تقرؤون فيما يلي نص مداخلة الدكتور عبد الرزاق مقري في ملتقى ميلاد حضارة لنصرة الرسول صلى الله عليه وسلم بتاريخ 27 نوفمبر 2020 تحت عنوان "كيف تُجسد الهجرة السُنن الاجتماعية لانتقال الفكرة من المجتمع إلى الدولة؟" 

إذاً طُلب مني أن أتحدث في موضوع السنن، وانتقال الفكرة من المجتمع إلى الدولة، والتركيز على نموذج الهجرة النبوية الشريفة، بطبيعة الحال هذه المرحلة هي مأخوذة من انتقال الفكرة من المجتمع إلى الدولة، من المسار الذي تحدثت عنه في العديد من المحاضرات ومختلف البرامج والعديد من المداخلات، وهو الاستئناف الحضاري للأمة الإسلامية، وكيف يكون، وضمن التداول بين الأمم والتداول بين الحضارات.

الهدف من هذه الكلمة التي سألقيها في هذا الوقت المتوفر، هو حتى لا نيأس مما نراه من صد عظيم في طريق الإسلام، في طريق الفكرة الإسلامية، وفي طريق الإستئناف الحضاري للأمة الإسلامية، حتى لا نيأس من هذا الصد ولا نيأس من هذا التضييق ومن هذه الحرب التي توجه ضد الإسلام، وضد العاملين للإسلام في مختلف القارات وفي مختلف الدول.

الذي يتابع تطور الحضارات وتداولها بين الأمم، وبين الأزمنة سيتضح له بأن الأمم تنهض وتسقط عبر مسارات، يبدأ الصعود ببروز بفكرة جذابة، بفكرة تجيب على احتياجات الواقع، وتحل مشاكله، يحمل هذه الفكرة مجموعة من الرجال الذين يؤمنون بها، يتلقونها.

بالنسبة للمسلمين يتلقونها كَكلمة هي كلمة الله، ويتَلقونها كوحي، أما بالنسبة للحضارات الأخرى فهي فكرة يكتَتبها قادة هذه المجتمعات، فهؤلاء الرجال الذين يحملون هذه الفكرة يبشرون بها، ويدعون لها، يلتف حولهم مجموعة من الرجال الذين يقتنعون بفكرتهم، ويقتَنعون بهم كذلك، ثم يؤسسون تنظيمهم، لكن هناك تنظيمات تعمل من أجل هذه الفكرة وتكافح من أجلها، لِتنتشر هذه الفكرة في محيطهم وفي مجتمعهم، فإذا ما نجحوا استقرت الفكرة في المجتمع، وإذا ما تمكنت الفكرة من المجتمع واستقرت فيه وانتشرت حتى بلغت حد اللاعودة واللارجوع، وأصبحت مستعصية على الاستئصال، أصبح خلق كثير من الناس يؤمنون بها، وينصرون بها.

فإنه حسب ما تحدده قواعد علم الاجتماع بأن هذه الفكرة التي استقرت في المجتمع، وتجَذرت فيه وأصبحت غير قابلة للاستئصال، ستنتقل حتما إلى الدولة، لتقود هذا المجتمع في إطار الدولة وفي الإطار السياسي.

الحضارات تسقط وتنهض وفقا للسنن كما الأفكار أيضا

فإذا نجحت هذه الفكرة في الدولة واستطاعت أن تغير حال هذا المجتمع وحال هذا البلد فإنها ستصنع نهضة بما تنتجه من مكتسبات علمية وابتكارية وفكرية، وما ينتج عن هذا العلم من تعليم ومن تربية، وما ينتج عن هذا من بناء مؤسسات في مختلف المجالات الصناعية والفلاحية، وما يتعلق بسعة القوة والسيادة وقوة الجيوش، وصناعة السلاح، وغير ذلك، وتصبح منتجات هذه الدولة الناهضة منتجات غزيرة وتملأ الأسواق، فإذا أصبحت هذه المنتجات التي أنتجتها الدولة الناهضة مطلوبة من الناس، مطلوبة من خلق كثير في هذا العالم تصبح مطلوبة بما تنتجه من علم، وما تنتجه من أفكار، وما تنتجه من قيم وما تنتجه من بضائع ومختلف المنتوجات الأخرى، عندئذ تنتقل هذه المنتوجات من النهضة إلى العالمية، فتتحول من النهضة إلى الحضارة، ويبلغ مدى الحضارة مبلغه حتى يأتي الوقت لتسقط هذه الحضارة، لأن الله سبحانه وتعالى كتب الخلود لنفسه وهو القائل (وتلك الأيام نداولها بين الناس) [سورة آل عمران الآية: 140].

ما من حضارة تصعد إلا ويأتي الوقت الذي تسقط فيه، هناك حضارات بكل تأكيد تسقط ثم تعاود النهوض كما هو حال الحضارة الإسلامية التي كتب الله سبحانه وتعالى لها الخلود، ولكنها تسقط كما تسقط الحضارات الأخرى وذلك لأنها مرتبطة بالوحي فإنها ستَنبعث من جديد، فحينما تسقط الحضارة يأتي بعد سقوط الحضارة سقوط الدولة يعني تسقط الفكرة من الدولة، حينما تسقط الفكرة من الدولة يأتي الدور على المجتمع، فإذا ما خرجت الفكرة من المجتمع، حينئذ يصبح هذا المجتمع بلا هوية وبلا قيم خاصة به، لا تصبح له خصائص، عندئذ تبتلعه مجتمعات أخرى، وفي الغالب تبتلعه الجماعات الغالبة المسيطرة عليه، ويصبح بعد ذلك جزءً من هذه المجتمعات الغائبة وقد يندثر كلية.
الذي حدث للإسلام هو ما يتعلق بسقوط الحضارة الإسلامية التي سقطت قبل قرابة أربعة قرون ثم جاء بعد ذلك الدور على الدولة، بالطبع لا أفصل في هذا الموضوع، وقد فصلت في بعضه في برنامج تحدي العبور لأن هذا ليس موضوعنا.

المجددون والدعاة يجاهدون من أجل بقاء الأفكار الفاعلة

فبعد سقوط الحضارة سقطت الفكرة من الدولة في عشرينيات القرن الماضي بسقوط الخلافة الإسلامية، وجاء الدور بعد ذلك لتَخرج الفكرة من المجتمع، ولكن لأن هذه الفكرة خالدة لا يمكن أن تخرج من المجتمع، فلذلك الله سبحانه وتعالى قيض لهذه الفكرة في المجتمعات الإسلامية مجددين ودعاة ومجاهدين، استطاعوا أن يجاهدوا الاستعمار ويخرجوه من أرضهم، استطاعوا أن يقاوموا داخل المجتمع، يقاوموا الأفكار الهدامة وعلى رأسها العلمانية التي كانت تريد أن تمحي الفكرة الإسلامية من المجتمع، فاستطاعت هذه الفكرة أن تنْقذ في المجتمع ثم بعد ذلك تنتشر من جديد داخل المجتمعات، وبقيت تشتغل داخل المجتمع من خلال هؤلاء الدعاة وهذه المنظمات التي أنشأوها، إلى أن شكلوا صحوة إسلامية عارمة بلغت مشارق الأرض ومغاربها ولم تستطع أي قوة أن تجْتثها أو تبيدها.

كلما اعتقدوا بأنهم حاربوا الفكرة الإسلامية وقضوا على الحركات الإسلامية وكل المنظمات التي تشتغل للإسْلام، ولمصلحة الإسلام بغض النظر عن توجهاتها، بغض النظر عن ميولاتها، أي حينما نحن نتحدث عن الذي يشتغل للإسْتئناف الحضاري للفكرة الإسلامية، كل من يحب هذا الدين ويؤمن به ويعمل لكي يسود ولكي يعود لمجده.

هؤلاء جميعا من تيارات إسلامية ووطنية استطاعت بإذن الله تعالى أن تنشر هذه الفكرة في المجتمعات وتتحقق هذه الصحوة الكبيرة التي استعصت عن الاستئصال، عندئذ جاء زمن الانتقال بهذه الفكرة من المجتمع إلى الدولة، وهذا هو الشأن الكبير الذي تشتغل عليه مختلف القوى الإسلامية، من أجل الانبعاث الحضاري من جديد، وهي تحقق نتائج كبيرة جدا عبر هذا المسار الطويل، الانتقال من السرية ومن الاضطهاد إلى الظهور العلني عبر جمعيات خيرية، وجمعيات دعوية ومنظمات وغير ذلك دون الاعتراف السياسي، إلى الانتقال لتصبح كيانات سياسية تشارك في الشأن العام وتعمل للإنتقال إلى الدولة، إلى المشاركة في مختلف مؤسسات الدولة من مجالس، ومن حكومات وغير ذلك، وأن تكون ذات شأن في القرار، وأن تكون مشاركة فيه، وبعضها انتقل إلى الشراكة في القرار، وبعضها وصل إلى التمكين، وهذه المرحلة فيها مراحل متعددة، التمكين لا يكون كاملا والشراكة لا تبدأ كاملة والمشاركة لا تبدأ كاملة.

إذن نحن نعيش كقِوى تشتغل للفكرة الإسلامية، من أجل انتقال هذه الفكرة إلى الدولة وصناعة النهضة، لأن النهضة لا تصنعها إلا الدول، المجتمعات تحمل الفكرة، تشتغل فيها، تبين إرهاصات النهوض الحضاري، ولكن الذي يستطيع أن يحول الأفكار الموجودة في المجتمع إلى جامعات وإلى مراكز دراسات، وإلى أبحاث وإلى صناعة وإلى اكتفاء غذائي وأمني، وإلى قوة عسكرية إنما هي الدولة، حينما نقول دولة ناهضة، نقول أمة ناهضة، معنى ذلك أن دولتها ناهضة.

سعي الأمة للانتقال من الفكرة إلى الدولة يواجه بالصد.. هل أعددنا العدة للمقاومة؟

إذن الأمة تسعى للإنتقال من الفكرة إلى الدولة، لذلك يوجد هذا الصَد العظيم، هذا الصد الكبير الذي يظهر للذي لا يتفحص ولا يتمعن في السنن، لأن العملية مستحيلة، وأنه لا يمكن لهذه القوى التي تريد الاستئناف الحضاري، لا يمكن أن تكون لها القدرة على أن تغلب أمريكا وروسيا والصين وأوروبا، وتغلب كل هذه القوى التي تريد أن تسيطر على أرضنا، وسيادتنا و مقدراتنا، والجواب لهذه الحيرة نحن لن نستطيع أن نغلب هؤلاء إنما يغلبهم الله سبحانه وتعالى، إنما المطلوب منا نحن أن نعمل العمل الصحيح، أن نعد العدة الصحيحة كما قال الله سبحانه وتعالى (فاتقوا الله ما استطعتم) [سورة التغابن الآية: 60] وكما قال الله سبحانه وتعالى (إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت) [سورة هود الآية: 88].

المطلوب منا نحن أن نعمل على بصيرة وفق ما أمر الله سبحانه عز وجل (قل هذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني) [سورة يوسف الآية: 108] أي أن يكون عملا مخططا ضمن رؤية بعيدة ومرحلية، ومخططات عصرية وبإدارة استراتيجية، وبِفهم للواقع، وباكتِساب الأدوات اللازمة المتاحة في الواقع، ونؤدي الذي علينا. إذا ما أدينا الذي علينا، إذا ما دارت السُنن على هذه القوى، وَوجدتنا في المكان المناسب، فسَتحملنا هذه السنن وسنَغلب بها لا بأنفسنا ولا بقوتنا.

حينما يتضافر جُهدنا وعملنا مع هذه القوى السُننية الاقتصادية والاجتماعية والدولية والإقليمية والسياسية وغير ذلك، سنلتقي معها في المكان المناسب، عندئذ بإذن الله تعالى سننتصر، ومن هنا نستأنس بالسيرة النبوية وكيف استطاع الرسول صلى الله عليه الصلاة والسلام أن ينتقل بالفكرة إلى الدولة.

الرسول عليه الصلاة والسلام وهو في مكة أدى كل الذي عليه، وصبر على الأذى، وأوذي هو وأصحابه إيذاء شديدا، وكان عليه الصلاة والسلام يحرص على أن يعرض نفسه على القبائل، يعرض نفسه على قريش، فلم تقبله بل حاربته، ثم ذهب إلى الطائف، ثم ذهب إلى أعداد كبيرة من القبائل يعرض نفسه من يحمله، من ينصره، ويعدهم بأن الله سبحانه وتعالى سينصرهم به وسيَملكون الدنيا به، ولكن أغلبهم لم يصدقه، البعض أراد أن يحمله بشرط أن يكون له الملك من بعده، فقال لهم إن الأمر لله يرثه لمن يشاء، وبعضهم قال له أنتظر إن نصرك الله على قومك كنا معك وإن نصر قومك عجب من أمرنا، وبعضهم تركوه وبعضهم حاربوه.

في يوم من الأيام كان رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذه الحالة، حالة الصد الشديد في حالة نفسية شديدة جدا، يتألم ألما شديدا من هذا الصد، ذات يوم التقى بمجموعة من الشباب جاءوا إلى المدينة جاءوا ليُقنعوا قريش لتنْخرط معهم في حرب معاذ بين الأوس والخزرج، ولم تستمع إليهم قريش وكانوا يوشكون بالرجوع إلى المدينة، فذهب إليهم رسول الله عليه الصلاة والسلام قال لهم كلمة عرفهم بالإسلام، وبين لهم ما معنى هذا الدين، ثم انصرف.

ماذا سيكون شأنهم؟ وهم لا يدرون ماذا سيكون شأنهم مع هذا الرجل، هناك في المدينة كانت تطورات عميقة تحدث، وتحولات تاريخية غير مسبوقة تحدث في المدينة، حرب ضروس بين الأوس والخزرج، الخزرج الذين هم أكثر عددا يواجهون بني عمومتهم الأوس الذين تحالفوا مع اليهود، وانخرط في هذه الحرب كبار القوم كلهم، وكانت حرب طاحنة قتل فيها كبار القوم جميعا، قتل فيها الزعماء جميعا، قتل فيها قادة القوم جميعا وغلب الخزرج، وأراد اليهود أن يستغلوا هذه الهزيمة فيهْجموا هجمة واحدة على الخزرج فيُبيدونهم، فرفض الأوس وقالوا جوار بني عمومتنا أفضل من جوار الثعالب أي انتبهوا، لأن اليهود يريدون استغلالهم لإبادة بني عمومتهم، لإبادة إخوانهم من العرب ليُنهوهم كلية، انتبهوا فلم يقبلوا أن يلاَحقوا الخزرج، ولرُبما فهموا بأن اليهود استغلوهم، وهم الذين أذْكوا هذه النعرات بينهم، حتى اندلعت الحرب هذه انتبهوا، فقالوا نعود إلى بعضنا البعض، وقرروا بأن يحْدثوا وحدة كبيرة، وجعلوا على رأسهم الشخص الوحيد منهم وهو من كبار القوم وهو عبد الله بن أمية بن سيرين، الذي كان خَزرجيا ولكنه لم يقاتل، لأنه لم يكن موافقا على هذه الحرب، وكان في علاقة طيبة مع الأوس ومع اليهود فلذلك اجتمعت الظروف ليَقبله الجميع، ليُحدثوا هذه الوحدة ويجعلوا على رأسهم عبد الله بن أمية ملكا عليهم.

وقالوا لن نقبل أن نعيد بناء المنظومة القديمة على ما كانت عليه، حتى ولو كانت في إطار الوحدة العربية، حتى ولو كانت في إطار الوحدة القومية، لأن عودة بناء النظام القديم بعد ذلك هو الذي سيعيدنا للجهل ويعيدنا للإفتِخار بالأنساب، وهو الذي سيعيدنا للإنتِقام، وهو الذي سيعيدنا لأكل القوي الضعيف، قالوا لن نقبل إعادة بناء هذه المنظومة على ما كانت عليه.


ماذا نفعل؟ تذكروا ذلك الرجل، تذكروا النبي المرسل الذي قال لهم كلمة ووصف لهم هذا الدين الجديد الذي يؤاخي بين الناس، الذي لا يؤمن بالفروق العرقية، وحكم الأكابر الظالمين المرابين، هذا الذي جاء من أجل بسط الرحمة والأخوة والعدل بين الناس.


انتبهوا بأن هذا المشروع الذي يصلح لهم، فرفضوا إذن إعادة بناء المنظومة القديمة، وذهبوا لرسول الله عليه الصلاة والسلام، ليأتوا بفكرته ثم يأتوا به. ثم ذهب وفد بيعة العقبة الأولى ثم بيعة العقبة الثانية وجاءوا برسول الله إلى المدينة وعندئذ بنى عليه الصلاة والسلام دولته.

الشاهد في ذلك أيها الإخوة أن الذي وقع بين الأوس والخزرج لا علاقة له بذلك التدمير الكلي للمنظومة لقتل كل الأكابر من القوم، لا علاقة له بكل هذه التحولات التي وقعت. إنما فعل شيئا واحدا فقط: تحولات فكرية واقتصادية. 

التمكين الحضاري يأتي بالصبر والمجاهدة والكفاح

لذلك نقول لكم أيها الإخوة الأفاضل مهما كانت مصاعب الأمر الذي نمر به نحن، علينا أن نأدي الذي علينا وأن نقول كلمتنا، وأن نواصل عملنا بتخطيط وتَدبر وإبْصار، إن الله سبحانه وتعالى سينصرنا بإذن الله تعالى بتحولات هو الذي يتحكم فيها، لهذا يقول الله سبحانه وتعالى في محكم التنزيل (قد خلت من قبلكم سنن فسيروا في الأرض وانظروا كيف كان عاقبة المكذبين هذا بيان وهدى وموعظة للمتقين ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين) [سورة آل عمران الآية: 137- 138- 139] ما دمتم ملتزمون بدِينكم وايمانكم فأنتم الأعلون (وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين إن يمسسكم قرح فقد مس القوم قرح مثله) [سورة آل عمران الآية 139- 140] لستم أنتم فقط من يتألم، من يتعب، من يعاني، من يخاف.

القوم الذين يحاربونكم يعيشون أزمات كبيرة، يعيشون مآسي كبيرة الصراعات بينهم لا تتوقف، التفكك الاجتماعي في داخلهم لا يتوقف، أزماتهم الاقتصادية عميقة وكبيرة جدا ولا تتوقف، هم ينقصون ونحن نزيد بإذن الله تعالى (إن يمسسكم قرح فقد مس القوم قرح مثله وتلك الأيام نداولها بين الناس) ونحن نزيد لتصل دولتنا بإذن الله تعالى، ودورنا الجديد بإذنه تعالى (وتلك الأيام نداولها بين الناس وليعلم الله الذين آمنوا ويتخذ منكم شهداء والله لا يحب الظالمين) [سورة آل عمران الآية: 140]، والله يقول هنا لا يحب الظالمين أي الدائرة ستدور على كل الظالمين سواء من كان كافرا، أو من أعلن إسلامه وهو ظالم للناس وللخلق (وليمحص الله الذين آمنوا) [آل عمران الآية: 141] كل الذي يصيبنا إنما هو تمحيص (ويمحق الكافرين) [آل عمران الآية: 141]، نحن ما يحدث لنا تمحيص ولكن ما يحدث لمن يحاربنا هو محق أيها الإخوة، هذه الأزمات الاقتصادية التي تصيبهم محق، هذه الصراعات التي بينهم محق، وإنما نحن أيها الإخوة نُمحص، نُبتلى حتى بإذن الله تعالى نستطيع أن نلتقي بالسنن (أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم ويعلم الصابرين) [آل عمران الآية: 141].

من كان يعتقد أن التمكين والميلاد الحضاري يأتي بدون صبر، وبدون نضال وبدون كفاح فهو مخطئ وغير مدرك للسنن.

الرسول عليه الصلاة والسلام تألم، حزن، أصابه شيء عظيم جدا، يقشعر الجلد لما يعلم الإنسان المؤمن كيف خاطبه الله عز وجل لما أصابه الأسى، لما أصابه الحزن، هذا الصد العظيم كيف يعالج الله سبحانه وتعالى حزنه فيقول له (قد نعلم إنه ليحزنك الذي يقولون فإنهم لا يكذبونك ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون) [سورة الأنعام الآية: 33]، إننا نعلم بأنك تحزن كما نحزن نحن الآن على ما يقولونه عنا، وما يفعلونه بنا وهم يعلمون، أو الذين يحاربون الاستئناف الحضاري للأمة، يعلمون بأننا على حق ولكنهم يكابرون (فإنهم لا يكذبونك ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون).

استمعوا أيها الإخوة الأفاضل ماذا يقول الله لرسوله (ولقد كذبت رسل من قبلك فصبروا على ما كذبوا وأوذوا حتى أتاهم نصرنا ولا مبدل لكلمات الله) [سورة الأنعام الآية: 34]، الأنبياء من قبلك صبروا وعليك أن تصبر مثلهم، وقد أوذوا وبعضهم قتل (فصبروا على ما كذِّبوا وأوذُوا حتى أتاهم نصرنا ) [سورة الأنعام الآية: 34]، يعني هذا الذي أصاب الأنبياء هو الذي يصيبك أنت، وهو الذي يصيب من يسير على طريقك ولن يبدل الله كلماته، هذه سنن لن تتغير ولا تتبدل (ولقد جاءك من نبإ المرسلين) [سورة الأنعام الآية: 34] ثم يقول هذه الكلمات الشديدة التي أختم بها يقول الله سبحانه وتعالى (وإن كان كبر عليك إعراضهم فإِن استطعت أن تبتغي نفقا في الأرض أو سلما في السماء فتأتيهم بآية ولو شاء الله لجمعهم على الهدى فلا تكونن من الجاهلِين) [سورة الأنعام الآية: 35] يتعجب الإنسان لهذا الخطاب الشديد لرسول الله.

قول له إذا لم ينفعك الكلام والأمثلة التي ضربتها عن الأنبياء ولم يداوي جراحك، وبقيت في هذا الضيق، هيا اخرق الأرض، أو اصعد في السماء عساك تأتيهم بشيء تقنعهم به، وتجعلهم يسمعونك فافعل، في الأخير يقول له (فلا تكونن من الجاهلِين). أيها الإخوة الأفاضل إن الشاهد فيما قلته لكم يجب أن نقتننع بأن الأمة تتوجه نحو صعودها الحضاري الجديد، والمرحلة اليوم بعد قرن الصحوة هو قرن الدولة، الانتقال من فقه الدعوة إلى فقه الدولة، ضمن الرؤية الإسلامية العامة، وأن هذا الانتقال صعب ودونه قطع الرقاب، ومشاكل كبيرة جدا، ولكن يجب أن نؤدي الذي علينا وسننتصر حينما نرتقي بالسنن كما ارتقى بها رسول الله صلى الله عليه وسلم، الذي لم يكن له دور فيما حدث في المدينة، ولكن المدينة بما حدث فيها هي التي حملته.

نسأل الله سبحانه وتعالى أن يثبتنا على هذا الطريق، وأن يجعلنا دائِمي الإيمان بإمكانية اسْتئنافنا الحضاري، بإمكانية الانتقال بهذه الفكرة للدولة لتصنع نهضة، ثم الرجوع إلى الإقلاع الحضاري من جديد. اللهم وفق ولا حول ولا قوة إلا بالله والسلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته.