شهدت مسيرة الإنسان عبر التاريخ تداولاً مستمراً للحضارات، قامت فيها أمم وانهارت أخرى وفق سنن ربانية ثابتة لا تتخلف، والقرآن الكريم يكشف عن قوانين وسنن ربانية تحكم الأمم والمجتمعات والحضارات البشرية، من أهمها سُنّة الاستبدال والأجل الجماعي، حيث تُهلك الأمم الظالمة بعد قيام الحجة عليها، ويستخلف الله أقواماً أصلح منهم ليواصلوا عمارة الأرض، ويقدّم نموذج قوم نوح كمثال واضح على اجتماع أسباب الهلاك وتحقق ميعاد السقوط، ثم انبعاث حضارة جديدة قائمة على التوحيد والعدل. هذا المقال يتناول هذه السنن الإلهية، موضحاً أثرها في مسار الحضارات الأولى، وكيف تشكّل إطاراً لفهم حركة التاريخ الإنساني.
قال تعالى: ﴿وَإِن تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُم﴾ [محمد: 38]، فهذه الآية تبين أن سنة الله مضت في الاجتماع البشري أنه ما أهلك قوماً إلا أنشأ من بعدهم قوماً آخرين، يقومون بعمارة الأرض، ذلك أن ذهاب أمة وإنشاء أخرى لا يكون عبثاً وصدفة، ولكنه سنة الله في الأمم والدول لتتجدد خلايا الإنسانية، وتتداول الحياة الحضارية بين البشر، ليستمر العالم قائماً على عقيدة سليمة وأسس صحيحة صالحة للبقاء (1).
وإن الحضارات كما أن لها سنن قيام وسقوط، فلها سنن تجدد وانبعاث واستبدال، وقد تحدث القرآن الكريم عن الاستبدال الحضاري وهذا ما حدث لقوم نوح حيث تجمعت فيهم أسباب الهلاك فمضت سنة الله فيهم بالطوفان، ولكي تستأنف الإنسانية رسالتها استبدلهم الله بنوح عليه السلام والذين آمنوا به، وكان نوح عليه السلام ومن آمن معه تميزوا بتوحيدهم لله ومنظومة سلوكية أخلاقية ربانية، متمسكون بالحق وصابرون عليه وأجرى الله قدره عليهم ومكن لهم في الأرض، وجمع الله فيهم شروط التمكين وأسبابه، وسنتحدث بإذن الله عن حضارة السلام والبركات التي أسسها نوح عليه السلام بعدما أبعد الله القوم الظالمين واستبدلهم بعباده الصالحين.

قال تعالى: ﴿وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ﴾ [الأعراف: 34 ]، فكما جعل الله لكل فرد أجلاً تنتهي به حياته الدنيا جعل سبحانه للأمم والحضارات آجالاً تنتهي إليها، وتسقط في نهايتها ويسدل الستار عليها، وكذلك لحركة التاريخ الجماعي للأمم سنن كثيرة دقيقة تسير عليها، قدّرها الحكيم العليم لا تقصر عنها ولا تتجاوزها، أوقاتها محددة وأحداثها مقدرة مكتوبة ﴿وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ﴾ (2).

ونظراً لارتباط هذه الآجال بمواعيد ثابتة محددة في علم الله كجزء من نظام كوني متماسك ووفق مقاييس زمنية قد تبدو للإنسان ـــ ذي القدرات النسبية المحددة ـــ طويلة، ونظراً إلى أن إرادة الله سبحانه وتعالى وحكمته في خلقه شاءت أن تمد في هذه الأجيال كي تمنح لكل قوم أو أمة أن تكفر عن ظلمها وطغيانها، وأن تسعى لالتزام الطريق العادل المستقيم، ونظراً لهذا وذاك يتصور البعض أنهم بمنأى عن عقاب الله تعالى، وأنه لا تدهور ولا سقوط ﴿يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِّنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ﴾ [الروم 7].
ويتطرف البعض الآخر، فيستعجلُ المصيرَ قبل تحققه على سبيل التحدي والاستفزاز ﴿وَإِذْ قَالُوا اللَّهُمَّ إِن كَانَ هَٰذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِندِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِّنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ﴾ [الأنفال: 32]، إلا أن أولئك وهؤلاء لم يدركوا أن كتابهم لم يبلغ أجله، وأنه إذا جاء فليس أمامهم إلا أن يعانقوا مصائرهم التي صاغوها بأيديهم سلفاً، كما في قوله تعالى: ﴿وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِم مَّا تَرَكَ عَلَيْهَا مِن دَابَّةٍ وَلَٰكِن يُؤَخِّرُهُمْ إِلَىٰ أَجَلٍ مُّسَمًّى فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ﴾ [النحل: 61] (3)، وقال تعالى:  ﴿لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ إِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَلَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ﴾ [يونس: 49] ، أيّ: لكل قوم ميقات لانقضاء مدتهم وأجلهم في الحياة، فإذا جاء وقت انقضاء أجلهم وفناء أعمارهم لا يستأخرون ساعة، والإمداد بالساعة أقل مدة من الزمن ولا يتقدمون بالقدر نفسه، لأن الله قضى بذلك منذ حين (4).
يقول الله تعالى: ﴿وَمَا أَهْلَكْنَا مِن قَرْيَةٍ إِلَّا وَلَهَا كِتَابٌ مَّعْلُومٌ * مَّا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهَا وَمَا يَسْتَأْخِرُونَ﴾ [الحجر: 4، 5]، بيَّنت الآية أن كل القرى الهالكة كان لها أجل مقدر في أسباب هلاكها، وذلك لما أقام الله الحجة على أهلها بتقدم النذر وفرص الإمهال وسنن الاستدراج (5).

 وتبقى سنة الله ثابتة وهي أن هلاك الأمم مرهون بأجلها الذي قدره الله لها، مرتب على سلوكها وأعمالها، وعلى اعتقادها وقصورها، ومن خلال هذا تنفذ مشيئة الله، فلا يغر المكذبين تخلفُ بأس الله عنهم فترة من الوقت، ومن عدل الله أن يذوق كل واحد جزاء عمله وتصرفه، وسنة الله في طريقها المعلوم تمضي رويداً رويداً نحو الأجل المقدر الذي يمنحه الله لتلك القرى، وحتى لا تبقى بقية خير عند ذلك تبلغ الأمة أجلها وتنتهي إلى مصيرها (6).

وما من أمة عرفت الحياة ثم تمردت عن الحق وتولت عن العدل إلا والله مهلكها قبل يوم القيامة أو معذبها، وهذا قدر مقدر في الكتاب المسطور، قال تعالى: ﴿وَإِن مِّن قَرْيَةٍ إِلَّا نَحْنُ مُهْلِكُوهَا قَبْلَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ أَوْ مُعَذِّبُوهَا عَذَابًا شَدِيدًا كَانَ ذَٰلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا﴾ [الإسراء: 58]. 

وهذا ما حدث لقوم نوح، حيث بعث الله لهم رسولاً لهدايتهم فردوا دعوته كبراً وعناداً، وأعرضوا عنها جحوداً وطلبوا منه تعجيل العذاب وكذبوا وجحدوا وظلموا وبطروا وأترفوا...إلخ، فوقع عليهم العقاب الإلهي بسبب ذنوبهم مع تقدير الله لهم وفق سنة ﴿ وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ ﴾ فعلم الله لا يتبدل وسنته لا تتحول وهي جارية وحاكمة وفق مشيئته وإرادته وعلمه وحكمته سبحانه وتعالى.