في ربوع نهر دجلة النهر الأزرق وإلى جوار نهر الفرات، بالضبط بين هذين النهرين اللذين يُمثلان شرايين الحياة لتلك المدينة المدورة، وفي عام 762 قام الخليفة العباسي أبو جعفر المنصور ببناء عاصمة الدنيا وعاصمة الثقافة والحضارة الإسلامية؛ المدينة التي بُنيت لتكون مهد سلامٍ له حينها؛ فإذا بها تترعرع بين ضفاف الأنهار وتتربى على يدي الخليفة أبو جعفر وابنه جعفر لِتشب رائدة في الفن والأدب والثقافة ولتتربع على عرش العلم والإبداع وتتزين بأبهى حُلل العِمارة. كانت بغداد مدينة السلام البؤرة التي تتجمع فيها رؤوس النور مُتمثلة في علماء الشريعة الإسلامية والفقه والدراسات الإسلامية إلى فنون الشعر والأدب والكتابة والخط لتعود وتنبثق مرة أخرى وتنشر أشعتها حول العالم مضيئة جميع معالم التحضر والإقدام والريادة في جميع المجالات مُستحوذةً بذلك على قلوب الحاضرة وساحرةً عيون الناظرين جاذبةً لِإبداعهم وفنهم موفرةً لهم البيئة الأمثل لِمُمارسة أنفسهم واكتشاف ذواتهم، حيث نجد أنه قد خرج من كنفها عُظماء الأمة ديناً وعلماً وفناً وأدباً، آسِرة بكل هذه الملامح أقلام الكُتاب مستلقيةً بين سطور المؤرخين ساكنةً في كُتبهم.
بعد أن ضاقت الأحوال بالخليفة أبو جعفر المنصور وثارت عليه بعض الطوائف قرر أن يبني حاضرة له يسود فيها السلام ويُشيدها حسبما يشاء، فبدأ يتجول بنفسه باحثاً عن موضع إستراتيجي ليُثبت فيه أقدامه ويجعله حاضرةً لخلافته، بعد تجوال الخليفة بين العديد من المناطق استقر أخيراً على المنطقة الواقعة على نهر دجلة وإلى جوار نهر الفرات لِأنه لاحظ خصب المنطقة مما يُسهل العيش على سكانها، كما أنه وجد أن الموقع يُسهم في الدفاع عن المنطقة في حالة الهجوم عليها إذ يُمثل النهران الخنادق التي تحول دون غزو المنطقة فهما كالسيفين يلمعان في عنق كل مُعتدٍ.
قام الخليفة بتسمية حاضرته الجديدة باسم دار السلام تيمُناً بالجنة التي من أسمائها دار السلام؛ وكما أنه سماها كذلك لِأنه حلُم بأرض تتوشح السلام وتتوسد الأمان بعيدة عن كل الإضطرابات القديمة.


وقد كان الشُعراء والأدباء يطلقون عليها بَغداد وأحياناً بُغداد وهذا الاسم الذي معناه هبة الله وعطيته، كما أنها كانت تُسمى أحياناً بالزوراء لِأن قِبلتها غير مُستقيمة ويحتاج المُصلي في مسجدها الجامع إلى أن ينحرف لليسار؛ أو أنها سُميت بالزوراء لِأن أبوابها الداخلية كانت مزورة على أبوابها الخارجية.


أشرف الخليفة أبو جعفر بنفسه على بناء حاضرته وأمر برسم بوضع خطوط من الرماد لِتُمثل الرسم الهندسي للمدينة وشاهد تخطيطها على الطبيعة ودخل من كل أبوابها وجعلها مُدورة حيثُ لم يُعرف مثلُها مدينة مُدورة في ذلك الوقت؛ وبُنِيت مُدورة لكي لا يكون الملك أقرب إلى جهة من أخرى إذا نزل وسط المدينة، كما رُعي في بنائها إنشاء مسجد جامع لها في مركزها ليكون دلالة على الطابع الإسلامي للمدينة.
بغداد المدورة

رسم توضيحي لمدينة بغداد المدورة في عهد الخليفة أبي جعفر المنصور

اختلفت نظرة أبو جعفر المنصور والخُلفاء العباسيين للفُرس عن نظرة الأمويين لهم حيثُ نفذوا لهم مطالبهم التي نادوا بها فقدموا إلى بغداد واستقروا بها، ولما كانوا عليه من التقدم الثقافي والحضاري شجع الخليفة المنصور على الاستقاء منهم وحرص على الارتواء من علومهم فشجع حركة الترجمة لِمُختلف العلوم؛ كما لم تُترجم بعض العلوم دوناً عن غيرها لما فيها من ضرر، ابتدأت حركة الترجمة بترجمة كُتب الطب مُتابعةً لبني أُمية ومن بعده المنطق الذي عُرف أبا جعفر بِأنه أول من ترجمه على يد كاتبه عبدالله بن المُقفع، كما أن الترجمة لم تقتصر على العلوم اليونانية فحسب بل امتدت لتطال العديد من العلوم الأخرى كالهندية وغيرها.

في سبيل إرساء دعائم الترجمة كأحد ركائز النهضة العلمية بالنسبة لحاضرة الخلافة العباسية قام الخليفة أبو جعفر المنصور بإنشاء بيت الحكمة وأشرف عليه بنفسه ليكون مركزاً للترجمة إلى العربية.

عند تولي الخليفة هارون الرشيد أمر الخلافة اهتم ببيت الحكمة وهو من أطلق عليها هذا الإسم حيثُ كانت في عهد الخليفة المنصور تُعرف كخزائن القصر وتحولت من مُجرد خزانة إلى الكتب القديمة إلى بيت للعلم ومركزاً للبحث العلمي والترجمة والتأليف والنسخ والتجليد، عُرف عن الرشيد حرصه على العلم ومجالسه وقرًّب إليه العلماء والفقهاء والشُعراء والأدباء، في بدايات عهده وقبل بيت الحكمة لم تكن هنالك مدارس يتعلم بها الطُلاب وإنما كانت هنالك الكتاتيب حيثُ يتثقفون بها ثقافة عامة ويحفظون القُرآن، وكانت مراكز الدراسة المتخصصة هي المساجد حيثُ تُدرس فيها مُختلف أنواع العلوم ويتخذها الطُلاب تخصصاً حسب ميولهم وفي عهده كان أبو حنيفة من المشايخ الذين يُديرون تلك الحلقات وبرز من حلقته القاضي أبو يوسف حيثُ كان يبرُز من تلك الحلقات الكثير من المواهب والعقول الفذة.
أشاع الخليفة ثقافة المجالس العلمية والمُناقشات وكان يحضرها وكبار رجالات الدولة ورجال العلم والدين ليكون بذلك كل ما يُقال في هذه المجالس مُتقناً ويُشجع الحضور على البحث والاستقصاء واستقاء العلم، وقد كان الرشيد من من أبلغ الناس كلاماً وأحسنهم نُطقاً وأكثرهم علماً وفهماً وقد كتب إلى وُلاة الأمصار كلها التي تمتد ضمن حدود خلافته يُطالبهم بتشجع العلم وتحفيز العلماء فقال: "فانظروا من التزم الأذان عندكم فاكتبوه في ألفٍ من العطاء، ومن جمع القرآن وأقبل على طلب العلم وعمر مجلس العلم ومقاعد الأدب فاكتبوه في ألف دينارٍ من العطاء، ومن جمع القرآن وروى الحديث ونفقه في العلم فاكتبوه في أربعة آلاف دينار من العطاء واسمعوا قول فُضلاء عصركم وعلماء دهركم، وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم" وبلغ من تشجيع الرشيد أن الطفل يحفظ القُرآن وهو ابن ثمان سنين ويروي الحديث ويتبحر في الفقه ويُناظر المعلمين وهو ابن أحد عشر عاما، كما جاء مُصاحباً لذلك ازدهار فن الوراقة الذي هو نسخ الكُتب وتصحيحها وتغليفها وكل ما يتعلق بإخراج الكتاب وانتشرت بين أروقة بغداد دكاكين الوراقين الذين يمتهنون هذه المهنة ويحترفونهاً فناً وعِلماً وحُباً.
واصل الخليفة المأمون حركة والده التشجيعية والتحفيزية لتسيير النهضة العلمية والثقافية والأدبية والحضارية جمعاء، فقد كان وقتها يُؤتي المؤلفين والمُترجمين أوزان كُتبهم ذهباً فأصبح للعلم شأن عظيم وانكب عليه الناس من الفئات وكل الأعمار.

وأصبحت بغداد مهد العلماء وكنفهم الدافئ الذي يضمهم ويرعى طموحهم ويُلبي احتياجاتهم الفكرية والعلمية فبرز فيها عُلماء أُضيئت الأرض بنور عِلمهم وارتاع الجهل من هيبتهم وبهاء عقولهم، ونتيجة لذلك غدت بغداد قبلة الباحثين عن العِلم وواحة العطشى للمعرفة والظل الذي يأوي إليه الفارين من هجير الجهل ودياجير الزور.

من بين الفقهاء الذين آوتهم بغداد نجد الإمام أبا حنيفة كما ذكرنا سابقاً والإمام الشافعي الذي وفد إلى بغداد بفضل نورها المُنبثق من صفحات كُتبها وقد خرج الشافعي من بغداد وهو يقول: "خرجتُ من بغداد وما خلفت فيها أتقى ولا أفقه من أحمد بن حنبل" لينضم بذلك إمام المذهب الحنبلي والخارج على المُعتزلة على قائمة عُلماء في كنف بغداد، كما كان من أبرز علماء بغداد في العلوم الطبيعة من فلك ورياضيات وفيزياء وجُغرافيا وواضع الكثير من أُسسها العالمُ أبو عبدالله محمد بن موسى الخوارزمي الذي انتقل إلى بغداد من بعيد حين فُولّي بيت الحكمة.
كما برز عُلماء أفذاذ في العديد من المجالات الأُخرى التي جعلت تزدهر يوماً عن يوم وعالِماً عن عالِم، نجد أن علم التاريخ من العلوم التي حظيت بنصيب لا بأس به في بغداد ومع نشأتها وقد كان التأريخ في ذلك الوقت مُنصباً على سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم وتبويب الحديث وتصنيفه ونقله وسير أبطال المُسلمين. ومن أشهر المؤرخين في ذلك الزمان محمد بن إسحاق بن يسار والهيثم بن عُدي، برز نجم علم الجُغرافيا كذلك في عهد المأمون ويُعزى ذلك إلى الاهتمام بالأراضي الأجنبية الذي أثاره التُجار والملاحون العرب، فجمع المأمون عُلماء عصره وطلب منهم أن يرسموا خريطة للعالم عُرفت وقتها بأنها أدق خريطة للعالم وسُميت بالمأمونية، كما أن عُلماء بغداد قاموا بقياس مُحيط الأرض وقدروه بنحو أربعة وعشرين ألف ميل حيث قاموا بإجراء هذه التجارب بين صحراء سنجار وأرض الكوفة واضعين آلاتهم حاسبين حساباتهم إلى أن وصلوا إلى أول قياس حقيقي أُجري كله مُباشرة وكانت نتيجته أن الأرض مُستديرة.
بيت الحكمة

رسم توضيحي لبيت الحكمة 

كان فيلسوف العرب أبو يوسف يعقوب بن إسحاق الكندي وجابر بن حيان والخوارزمي من العُلماء الذين برعوا في علم الفلك حساباً وتأليفاً وترجمةً عقلاً ونقلاً، حيثُ دُرس في ذلك الزمان جميع الظروف الطبيعية لجميع الكواكب وتم حساب المسافات بينها وبين الأرض والشمس كما توصل العُلماء إلى أن القمر هو الأقرب إلى الأرض وتليه بقية الكواكب تباعاً، كما أن الخوارزمي أيضاً قد وضع علم الجبر تماماً ونال عليه شهادة البراءة حيثُ أنه لم يُعرف علم الجبر من قبل الخوارزمي الذي أخذ عن الهنود والإغريق واليونان وبالتحديد من فيثاغورث الذي يُعتبر أُستاذ العرب وهو أكثر من تأثروا به.
قرًب الخُلفاء العباسيون الأطباء إليهم وأجزلوا لهم العطاء وحثوا على ترجمة كُتب الطب ومُمارسته فبرعوا في العديد من مجالاته المُتعلقة بالعيون والأسنان والتشريح وما إلى ذلك، ومن أبرز عُلماء بغداد في الطب العالِم والطبيب أبو بكر الرازي الذي قدم إلى بغداد طلباً للعلم فوضع تشريحاً دقيقاً للجسم وكان أول من اخترع خيوط الجراحة، وكان لعلم الصيدلة من المجد نصيب وكذلك علم الكيمياء الذي تربع على عرشه العالم سابق الذكر جابر بن حيان الذي توصل من خلال أبحاثه إلى تركيب الزئبق والكبريت وله العديد من التفاعلات الكيميائية والمعادلات وقد تُرجمت مؤلفاته إلى اللاتينية وظلت أهم مرجع للكيمياء زهاء الألف عام.
وبعد كل هذا ما يكون لنا الحديث عن بغداد ببريقها ولمعانها دون العروج على مواويلها وأشعارها وأدبها وأُدبائها ومجالسهم ولياليها السامرة، اتخذت بغداد من الموسيقى علماً يُؤرخ له ويُكتب فيه وعنه ومن أشهر الكُتب في هذا العلم ذلك الزمان كتاب النغم والإيقاع للخليل بن أحمد ورسائل الكندي التي تُعتبر من أهم كتب الموسيقى في تلك الفترة،

تبدو مدينة بغداد وكأنها الختم على كل قصيدة والوسم في حياة كل الشعراء والأدباء فلا تخرج القصيدة من فم قائلها إلا وكانت بغدادية الهوى فإما قلباً أو قالباً.


ونجد نُبغاء بغداد في الشعر أبو تمام والجاحظ والبُحتري وأبو العتاهية وأبو نواس والأصمعي، وبالتأكيد زرياب المُغني البغدادي الذي كانت الموشحات الأندلسية من بنات أفكاره والوتر الخامس في العود العربي من أبقى إضافاته.
وخلاصة القول وليس أوله ولا آخره أن بغداد المدينة المُدورة هي بؤرة الضوء في الحضارة الإسلامية وهي عنوان الثقافة العالمية وخلاصة تاريخها ومجمعٌ لها علماً وديناً وفناً ولحناً، وما نقول إلا كما قال نزار قباني ختاماً:
بغداد عشت الحسن في ألوانه
لكن حسنك، لم يكن بحسابي
ماذا سأكتب عنك في كتب الهوى
فهواك لا يكفيه ألف كتاب
يغتالني شعري .. فكل قصيدة
تمتصني .. تمتص زيت شبابي
الخنجر الذهبي .. يشرب من دمي
وينام في لحمي، وفي أعصابي