالى شؤون الحكم من عموم أمره بأداء الأمانة في قوله تعالى في سورة النساء: ((إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُواْ بِالْعَدْلِ إِنَّ اللّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُم بِهِ إِنَّ اللّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا - 58).
وعدّ العلماء الأمانة من الشروط اللازمة للرئاسة كما ذكر الذهبي في "سير أعلام النبلاء عن الشافعي قال: (آلات الرِّياسة خمس: صِدق اللَّهجة، وكتمان السِّرِّ، والوفاء بالعهد، وابتداء النَّصيحة، وأداء الأمَانَة)، كما أنهم جعلوا خيانة الحاكم من أكبر الكبائر وقد ذكر الحافظ بن حجر هذا في قوله: ((الغدر حرمته غليظة لا سيما من صاحب الولاية العامة ، لأن غدره يتعدى ضرره إلى خلق كثير ، ولأنه غير مضطر إلى الغدر لقدرته على الوفاء)) والنصوص في هذا كثيرة معلومة.
ومن الأمانة الوفاء بالعهود، والالتزام بالمواثيق، واحترام قواعد الاحتكام المتفق عليها، التي هي أساس من أسس قيام العمران البشري والاجتماع الإنساني إذ يستحيل التعامل بين الناس وتعسر الحياة ويشقى العباد إذا عمت الخيانة ولم يأمن الخلق في تنفيذ ما يبرمونه من عقود وما يتفقون عليه بينهم. ولذلك شدد الله تعالى في كثير من الآيات على الوفاء بالعهود وغلظ عقوبة الغدر ومنها قوله تعالى في سورة الإسراء: ((وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولً- 34)) وقوله في سورة الرعد: ((والذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقة ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل ويفسدون في الأرض أولئك لهم اللعنة ولهم سوء الدار)).
ثم ثمة مجالات أخرى كثيرة تتعلق بخلق الأمانة تتفرغ عما سبق ذكره، منها ما يتصل بمجال الأموال كالعفة عما ليس للإنسان فيه حق، وإرجاع الودائع لأصحابها وتأدية ما فيه حق للغير في التعاملات المالية المختلفة، وحفظ الفضل فلا غدر ولا نكران، وكتم الأسرار وصيانة الأعراض قولا وعملا، والأمانة في العلوم والمعارف بتأديتها دون تحريف ونسبة الأقوال والمنجزات الفكرية والعلمية إلى أهلها، ومنها نقل الأخبار على حقيقتها، وعدم كتمان الشهادة وأدائها على وجهها دون زيادة ولا تحريف ولا نقصان.
إن هذا الخلق العظيم المتشعبة مجالاته يكون خلقا خاصا بالأفراد تنشأ عليه الناشئة في الأسرة ويتعلمه الشباب في المدارس والمساجد والإعلام، ويأخذه عموم الناس من القدوات الصالحة في المجتمع وحيث المخالطة بين الخلق، ويتحول إلى خلق عام في المجتمع، وضمير جمعي ثابت ومستقر بقيام شعيرة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وإمضاء سنة التدافع، ويُحفظ ويدوم بالقوانين والتشريعات المناسبة، والأهم من ذلك كله صلاح المسؤولين في كل المستويات، وأمانة الرؤساء والملوك والأمراء إذ على صورة الرؤساء تُرسم أخلاق المرؤوسين، ولنا أن نتأمل في هذا النص الذي ذكره ابن المفلح في مصنف الآداب الشرعية: ((لما أُتِي عمر بتاج كسرى وسواريه جعل يقلبه بعود في يده ويقول: والله إنَّ الذي أدَّى إلينا هذا لأمين. فقال رجل: يا أمير المؤمنين أنت أمين الله يؤدُّون إليك ما أدَّيت إلى الله فإذا رتعت رتعوا. قال: صدقت)).
والله وحده الهادي إلى سواء السبيل وإلى المكارم العلية من الأخلاق.