المسافة صفر عبارة هندسية تتجاوز مجرد كونها عنوان للإجهاز العيني على الجنود والمدرعات، فالمسافة صفر هي إطار جديد للفعل الإنساني يقوم على تجاوز الأطر الجاهزة التي تخلق المسافة وتعيق عن مباشرة القضايا والمشكلات العينية، فالعالم السياسي الاجتماعي أصبح بعد اكتمال بنائه الحديث والمعاصر مركبا بطريقة صناعية معقدة.
فقد غدا قضاء أبسط الحاجات الإنسانية عسيرا لا يتم إلا عبر توسطات كثيرة تتطلب موافقات آلية وبشرية قبل الحصول على الحاجة، ولئن كان ذلك من مقتضيات التطور التكنولوجي-التنظيمي للحياة الإنسانية، إلا أنه أصبح من أكبر مكبّلات الفعل الإنساني الحر، وبالتالي من أهم أدوات الهيمنة على الوجود المعولم راهنا.
وإذا أضفنا إلى ذلك إشكاليتي:
1- أن عدم مزاولة العالم الحسي يحدث بشكل شبه آلي عند فساد البديهيات الفطرية وضمور قدرات التخيل السليم، والتعلق بالتمثلات الجاهزة مسبقا.
2- وأن عدم مزاولة عالم المعقولات يحدث بشكل شبه آلي عند فساد الأوليات المعرفية وضمور قدرات الإبداع العلمي، والتعلق بالمدونات الجاهزة مسبقا.
فهمنا كيف يصبح اختراق الوضع معقدا، وأن استراتيجية المسافة صفر هي الحل الوحيد، رغم ما سيكتنفها من صعوبة في ظل الرقابة الآلية والبشرية، إلا أن التمكن من اختراقها سيعني شقوق ورضوض كثير تخترق البناء العام للهيمنة الراهنة، يؤدي تعاظمها إلى تشكل بناء جديد بديل، أو ترميم شامل له، يستعيد فيه الإنسان عافيته النفسية بالنشاط الفاعل وعافيته العقلية بالتفكير الحي.
ستكون المسافة صفر أيضا هي العلاج الفعلي المباشر لأدواء فساد معاني الإنسانية للنفس المخلدة للأرض، فهي ستوقظه عندما يدرك أن مصيره بين يديه لا بين يدي غيره، وأن الفعل هو الأهم من نتائج الفعل، لأن الأمر سيتطلب رباط ومصابرة طويلة، فيتحرر من العجلة، ويعتبر أن الحياة في سبيل الفكرة أفضل -في الحال السلمية- من الموت في سبيلها.
المحصلة، أن المسافة صفر هي نقطة انطلاق -عملية ونظرية- جامعة مانعة لعلاج الأدواء المركبة للإنسانية انطلاقا من علاج الأزمة العربية الإسلامية، فهي علاج للأدواء النفسية الاجتماعية المتراكمة عبر عصور الانحطاط ومبدأ للتجديد بالتخلي عن الجاهز من التمثلات الحسية والمعارف العقلية ومباشرة للعالم والمعقولات بالنفَس الحي والفاعل بعيدا عن الأطر المقيدة.