هناك ثلاثة مستويات عظيمة جدًا في غزة، لا تنتمي للعصر الحديث مطلقًا، وتثبت بشكل لا لبس فيه أن العالم فعلًا يحتاج أن يتعلم من هذا النموذج في هذه الثلاثية بالذات.
أولًا: ارتباط الأيديولوجيا بالوطن بشكل لا تكاد تفرّق فيه بين السلوك، هل مبعثه أيديولوجي أم وطني؟ هذا الموضوع معقد جدًا، وطالما بُحث كثيرًا، وغالبًا ما تغلب الأيديولوجيا البعد الوطني عند البعض، ويمحو البعد الوطني أية نكهة أيديولوجية عند البعض الآخر.
لكن القدرة على إيجاد صيغة يخدم فيها البعد الوطني الأيديولوجيا الفعّالة من جهة، وتخدم فيها الأيديولوجيا البعد الوطني من جهة أخرى، فهذا نادر جدًا، إلا أن غزة أثبتته عمليًا بشكل يكاد يكون الأوحد في هذا المستوى من التنسيق.
ثانيًا: ارتباط الثقافة بالمجتمع بالسلوك بالعفوية المطلقة.
حين تظهر الثقافة بشكل عفوي عند الأطفال والنساء والشيوخ والعجائز والإعلامي والأكاديمي والطبيب والسياسي والمقاتل والفنان... بشكل متّسق تمامًا يربطه خيط واحد جامع، حتى وإن كان فيه اختلاف من نوعٍ ما، فهو في النهاية يصب في ثقافة واحدة، وتستطيع كل فئات المجتمع التعبير عن مكنونها واهتمامها وهمومها وأفراحها وما إلى ذلك، ويتم كل ذلك بشكل عفوي تمامًا في السِّلم والحرب معًا، رغم كل الفظائع، فهذا استثنائي بقدر هائل جدًا، وليس موضوعًا متصنعًا، ولا هو ثقافي كلاسيكي فيه ما لا يُحصى من مساحيق التجميل الشكلية.
هذا أيضًا يمكن أن تعتبره واحدًا من النماذج الاستثنائية في العالم أجمع، ذلك أن التصاق الرباعية مع بعضها البعض امتحان عسير جدًا في أقصى المستويات. يمكن أن تجد اثنين أو ثلاثة معًا، لكن ثقافة مع مجتمع بمختلف أطيافه مع سلوك مع عفوية، هذه السلسلة يمكنني القول مطمئنًا إن اجتماعها معًا لا يكاد موجودًا في مجتمع آخر.
ممكن أن تجد الثقافة ولكن لا تجدها في كل المجتمع، وممكن أن تجدها في مجتمع ما بشكل واسع ولكن لا تجد السلوك متناسقًا معها، وحتى إن اجتمع ثلاثتهم فمن النادر أن يكون ذلك بشكل عفوي. ما معنى عفوي؟ معناها ليس بالضرورة مدركًا لكونه مثقفًا أو أن سلوكه سلوك مثقف. هنا الفرق. يطلقون عليها في علوم الإدارة [مهارة في اللاوعي].
ثالثًا: القدرة على تجاوز الثقافة والسلوك إلى الجماليات والفنون، وهذا موضوع ليس كبيرًا فقط، بل هو عظيم وصادم.
أولًا، الفن لمن لا يعرف هو نهاية الإبداع وخلاصة التمكن من الشيء، وما من شيء إلا وينتهي به الإبداع إلى الفن.
فالسياسي المبتدئ مختلف في سلوكه بشكل كبير جدًا عن السياسي المتفنن في السياسة، والرياضي المبتدئ مختلف عن الرياضي الفنان، وكذلك الإعلامي، والأديب، بل حتى الشيخ الشرعي، يمكن أن تجد جامدًا مبتدئًا حرفيًا ظاهريًا، ويمكن أن تجد شيخًا فنانًا في توظيف الأصول والقواعد وإنزالها على الواقع المعقد بشكل احترافي عظيم.
ولذلك سمّى الغزالي رحمه الله كتابه فن الذكر، وسمّى سيد قطب رحمه الله كتابه التصوير الفني في القرآن الكريم.
شعب غزة مبدع وفنان على مستويات لا حصر لها. رأينا ذلك حتى في القتال المرير: فنون في التصدي والخداع والإخراج وغيرها، ليس بشكل عابر، بل بشكل دائم لا يكاد يتخلف مرة واحدة.
رأينا الفن حتى في التعبير عن الألم والمعاناة، ورأينا فنونًا من الصبر والاحتساب، وجماليات وذوقيات حتى في البيوت المدمّرة والخيام المهترئة. كل هذا ليس تصنّعًا، بل هو الإشعاع الحضاري والتشبّع الثقافي حين يخرج من الشعب رغمًا عنه، مثلما تضيء الشمس رغمًا عنها!
هذا الشعب أوتي كل ملكات التجديد الحضاري، وعلى الرغم من أنه يبدو مطحونًا مقهورًا في غاية البؤس والاحتياج، فإنه الشعب الأكثر حرية، والأكثر عنفوانًا، واتساقًا مع نفسه، وجماليةً وإبداعًا.
ولولا أن الله قيّضه ليقف في وجه الكيان المجرم والحضارة الغربية الفاشية، لأكلت الأخضر واليابس في المنطقة، ولَقضت على مستقبل أمة بأكملها، ولكن أكثر الناس لا يعلمون.