الحمد لله رب العالمين الملك الحق المبين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين.

وبعد،  قد يتبادر إلى الذهن سؤال من قبيل هل الصلاح فطرة في الإنسان، أم هو أمر مكتسب. 

     ومما لا شك فيه أن الجواب على هذا السؤال يتطلب بحثا عميقا ودقيقا، بغية تبين وبيان حقيقته، وهذا المقال محاولة نلتمس الجواب عنه وإبداء الرأي حول هذا الموضوع. 

      بادئ ذي بدء، لقد خلق الله الإنسان في أحسن تقويم، وفطره على طبيعة نقية خالية مما يشوه هذه الفطرة، جاء في الحديث

"قالَ النبيُّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: ما مِن مَوْلُودٍ إلَّا يُولَدُ علَى فِطْرَةِ، فأبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ أوْ يُنَصِّرَانِهِ، أوْ يُمَجِّسَانِهِ، كما تُنْتَجُ البَهِيمَةُ بَهِيمَةً جَمْعَاءَ، هلْ تُحِسُّونَ فِيهَا مِن جَدْعَاءَ" (أخرجه البخاري) خَلَق اللهُ عزَّ وجلَّ الإنسانَ في أحسَنِ تَقويمٍ، على الفِطْرةِ النَّقيَّةِ الخاليةِ مِن شَوائبِ الكُفرِ، ومِن دَنَسِ المعاصي، ومِن ذَمِيمِ العاداتِ"(1)

الشاهد عندي في الحديث أعلاه أنه أشار إلى أن الإنسان يولد ومعه من الأمور ما هو فطري من عند الله ومنه ما هو مكتسب من خلال تربية الآباء.

 وفي هذا الصدد يقول أحد المهتمين بمجال تربية الأولاد في الإسلام "من الأمور المسلم بها لدى علماء التربية والأخلاق أن الطفل حين يولد يولد على فطرة التوحيد، وعقيدة الإيمان بالله، وعلى أصالة الطهر والبراءة... فإذا تهيأت له التربية المنزلية الواعية، والخلطة الاجتماعية الصالحة، والبيئة التعليمية المؤمنة... نشأ الولد ـ لا شك ـ على الإيمان الراسخ، والأخلاق الفاضلة، والتربية الصالحة." (2)

وفي القرآن الكريم نقرأ قوله تعالى"وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا" (3) جاء في تفسير المرحوم عبد الله كنون أي خلقها في أحسن تقويم. والمراد بها الجنس كما قال "عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا أَحْضَرَتْ" (4) فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا" أي بين لها طريق الخير وطريق الشر بإرسال الرسل والكتب السماوية "قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا" (5) الشاهد من الآية الكريمة أن الله تعالى لما خلق النفس الإنسانية، جعل فيها مكامن الخير والشر على حد سواء، وبين للإنسان سبل تزكية النفس وسبل تجنيبها الخيبة، وترك للإنسان المسؤولية على نفسه، أي أن الإنسان هو من يحدد الاتجاه الذي سيسلكه، إما طريق الخير والنجاة الذي به صلاحه أو طريق الشر التي قد تسلك به إلى فساده وهلاكه. 

ونذكر في هذا الصدد قوله تعالى "وَقُلِ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ ۖ فَمَن شَاءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاءَ فَلْيَكْفُرْ"(6) فهنا تصريح بحرية الإنسان في اختيار المعتقد، ولكن ما يهمنا منها هو الإشارة إلى مسؤولية الإنسان على تصرفاته المكتسبة من قبل نفسه.

استنادا إلى ما سبق يمكن القول بأن الصلاح فطري في الانسان، بدليل قوله عليه السلام "كُلُّ مَوْلُودٍ يُولَدُ عَلَى الفِطْرَةِ" وهو كذلك مكتسب بدليل الحديث "فأبواه…" والآيتان الكريمتان اللتان صرحتا بمسؤولية الإنسان على تصرفاته، كونه هو من يحدد صلاح نفسه أو إفسادها. 

وإذا سلم لنا هذا الزعم من منازع نقول إن هذا الطرح ـ من وجهة نظري ـ له ما يدعمه ويؤكده، ومن ذلك ما يلي:

  • دعوة الأنبياء والرسل: حيث بعث الله مبشرين ومنذرين إلى الناس مبلغين لهم رسالة الله، من أجل ارشادهم الى ما فيه صلاحهم، فمن أخذ برسالتهم صلح حاله واستقام، وبذلك يكون الصلاح قد اكتسب من خطى الرسل والانبياء. 
  • العلماء: لهم دور كبير في حمل الناس على الصلاح، عن طريق الإرشاد والتعليم للناس ما به يتحصل صلاحهم، فذلك دليل على اكتساب الصلاح.
  • الأسرة: رجوعا الى حديث الفطرة نجده يشير إلى دور الأبوين في صلاح الإنسان، إذ هما من يعملان على جعله يهوديا أو نصرانيا، بمعنى آخر فالأسرة هنا تلعب دور الموجه في تعاليم الحياة، فهي من تمنحنا فردا صالحا، كما يمكن أن ينشأ فاسدا، بحسب طبيعة التربية التي تلقاها. 
  • مؤسسات التنشئة الاجتماعية: بما فيها المدرسة، المسجد... تعتبر المدرسة من الوسائل الهامة في التربية والإصلاح، من خلال ما تقدمه من معارف وقيم ومهارات، تسهم في توجيه الإنسان إلى ما من شأنه تحقيق صلاحه، كما أن المسجد مدرسة تربوية لما يقدمه من مواعظ وإرشادات وغيرها لتوجيه الإنسان إلى سبيل الصلاح، في حال أخذ كل ذلك بقوة، فإنه لا محالة يؤدي إلى الصلاح.
  • الرفقة أو الصحبة الصالحة: الصاحب صاحب والمرء على دين خليله، ففي الحديث الذي رواه أحمد وغيره أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "المرء على دين خليله فلينظر أحدكم من يخالل". وإذا نظرنا إلى هذا المسلك وجدناه طريقا مجديا يروم صلاح الإنسان، وتحديدا عندما تكون الصحبة صالحة. 
  • وسائل الإعلام: فهي تمارس دور التوعية والتحسيس، فالناس على دين إعلامهم كما عبر عن ذلك أحد أهل العلم، ولا شك أن الإعلام سيف ذو حدين، انطلاقا من طريقة الاستخدام التي تسير بالإنسان نحو الصلاح أو الفساد، فمتى بذلت جهدا لصلاح الإنسان، لا ريب ستصل الى الهدف.

   بالإضافة إلى بعض المسالك التي من شأنها ترسيخ الصلاح في نفس الإنسان، تأسيسا على ما تقرر سابقا من أن الصلاح مكتسب لا يتحقق إلا بفعل فاعل.     

     وختاما، حاول المقال الذي بين أيديكم تقديم إجابة عن سؤال الصلاح، وما إن كان فطريا أم مكتسبا، حيث تبين من خلال التحليل والعرض أن هذا الأخير فطري ومكتسب في الآن نفسه.