هل تأملتم يوماً قصر الحمراء في غرناطة وقت الغروب؟!
هل أنصتم إلى درسه العميق الذي يلقيه كل يوم على الزائرين والمشاهدين؟!
قد يرى البعض فيه مشهدا فخما، وحضورا مهيبا، يفرض على كل من رآه الإعجاب بدقة الصناعة، وإتقان البناء، وروعة التصميم... نعم لا خلاف على ذلك.
لكنني كلما أراه، أبصر أمراً لا يكاد يبين للجميع...
ففي لحظة عجيبة، يلتقي الماضي فيها بالحاضر، أرى قصر الحمراء وقد دبّت فيه الحياة، وشعت من أرجائه الأنوار، وصدح الآذان في جنباته بصوت أندلسي رخيم، وعج المكان بسكانه ورواده!
حينها... أجد نفسي قبالة حياة أندلسية باقية بكل ما تحمله هذه الكلمة من معنى... أشاهد شريطا طويلاً من الأحداث والتقلبات والمنحنيات، فيهتز القلب فرحاً لكل منجز ونصر، وينفطر حزناً لكل خسارة وانكسار، وأشعر بحرارة دموع غرناطة حتى تكاد تكتوي بها يديَّ، وأنصت مستمعاً إلى بوح الحمراء، وهو القابع في تلك الليالي وحيداً حزيناً غريباً، فيحكي لي قصة الوداع الأليم، لماذ؟ وكيف كان؟ وأسمع له بكل شجن واهتمام!!
وقتها... أجدني أبصر كل ذلك على الرغم من الظلام الظاهر الذي يحيط المكان، والسكون الذي يخيم عليه، وليس ذلك عن إفراط في التخيل، أو تطرف في الشعور، وإنما هو استحضار للتاريخ بكل تفاصيله ومعانيه.
ولذلك، وبعد كل مرة أطالع فيها هذا المنظر العجيب، ينبض الفؤاد، وتنهال الكلمات، وتجتمع خيوط العبارات لتنسج أعظم موعظة، وأبلغ حديث، لأجد نفسي وكأني أقف بين القوم منادياً:
(أيها الناس، لا تغرنكم الحياة الدنيا، واعملوا لآخرة هي دار القرار، لا يصدنكم عن طريق الإيمان بالله جاه ولا مال، ولا تتنكبوا على المضي في مدارج السالكين.. واعتبروا ممن مضى فلم يبق وراءه إلا هذه الأطلال الحزينة الباكية، واعلموا أن منازل السائرين تنطلق من ها هنا، من بقاع الأولين، وأنفاس الراحلين، وذكرى المحبين، وصولاً إلى إعمار الأرض والتمكين).
سألت نفسي: كم موعظة يمدنا بها التاريخ اليوم؟ وكم هو الخطاب المؤثر الذي تنطق به آثار الأولين؟! وكيف يمكن أن نتعامل مع التاريخ بوصفه أحد مصادر تزكية الأنفس، وإعلاء جانب الروح لتوازي فعل الجسد، وليتحقق التكامل المنشود الذي أراده الله لنا؟!
وهل ثمة إشارات في تراثنا لمثل هذا المنحى الذي يزيد تعميقه من قوة الفرد، ويمنحه طاقة التفاعل الحضاري المطلوب، تماماً كما فعل أجدادنا حين حوّلوا الكلمة، والنص، والإيمان، إلى فعل، وحركة، وبناء، وتأسيس لحضارة زاهرة، ودول شامخة، أمدت العالم أجمعه بشرارة الإنجاز والعمل والعطاء؟
والأهم: كيف يمكننا إعادة الحياة إلى التاريخ ليكون شاهداً بينناً، ويأخذ مكانه المطلوب باعتباره أحد روافد ومصادر الارتقاء الروحي الذي يريده الله لنا؟!
إن التاريخ ـ وبكل ما تنطوي عليه هذه الكلمة من شمولية واتساع ـ يأخذ مكانه المهم في طريق السلوك والسير إلى الله... وهذا ما أدركه العديد من المؤرخين الذين وجدوا في سرد الماضي أعظم درس يمكن أن نقدمه لتحقيق معنى الفرار إلى الله، ليس بالمعنى السلبي الذي يعني الاعتزال والانفصال عن الواقع، أبداً، بل بمعنى التجرد من كل القيود والتخلص من الشوائب، كخطوة أولى في مشروع إعمار الأرض، وإعادة استئناف الدور الحضاري للأمة المسلمة، ومعاودة المسير.
ولنقرأ على سبيل المثال لا الحصر:
(الحمد لله الذي... جعل قصصهم عبرة لأولي الألباب، وتذكرة في كل خبر وكتاب، فمن عدل منهم كل أول السبعة، ومن ظلم كان في أخباره شُنعة، أحمده حمداً كثيراً على أن عرّفنا من صلح منهم ومن فسد، ومن هو في الوغى مدد، وبين الأنام عدد، ونشكره على أن أخرّنا عن كل الأمم، وهذا لعمري من أعظم الإحسان وأسبغ النعم، لنعاين ممن تقدم آثارهم، ونشاهد منازلهم وديارهم، ونسمع كما وقعت وجرت أخبارهم، أعظم بها من منّة جليلة، وكرامة وفضيلة، إذ أخبرنا عنهم ما لم يخبروه عنا، ورأينا منهم ما لم يروه منّا، فلنقابل هذه المنة بالإنصاف، في كل مترجم ومن إليه انضاف، فنخبر بذلك من تأخر عصره من الأقوام بأفواه المحابر وألسن الأقلام ليقتدي كل ملك يأتي بعدهم بجميل الخصال، ويتجنب ما صدر منهم من اقتراح المظالم وقبيح الفعال)
إن مطالعة التاريخ تمدنا بالعبرة منه، وهذه العبرة المطلوبة التي تحدد المسار لا تتعلق فقط بتقييم أفعال الأشخاص والدول، بل هي تنفذ إلى دواخلنا لتعيد صياغتها من جديد، وكما أرادها الله عز وجل، ولعل من الطريف إشارة ابن تغري بردي في نصه أعلاه إلى أن بقاء هذه المشاهد المندرسة، والآثار المتتالية، والقصص والحكايات المتوارثة، إنما هي نعمة من الله عز وجل، ومنهاج متكامل لمن أراد أن يحقق النجاح ويتجاوز أخطاء الماضي.
ومن النصوص المهمة في هذا المجال، تصدير أبو شامة المقدسي (ت665هـ)، لكتابه الماتع الروضتين في أخبار الدولتين النورية والصلاحية، إذ يقول:
(بعد أَن صرفت جلّ عمري ومعظم فكري فِي اقتباس الْفَوَائِد الشَّرْعِيَّة واقتناص الفرائد الأدبية عَن لي أَن أصرف إِلَى علم التَّارِيخ بعضه فأحوز بذلك سنة الْعلم وفرضه اقْتِدَاء بسيرة من مضى من كل عَالم مرتضى فقل إمام من الأئمة إِلَا ويحكى عنه من أَخبار من سلف فوائد جمة... قلت وَذَلِك عظيم الْفَائِدَة جليل العائدة وَفِي كتاب الله تَعَالَى وَسنة رَسُوله صلى الله عليه وسلم من أَخْبَار الْأمم السالفة وأنباء الْقُرُون الخالفة ما فيه عبر لذوى البصائر واستعداد ليَوْم تبلى السرائر)
وهنا لا يخفى دقة القول أعلاه، والربط بين علم التاريخ ومضامينه وبين تعميق الإيمان باليوم الآخر، وكأن قصصه الغنية، وحوادثه الثرة، بمنحنياتها بين الصعود والهبوط، زاد المسير المطلوب، ونقطة اشتعال جذوة التعلق باليوم الآخر، متزامناً مع المضي في أداء الإنسان المسلم لمهامه على هذه الأرض.
وليس هذا الاهتمام الذي أدركه الكثير من المؤرخين لهذا الجانب غريباً، فهو نتاج واضح جداً عن مدى الفهم القرآني الذي تملكهم من خلال إدراك آيات الله البينات التي أشارت إلى القصص القرآني وحوادث الماضي وقيمتها وأهميتها؛
فلما (كان الفنّ التاريخي مأرب البشر، ووسيلة إلى ضمّ النشر، يعرفون به أنسابهم في ذلك شرعا وطبعا ما فيه، ويكتسبون به عقل التجربة في حال السكون والتّرفيه، ويستدلّون ببعض ما يبدي به الدهر وما يخفيه، ويرى العاقل من تصريف قدرة الله تعالى ما يشرح صدره بالإيمان ويشفيه، ويمرّ على مصارع الجبابرة فيحسبه بذلك واعظا ويكفيه، وكتاب الله يتخلّله من القصص ما يتمّم هذا الشاهد لهذا الفن ويوفّيه)، و(إن في تاريخ الدول عبرة لأولي النهى، وذكرى لمن غفل عن الله وسها، لتحول الأحوال وتصير الرسوم إلى الزوال، وتلاعب زعازع الأهوال بالنفوس والأموال...)
يتجلى التاريخ هنا واعظاً، ومرشداً، ومانحاً الأمل للاستدراك، ومحولاً تلك المعرفة إلى طاقة ايمانية إيجابية، بل لعل عبارة ابن الخطيب كانت بالغة الأهمية حين أشار إلى أن التأمل في مسارات التاريخ ينعم على الصدور بالانشراح والشفاء بمدى الإيمان بقدرة الله والمتحققة عبر التأمل في مصائر الحكام والدول، مثلما يقف التاريخ منبهاً لمن حاد عن الطريق وانحرف عنه، أن البقاء لله.. جل في علاه.
ولكن من أهم وأبرز من بين هذا الجانب من الفوائد التاريخية هو ابن الأثير(ت 630هـ) في بدء كتابه الهام الكامل في التاريخ، فهو يقف عند فوائد التاريخ بين الدنيوية والأخروِية، ومؤشراً بذكاء على هذا الجانب وبشكل فريد.
(إنّ العاقل اللَّبِيب ـ يقول ابن الأثيرـ إذا تفكر فيها ورأى تقَلّب الدنيا بِأهلها وَتتابع نكباتها إِلى أعيان قاطنيها، وأَنها سلبت نفوسه وذخائرهم وأَعدمت أصاغرهم وأَكابرهم فلم تبق على جليل ولا حقير ولم يسلم من نكدها غني ولا فقير، زهد فيها وأَعرض عنها وأَقبل على التزود للآخرة منها، ورغب في دار تنزهت عن هذه الخصائص وسلم أهلها من هذه النَّقَائِص... ولهذه الحكم وردت القصص في القرآن المجيد {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ}) (ق: 37)
وعلى الجانب الآخر، لم يكتف علماؤنا ومؤرخينا بمنحنا هذه اللمسات والرقائق لبيان مدى مكانة التاريخ الواعظ، وإنما منحوا الموضوع بعده العلمي الرصين، وذلك من خلال تناول مراتب العلوم، إذ يقدم لنا ابن حزم الأندلسي (ت456هـ)، في هذا الإطار التاريخ باعتباره علماً له أهداف ومرامي بالغة الأهمية، في خطاب يسير على ذات فكرة ابن الأثير السابقة، فيقول مخاطباً طالب العلم:
(فإذا أحكم ذلك في خلال ابتدائه بالنظر في العلوم فلا يكن منه إغفال لمطالعة أخبار الأمم السالفة والخالفة، وقراءة التواريخ القديمة والحديثة ليقف من ذلك على فناء الممالك المذكورة، وخراب البلاد المعمورة، ودثور المدائن المشهورة التي طالما حصنّت وأحكمت مبانيها، وذهاب من كان فيها وانقطاعهم، وتقلب الدنيا بأهلها... فيحدث له فيها بذلك زهد وقلة رغبة، وليشرف على اغترار الملوك بها، لعظيم الحسرات النازلة بهم وبمخالفيهم، وليقف على حمد المتقين الأخيار للفضائل فيرغب فيها، ويسمع ذمهم للرذائل فيكرهها... ويرى أخبار العلماء والصالحين فيرى الحرص على مثل حالهم ويرغب في إلحاق اسمه بأسمائهم إذا سلك طريقهم وحذا حذوهم وعمل عملهم، ويطالع آثار المفسدين في الأرض وسوء الآثار عليهم، وما أبقوا من الأسماء الذميمة، فيمقت طريقهم، ويجتنب أن يكون مذكوراً فيهم)
وهذا النص النفيس فيه تأكيد على فكرة التداول وتأثيرها في تحقيق معاني الزهد وقلة الرغبة والتحذير من الانغماس في الحياة الدنيا، والترغيب للفضائل، ونبذ الرذائل وكرهها، والحرص على ركب الصالحين، ومقت طريق المفسدين.
كما أن ابن عبد البر (ت 463هـ)، هو الآخر مهتم ببيان مراتب العلوم وتصنيفها على أساس فائدتها بالنسبة لجمهور المسلمين، وعدّ التاريخ طريقا أصيلا لفهم الدين ومعرفته، فأولى ما نظر فيه الطالب وعنى به العالم بعد كتاب الله عز وجل سنن رسول الله صلى الله عليه وسلم.. ومن أوكد آلات السنن المعينة عليها والمؤدية إلى حفظها، معرفة الذين نقلوها عن نبيهم صلى الله عليه وآله وسلم إلى الناس كافة، وحفظوها عليه، وبلغوها عنه، وهم صحابته الحواريون الذين وعوها وأدوها ناصحين محسنين حتى كمل بما نقلوه الدين، كما أن الواجب (الوقوف على أسمائهم والبحث عن سيرهم وأحوالهم، ليهتدي بهديهم، فهم خير من سلك سبيله، وأقتدي به)
وغني عن القول بأن تصنيف ابن عبد البر للتاريخ تحت أقسام علم الدين لم يكن ارتجالياً أو عفوياً، وذلك لأن مفهوم الدين عند ابن عبد البر هو المنهج الذي ينظم حياة الإنسان على هذه الأرض، والتاريخ هو الذي يقوم بدراسة حركة هذا الإنسان.
وهذا السبيل المفعم بالإيمان يتوهج بسير الصالحين المقتدين بسيرة النبي الأمين صلى الله عليه وسلم، ذلك أنه (من أراد خير الآخرة وحكمة الدنيا وعدل السيرة والاحتواء على محاسن الأخلاق كلها واستحقاق الفضائل بأسرها فليقتد بمحمد رسول الله صلى الله عليه وسلم وليستعمل أخلاقه وسيره ما أمكنه، أعاننا الله على الاتساء به بمنه)، فالسيرة النبوية تمثل بذلك تاج التاريخ المرصع بالفضيلة والإيمان.
وهو النبع الطيب ذاته الذي دفع ابن الجوزي (ت597 هـ) لتدوين سيرة الخليفة عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه، إذ يقول:
(ورأيت أخبار عمر بن عبد العزيز أحق بالذكر، لأنها تنبه أولي الأمر... وتعين الزاهد في الدنيا على حمل أعباء الصبر. فلذلك آثرت جمع آثاره، واخترت ضم اخباره. ولعلها تجمع لقارئها شمل دينه. ويقوي تكرارها على فكره أزر يقينه. فإن هذا الرجل قدوة لأرباب الولايات والولايات، ولقد كان في أرض الله من الآيات. والله الموفق لاجتلاب خصال الأبرار، واجتناب خلال الأشرار. إنه سميع مجيب) ، والنماذج في هذا الباب كثيرة.
إن سِيَر الأولين هي مرتكز أساسي في السَير إلى الله، ولا ينقص من قيمة ذلك العثرات والإخفاقات بل على العكس، فإن الفهم القرآني للتاريخ إنما يتأسس على معنى الاعتبار بجانبيه الإيجابي والسلبي، بتعزيز السير على خطوات الأول وتجنب أخطاء الثاني، وصولاً إلى تحقيق أنموذج الإنسان المسلم المنشود.
وخلاصة القول هو في الارتباط الوثيق بين الجانبين، فلا حياة للمؤمن إلا في ظلال الهداية والرشاد، والسير إلى الله، زاده القرآن الكريم، وسنة النبي الخاتم صلى الله عليه وسلم، ومسيرة هذا التاريخ العميم، فنقطة الانطلاق واحدة، مثلما أن نقطة الوصول والمبتغى واحد، إنك أيها المؤمن (إذا تعقبت الأمور كلها فسدت عليك، وانتهيت في آخر فكرتك، باضمحلال جميع أحوال الدنيا، إلى أن الحقيقة إنما هي العمل للآخرة فقط، لأن كل أمل ظفرت به فعقباه حزن إما بذهابه عنك، وإما بذهابك عنه، ولابد من أحد هذين السبيلين، إلا العمل لله عز وجل، فعقباه على كل حال سرور في عاجل وآجل، أما في العاجل، فقلة الهم بما يهتم به الناس وأنك به معظم من الصديق والعدو، وأما في الآجل فالجنة)
وذلك لن يتعزز إلا في التأمل في مسارات الماضي؛
(إن النظر في آثار الغابرين يهز القلوب، حتى قلوب المتجبرين، ولحظات الاسترجاع الخيالي لحركاتهم وسكناتهم وخلجاتهم وتصورهم أحياء يروحون في هذه الأمكنة ويجيئون، يخافون ويرجون، يطمعون ويتطلعون .. ثم إذا هم ساكنون ، لا حس ولا حركة، آثارهم خاوية، طواهم الفناء وانطوت معهم مشاعرهم وعوالمهم وأفكارهم وحركاتهم وسكناتهم، ودنياهم الماثلة للعيان والمستكنة في الضمائر والمشاعر.. إن هذه التأملات لتهز القلب البشري هزاً مهما يكن جاسياً غافلاً قاسياً…"أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ" فيدركوا أن مصيرهم كمصيرهم وأن سنة اللّه الواضحة الآثار في آثار الغابرين ستنالهم وأن عاقبتهم في هذه الأرض إلى ذهاب: "وَلَدارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا" خير من هذه الدار التي ليس فيها قرار "أَفَلا تَعْقِلُونَ".. فتتدبروا سنن اللّه في الغابرين؟ أفلا تعقلون فتؤثروا المتاع الباقي على المتاع القصير؟)
في زمن الجحود والجمود، والانكسار والنكوص، وتبلد الشعور، وغلبة القسوة على الرأفة، وهيمنة الخلاف والجدال على الاستيعاب والحوار، افتح كتاب التاريخ فهو سيمنحك التجلي المطلوب، وسيزيد من التصاقك بآيات الله، لأنك وقتها ستراها متحققة أمامك!
وفي زمن الشقاء الحضاري، والضعف القيمي، وعلو أسوار الحجب عن النفس، وغبش الرؤية، اُطرق أبواب التاريخ، وتوقف كل حين عند آثار الأولين، عند حاكم طغى، أو مصلح دق على صدره وقال ها أنا، وشعب ضاع في طوفان وإعصار الدنيا، وآخر استمسك بالعروة الوثقى لا انفصام لها.
تطلع إلى قصر مشيد هجره أهله، وديار غُيِرت هويتها، وبقايا أمل اندرس مع الزمن، وانصت وقت الغروب الى أحاديث وحكايات شعوب كاملة دار الزمن عليها، لتدرك أن (الأيام دول)!!
ولتكن خير مريد في دروب تزكية الأنفس، تقتبس من نور كتاب الله القدير وحديث النبي الخاتم الأمين صلى الله عليه وسلم وتقتفي أثر الصالحين، تنبذ اليأس، وتجدد التزامك بطريق الحق كل حين، لتحيا الأنفس الموات، ويظل التاريخ أمامك خير شاهد على أنك اخترت الطريق الصحيح.
ولا تنسى وأنت تطالع الماضي كتباً أو آثاراً، أن تتنفسه لتعيد له ولك الحياة، أن تزيل عن تلك الصفحات والأحجار غبارها، حينها تصفو النفس، ويزول غبش الرؤية، ويظهر جوهر الأشياء، فجوهرتك هي نفسك، وبقدر التزامك يكن لمعانك، وحينها لن يبقى التاريخ ماضياً عتيقاً، بل ستجده ماثلاً أمامك حياة ودروساً ومنجماً لا ينضب، يمدّك بالقوة كل حين، فتجدد التوبة بين أرجائه، ويفيض الشوق من أركانه، وتزداد خشوعاً وحزناً وإشفاقاً من حكاياته، وتمضي وأنت الأكثر يقظة وبصيرة وعزماً على تحقيق معنى الالتزام بهذا الدين القيم العظيم.
وأنت تمضي في مدارج السالكين.. وصولاً لمنازل السائرين…
لا تنسى نصيبك من الدنيا، وزادك لليوم الآخر، وتذكر دوماً هذا الواعظ الحكيم!