إنّ الإدراكات العادية الّتي يحصّلها الإنسان عن طريق الحسّ أو عن طريق التفكر والإستدلال، هي ثمرة لإعمال  أدوات المعرفة الحسيّة والعقلية، فإدراك المبصرات والمسموعات وغيرها، موقوف على إعمال الحواس. كما أنّ الوقوف على الأُصول الفلسفية والعلمية، نتاج إعمال الفكر والعقل. وبالجملة، فإنّ كلَّ ما يدركه الإنسان، نتاجُ أدوات المعرفة بأشكالها المختلفة، حسيّة كانت أو عقلية أو وجدانية. 

وأمّا الوحي الّذي هو مصدر الأديان الإلهية ورسائله السماوية، فهو يجسد الوسيلة التي يتصل بها الإنسان بالله  جل وعلا، ذلك أن الله سبحانه أرسل رسله من أجل توجيه الناس وإرشادهم لما فيه صلاح دينهم ودنياهم في العاجل والآجل. 

وإن القرآن الكريم هو وحي من الله فمنه بدأ وإليه يعود، وهو حجة الإسلام الخالدة إذ إستطاع أن يقهر العرب ببلاغتهم وشعرهم وفنونهم، حيث جاء على قوانينهم وإستعمالاتهم، مع هذا كله شهدوا أنهم لم يعهدوا كتابا مثله من قبل فوقفوا أمامه موقف المتحير المستسلم.

 وبعد إنتشار الإسلام في كل أقطار العالم صار القرآن محط إهتمام الباحثين، ومحورا أساسيا للدارسين، مؤملين في بيان قراءاته، و مضامينه، ومعانيه، وأوجه إعجازه، ولم يتبادر لكبيرهم أو صغيرهم أدنى شك في مصدرية هذا القرآن. 

ولكن في عصرنا الحديث ومع ظهور التيارات الإلحادية، والحركات الإستشراقية بدأ التشكيك يتسلل ويتسرب إلى القرآن، حيث ظهرت تفسيرات جديدة لم تسمع من قبل لظاهرة الوحي، فقالوا إنه كتاب خاص بالنبي بعد أن عاش تجربة روحانية مثالية عالية على مستوى الصفاء، فاستطاع من هذ التجربة أن يأتي بهذا الكتاب العظيم.

 وقال البعض أن الوحي هو حالة من الصرع تصيب النبي، وقال آخرون أنه إلهام شعري، إلا أن أبرزها وأكثرها إنتشارا ما قاله أصحاب نظرية النبوغ حيث نفوا الوحي قطعا، وقالوا هو حالة من النبوغ والعبقرية عاشها النبي ومن قبله الأنبياء السابقين إذ امتلكوا عقولا مشرقة هدتهم إلى الصلاح فأرادوا هداية الناس معهم. 

وسنتناول  في هذا البحث اليسير ما يلي:

  •  مفهوم الوحي في اللغة والاصطلاح.
  •  وحقيقته واستعمالاته في القرآن وأنواعه التي يتم بها.
  • الوحي عند اليهود والنصارى.
  • الوحي في الفكر الإستشراقي.
  • نظرية النبوغ في الفكر الإستشراقي.
  • تحليل نظرية النبوغ وبيان عورها.
  • انصاف بعض المستشرقين وإقرارهم  بأن الوحي حقيقة لايمكن إنكارها.

الوحي لغة:  قال الجوهري : (الوحي، الاشارة، والكتابة، والرسالة، والإلهام، والكلام الخفي، وكل ما ألقيته لغيرك، فقال: وحيت إليه الكلام وأوحيت، وهو أن تكلمه بكلام تخفيه) .

قال ابن فارس : (الوحي: إلقاء علم في إخفاء أو غيره إلى غيرك، وكل ما ألقيته إلى غيرك حتى تعلمه فهو وحي).

قال ابن منظور : (الوحي: الاشارة، والكتابة، والرسالة، والإلهام، والكلام الخفي، وكل ما ألقيته الى غيرك، يقال: وحيت إليه الكلام، وأوحيت ووحى وحيا، وأوحى أيضا، أي كتب).

الوحي اصطلاحا: لقد تعددت تعريفات العلماء في مصنفاتهم، وكلها تدور حول معنى واحد وهو اتصال بين الله وأنبيائه سواء بواسطة أو بغير واسطة، ونورد من تعريفاتهم ما يلي:

أن يُعلِم الله - تعالى - مَن اصطفاه مَن عباده كلَّ ما أراد اطلاعه عليه من ألوان الهداية والعلم، ولكن بطريقة سرِّيَّة خفيَّة غير معتادة للبشر، ويكون على أنواعٍ شتى، فمنه ما يكون مكالمة بين العبد وربه؛ كما كلَّم الله موسى تكليمًا، ومنه ما يكون إلهامًا يقذفه الله في قلب مُصطَفاه على وجهٍ من العلم الضروري لا يستطيع له دفعًا ولا يجد فيه شكًّا، ومنه ما يكون منامًا صادقًا يجيء في تحقُّقه ووقوعِه كما يجيء فَلَقُ الصُّبح في تبلُّجه وسطوعه، ومنه ما يكون بواسطة أمين الوحي جبريل - عليه السلام - وهو من أشهر أنواع الوحي وأكثرها، ووحي القرآن كله من هذا القبيل، وهو المصطَلح عليه بالوحي الجلي.

وبتعبير عام: الوحي كلام الله - تعالى - المنزَّل على نبي من أنبيائه، وهو تعريفٌ له بمعنى إسم المفعول؛ أي: الموحى.

إعلام الله تعالى أنبياءه الشيء إما بكتاب أو برسالة ملك أو منام أو إلهام.

إستعمالات الوحي في القرآن الكريم: لقد ورد لفظ الوحي في القرآن وما تصرف منه  في أكثر من ثمانية وسبعين موضعا ولكل منها دلالة متطلبة من قبيل السياق إلا أن معظم معاني الوحي القرآنية معبرة عن الأمر الإلهي للرسل بألفاظ مختلفة ومنها:  (أوحى)، (أوحيت)، (أوحينا)، (يوحي)، (نوحيه)، (نوحيها)،(أوحي)، (وحي)، (وحيه)، (وحينا). كما يمكن رصد مجموعة من المعاني للوحي نعرض منها ما يلي:

الإلهام الفطري: وهو في قوله تعالى: ﴿ وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أنْ أرْضعيهِ ﴾ (سورة القصص: الآية 7 ). فهو "إيقاع شيء في القلب يطمئنُّ له الصدر، ويخص به بعض أصفيائه

الإلهام الغريزي: كما في قوله تعالى: ﴿ وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْل أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ ﴾ ( سورة النحل: الآية 68). أما غير البشر فهو غريزة فطرية تجعلها تميز بين ما يضرها وما ينفعها.

الإرسال:  ومنه قوله سبحانه: ﴿ إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ ﴾ (سورة النساء: الآية 163). وقوله تعالى: ﴿ وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآَنُ ﴾ (سورة الأنعام: الآية 19 ).

الاشارة: وهذا في قوله تعالى: ﴿ فخرج على قومه من المحراب  فأوحى إليهم أن سبحوا بُكرة وعشيا ﴾ (سورة مريم: الآية 11 ). وقوله: ﴿ قَالَ ءايتك أَلاَّ تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ إِلاَّ رَمْزًا ﴾ ( سورة آل عمران: الآية 41)، والرمز الإشارة بالشفة والصَّوت الخفي.

الوساوس الشيطانية: وهذا في قوله: ﴿ وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا ﴾ (سورة الأنعام: الآية 112).

تقدير الخلق بسن السنن والقوانين: كما في قوله تعالى: ﴿ فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا وَزَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ ﴾ ( سورة فصلت: الآية 12).

الأمر:  كما في قوله تعالى ﴿ يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا * بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا ﴾ ( سورة الزلزلة: الآية 4-5).

القول: والكلام المباشر كما في قوله تعالى:  ﴿ فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى ﴾ ( سورة النجم: الآية 10)

الإعلام: بالإلقاء في الروع وهو خاص بالأنبياء: ﴿ وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلاَّ وَحْيًا ﴾ (سورة الشورى: الآية 51) .

أنواع الوحي: إن ضروب تكليم الله عز وجل للرسل والأنبياء جاء في القرآن الكريم على ثلاثة كيفيات، ذكرها الله تعالى في الآية الكريمة: ﴿ وَما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْياً أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ ما يَشاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ ﴾ (سورة الشورى: الآية 51). 

 إلقاء المعنى في القلب، وقد يعبّر عنه بالنّفث في الرّوع قال صلّى الله عليه وسلّم " إن روح القدس نفث في روعي: إن نفسا لن تموت حتى تستكمل رزقها وأجلها، ألا فاتقوا الله وأجملوا في الطلب"  وهو الإلقاء في القلب والخاطر.

الكلام من وراء حجاب، وهو أن يسمع كلام الله عز وجل من حيث لا يراه، كما سمع موسى عليه السلام نداء ربه من وراء الشجرة قال تعالى: ﴿ فَلَمَّا أَتاها نُودِيَ مِنْ شاطِئِ الْوادِ الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ أَنْ يا مُوسى إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ ﴾ (سورة القصص: الآية 30).

هو ما يلقيه ملك الوحي جبريل عليه السلام  المرسل من الله تعالى إلى رسول الله المصطفى، فيراه متمثلا بصورة رجل أو غير متمثل، ويسمعه منه أو يعيه بقلبه ما يقوله الملك. وهذا أكثر الأنواع وأشهرها حدوثا ووقوعا مع النبي صلى الله عليه وسلم، ووحي القرآن كلّه من هذا القبيل، وهو المسمّى: الوحي الجلي.
قال تعالى: ﴿ نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ *عَلى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ* بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ﴾ (سورة الشعراء الآيات: 193 الى الآية 195). 

وهذه ثلاث صور للوحي في التراث الإسلامي وهي تمثل حقيقة ذلك الإتصال وكنهه بين الله عز وجل ومن اصطفاهم من أنبيائه عليهم أفضل الصلاة والسلام.

مفهوم الوحي عند اليهود والنصارى: لقد جاء تفسير كلمة الوحي في قاموس الكتاب المقدس ما مضمونه : " تستعمل هذه الكلمة للدلالة على النبوة الخاصة بالمدينة أو الشعب، فالوحي هو الرئيس، أي أنه آية للشعب، فيراد بالوحي الإلهام، فيكون بهذا المعنى: هو حلول روح الله في روح الكتاب الملهمين، وذلك لإفادتهم بحقائق روحية أو حوادث مستقبلية لا يتوصل إليها إلا به" . ويأتي الوحي عند اليهود: بمعنى الإلهام أو إنبثاق فكرة في ذهن النبي. 

الوحي في فكر المستشرقين: يعود اهتمام المستشرقين بالوحي الى العصور الوسطى، محاولين إيجاد تفسير لهذه الظاهرة الربانية يتوافق مع أهداف الإستشراق، إلى أبعاد الوحي عن حقيقة صدوره الإلهي. 

وإن تناولهم لقضية الوحي يعد من أخطر القضايا، إذ نجدهم يبذلون كل الجهود في وضع كل الإحتمالات في التشكيك في مصدرية القرآن ومنشئه، فتارة يقولون أنه حالة مرضية، وتارة أنه شعوذة وتكهن، وتارة أنه نبوغ بشري عاشه النبي ومن سبقه من الأنبياء إذ تميزوا بكمال الرقي في العقل البشري، من تم ظهر ما سمي  عند المستشرقين بنظرية النبوغ.

نظرية النبوغ في الفكر الإستشراقي: إن الأساس الذي قامت عليه هذه النظرية هو عدم وجود جهة ما يتصل بها النبي حتى يأتينا بالوحي، بل هو من عنديته لا غير، وأن الأنبياء قبله ليسوا إلا أناسا  يمتلكون عقولا مشرقة ومشرفة تهديهم إلا ما فيه صلاحهم وسعادتهم، فوضعوا القوانين وسنوا السنن وشرعوا الشرائع التي من شأنها أن تهدي الناس وتقيم الحياة وتواكب تطوراتها، فتميزوا بالعبقرية والنبوغ وصفاء الروح وقوة الإرادة. ويقول المستشرق الألماني ثيودور نولدكه:

 " إن محمدا حمل طويلا في وحدته وحمل ما تسلمه الغرباء، وجعله يتفاعل وتفكيره، ثم أعاد صياغته بحسب تفكيره، حتى أجبره أخيرا الصوت الداخلي الحازم على أن يبرز لبني قومه"

كما يقولون "أن النبوغ عندهم أن النبي محمد إستعان بعبقرتيه وإعتمد على الكتب السابقة وما عندهم من أفكار، فاستفاد من الديانات السابقة عليه كاليهودية والنصرانية، وكان لإتصاله باليهود والنصارى اللذين إلتقاهم في أسفاره وخلواته، كما كان على إطلاع واسع بمجريات أحداث التاريخ للرسل والأنبياء، فبعبقرتيه ورؤيته النقدية إستطاع أن يغربل كل ما تلقاه ويبقى ما يخدم تصوراته"
وحاصل مذهبهم أنّه يتميز بين أفراد الإنسان أشخاص يملكون فطرة سليمة وعقولاً مشرقة، تهديهم إلى ما فيه صلاح المجتمع وسعادة الإنسان، فيضعون قوانين فيها مصلحة المجتمع، وعمران الدنيا. والإنسان الصالح الّذي يتميز بهذا النوع من النبوغ هو النبي. والفكر الصالح المترشح من مكامن عقله وومضات نبوغه هو الوحي. والقوانين الّتي يسنها لصلاح الإجتماع هي الدين.

تحليل نظرية النُبوغ: إنّ تفسير النبوة بالنبوغ ليس تفسيراً جديداً، وإن صيغ في قالب علمي جديد، فإنّ جذوره تمتد إلى عصر ظهور الإسلام حيث كان العرب الجاهليون يحسّون بجذبات القرآن وبلاغته الخلابة"، فينسبونه إلى الشعر الّذي كان الحرفة الرائجة عندهم، ويتبارز فيه النوابغ منهم والعباقرة، فكانوا يقولون كما جاء في التنزيل قوله تعالى: ﴿بَلْ هُوَ شَاعِرٌ فَلْيَأْتِنَا بِآيَة كَمَا أُرْسِلَ الأَوَّلُونَ﴾ ( سورة الأنبياء: الآية 5 ). ويرد عليهم القرآن الكريم بقوله: ﴿وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِر قَلِيلاً مَا تُؤْمِنُونَ﴾ ( سورة الحاقة: الآية 41 ). وبقوله: ﴿وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ﴾ (سورة يس: الآية 69 ). 

إنّ العودة إلى هذه النظرية والإهتمام بها ونشر إعتقادها بين جموع المسلمين ينبع من الإحساس بالصَّغار أمام الحضارة المادية المُدهشة، المرتبطة بأنواع:

أولا:  الإكتشافات والإختراعات في مجال الطبيعة، والقائلون بها جماعة من المسلمين الذين تعلقوا بهذه الحضارة ناسين شخصيتهم الإسلامية وهويتهم الدينية، فلجأوا إلى تفسير عالم الغيب والنبوة والدين والوحي بتفسيرات ملائمة للأُصول المادية، حتى يَجْبرُوا مركّب النقص في أنفسهم من هذه الزاوية، ويصيحوا على رؤوس الأشهاد بأنّ أُصول الدين لا تخالف الأصول العلمية الحديثة.

ولو صحّت هذه النظرية، لم يَبْقَ من الإعتقاد بالغيب إلاّ شيء واحد، وهو الإعتقاد بوجود الخالق البارئ، وأمّا ما سوى ذلك، فكلُّه بأكمله نتاج الفكر الإنساني الخاطئ بالنتيجة، لا يبقى إذعان بشيء ممّا أتى به الأنبياء من الأصول والمعارف في الدنيا والآخرة. 

وهذا في الواقع نوع إنكار للدين، لكن بصورة لا تخدش العواطف الدينية.

ثانيا: إنّ قسماً ممّا يقع به الوحي ويخبر به النبي، الإنباء عن الحوادث المستقبلية، إنباءً لا يخطئ تحققه أبدا.
هل يجرؤ نابغة من نوابغ المجتمع على الإنباء بنزول العذاب قطعاً بعد أيام ثلاثة ويقول: ﴿تَمَتَّعُوا فِي دَارِكُمْ ثَلاَثَةَ أَيَّام ذَلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوب﴾ ( سورة هود: الآية 65).

أو يخبر بهزيمة جيوش دولة عظمى في مدة لا تزيد على تسع سنين ويقول: ﴿الم * غُلِبَتِ الرُّومُ * فِي أَدْنى الأَرْضِ وَ هُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ * فِي بِضْعِ سِنِينَ﴾.  

إنّ النوابغ وإن سَمَوْ وعلو في الذكاء والفطنة، لا يخبرون عن الحوادث المستقبلية إلاّ مع الإحتياط والترديد، لا بالقطع واليقين وأمّا رجالات السياسة، اللاعبين بحبلها لمصالحهم الشخصية، سواء صدقت تنبؤاتُهم أم كذبت، فإنّ حسابَهم غيرُ حساب النوابغ.

ثالثا: لو كان لهذه النظرية نصيب من الحق أو لمسة من الصدق، فما لنا لا نرى حملة الوحي ومدعي النبوة ينبئون بشيء من ذلك، بل نراهم على العكس، ينسبون تعاليمهم وسننهم إلى الله سبحانه، ولا يدّعون لأنفسهم شيئاً.
هذا هو القرآن الكريم "الّذي جاء به النبي الخاتم" يصرّح بأنً ما حوى من الحقائق والقوانين، مّما أوحى به الله سبحانه، وليس من تلقاء نفسه ﴿إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَيَّ﴾ (سورة الأحقاف الآية:  9). وقوله ﴿إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى﴾ ( سورة النجم الآية: 4). ولا يشك أحد في أنّ الأنبياء عبادٌ صالحون، صادقون لا يكذبون ولا يفترون.

رابعا: فلو كانت السنن الّتي أتوا بها من وحي أفكارهم، فلماذا يغرون المجتمع بنسبتها إلى الله تعالى. فهذه النسبة، إن دلّت على شيء، فإنّما تدلّ على أنّهم كانوا يجدون في أنفسهم أنّ إدراكَ هذه السنن والمعارف، إدراكٌ وراءَ الشعور الفكريُ المشترك بين جميع أفراد الإنسان، وأنّ الطريق الّذي يصلون به إليها، غيرُ طرق الإدراك المألوفة.

ثم إنّ علماء النفس الذين بحثوا عن النبوغ، ذكروا لبُروزه وتفجرّه في الإنسان عواملَ، هي
1- العشق.
2- انهضام الحُقوق .
3- العزلة.
4- كثرة السكوت.
5-  التربية والتوجيه الأوّلي الّذي يتلقّاه الإنسان في صغره.

فإنّ هذه العوامل توجد في الإنسان إستغراقاً في نفسه، وتوقّداً في أفكاره، وتَمَيُّزاً في فطنته وذكائه. ولكن تفسير النبوات والرسالات، والقوانين والشرائع الّتي جاء بها الأنبياء المرسلون بهذا الطريق، أشبه بتفسير علّة تفجر البركان وثورانه، بسقوط طائر على فوهته.

هذا، ولو كانت شريعة النبي الخاتم صلى الله عليه وآله وسلم والكتاب المجيد الّذي جاء به، وليديْ النبوغ والعبقرية، فلماذا عجز عن مقابلته ومقارعته، النوابغ والعباقرة في جميع القرون إلى عصرنا هذا.

إنصاف بعض المستشرقين وإقرارهم  بأن الوحي حقيقة لايمكن إنكارها: رغم كل الإدعاءات والمحاولات من أجل تشكيك في نزول الوحي من عند الله، يأتي الإنصاف من بعض المستشرقين أنفسهم، إذ اعترفوا بنزول الوحي على النبي صلى الله عليه وسلم  وصرحوا بصدقه، بعد دراسات عميقة تميزت بالعدل والإنصاف، ولم يكتفوا بالإعتراف فقط بل كانت لهم ردود وكتابات تدل على صدق النبوات والرسالات وأن الوحي من عند الله عز وجل بعيد كل البعد عن النبوغ والعبقرية ونورد منها ما يلي :

يقول المستشرق ادوارد مونتيه: (كان محمد نبيا صادقا، كما كان أنبياء بني اسرائيل في القديم، كان مثلهم يؤتى الرؤيا، ويأتيه الوحي).كما تصدت المستشرقة الايطالية لورا للأقلام المغرضة حيث دافعت عن النبي صلى الله عليه وسلم وفندت كل الإدعاءات التي تشاء وتنشر عنه.

وقف المستشرق السويسري حنا مواقف نبيلة في الدفاع عن النبي صلى الله عليه وسلم بعد دراسة الوثائق التاريخية، ومن جانبه أكد  المستشرق جون وانتبورت أن الدراسات التاريخية تسقط كل الأكاذيب التي أشاعها أعداء الإسلام بقوله: ( بقدر ما نرى صفة محمد بعين البصيرة والتروي في المصادر التاريخية الصحيحة...وقد جاء بشر لا يسعنا أن نتهمه فيه).

يقول المستشرق كارل: " لقد أخطأ من قال إن نبي العرب دجال أو ساحر، لأنه لم يفهم مبدأه السامي، إن محمدا صلى الله عليه وسلم جدير بالتقدير، ومبدأه حري بالإتباع، ليس لنا أن نحكم قبل أن نعلم، وإن محمدا خير رجل جاء إلى العالم بدين الهدى والكمال، كما أننا لا نرى الديانة الإسلامية بعيدة عن الديانة المسيحية".

وممن دحض زعماء هذه النظرية المستشرق الروسي جان ميكائيليس (1717- 1791م)، وكذلك المستشرق الفرنسي دينيه، كما إعترف بصدق رسالته وتأكيد نزول الوحي عليه  كل من: توماس كارليل، ولامارتين ماري لوي دي، والكونت كاستري، والباحث الأوروبي سينكس، والفيلسوف الروسي تولستوي، والبروفيسور ليك، والانجليزي توماس آرنولد.

الخاتمة: وبعد هذا العرض اليسير للوحي في القرآن، وبين الوحي في الفكر الإستشراقي وخاصة نظرية النبوغ وتحليلها وبيان عورها وردود المستشرقين المنصفين عليها يتبين ما يلي:

_ أن موضوع الوحى من أكثر المواضيع التي تناولها المستشرقون في أبحاثهم.

_ أن الوحي أمر غيبي آت من جهة غير إنسانية، خارج عن مجال إرادة الرسول ونبوغه وعبقريته.

_ أن هناك تلازم بين الوحي والنبوة، فإثبات أحدهما هو إثبات للآخر.

_ إضطراب آراء المستشرقين حول موضوع الوحي يدل على عدم إطمئنانهم إلى رأي مناسب يرضونه.

_ وأخيرا أن معظم من وصف الرسول بالعبقرية والنبوغ، سعى إلى ذلك لقصره على البشرية، ونفى نزول الوحي عليه.