إن بمجرد إلقاء نظرة سريعة في حياتنا اليومية، نجد أن ثقافة الصورة أصبحت تلعب في حياتنا موقعا مركزيا لم تعرفه أبدا فيما مضى، فقد أصبحنا نعيش في زمن الصورة شئنا أم أبَيْنَا، نَأكُلُ بالصورة، نبيع بالصورة، نشتري بالصورة...، والأخطر من ذلك أن معرفتنا للغير، ورؤيتنا للآخر مبنية على الصورة؛ معرفتنا وفهمنا للغير مرتبطة بالصورة، ومبنية على الشكل الخارجي، مع طمسٍ كبيرِ المعالم للجوهر، فنعيش مع الصورة على وقع مثالية لربما مزيفة في كثير من أحيانِها؛ خذ معي إذن: فِيلتْرَات filtres، تَنْمِيقَات، إصلاح للوجه والشكل الخارجي، وبرامج تَحْسِين وفوتوشوب، إنها صور غير نزيهة ومُزَيّفَة، تَطبَعُهَا رُتُوشَات تصبح الأنا معها اصطناعية، وظهورها تَغِيبُ فيه الشفافية والوضوح، فيبدو العالم معها مُختَصَرا في صُورٍ مُزَيّفَة، وواقعٍ للأنا مُتَدَثّر بمَسَاحيق تجميل افتراضية.
انقلبت الموازين إذن رأسا على عَقِب، فَبَاتَ لِزَامًا علينا لمعرفة الغير والآخر؛ أن تأخُذَ له صورة فوتوغرافية أو يُرْسِلهَا لك، فَتُكوِّنَ عنه معرفة افتراضية انطلاقا من الصورة الافتراضية، هذه المعرفة الافتراضية قد تكون خاطئة وقد تكون صحيحة، لأن الشكل قد يُسَالِمُ الجَوهَر، وقد يُعَادِيه ويُخَالفُه في أحَايِين عَدِيدَة.
من قَبْلُ وَضَعَ الفيلسوفُ اليونانيّ سقراط لمعرفة الغير معرفة حقيقية، قولته الفلسفية الشهيرة المُتسِمَة بالحكمة: "تَحدّث حتى أراك"، لكن معرفة الأنا في الواقع الحديث عُكِسَت صورتها، فأصبحت معها القولة معكوسة بقولهم: "تَصَوّر حتى أراك"، ومن بعده وضع الفيلسوف الفرنسي ديكارت ما اشتهر بالكوجيطو لإثبات الذات والأنا بقوله: "أنا أفكر إذن أنا موجود"، هذه المعرفة التي سَتَتَحوّل في واقع الصورة وزَمَنِهَا، إلى ما أسْمَتْهُ الفيلسوفة الفرنسية إلزا غودار Elsa Godart: "أنا أوسِيلفِي إذن أنا موجود" "Je selfie donc je suis"، في مُحَاولة منها –في كتابها الذي يحمل نفس عنوان القولة- بَيَان أنّ الأنا أصبح يَعيشُ في العصر الافتراضي تحولات خطيرة، ومُتغيِّرَات جَسِيمَة، طغَتْ على الواقع الفكري والفلسفي والاجتماعي والاقتصادي في عصرنا الحديث.
هي إحدى التحولات التي شهدها عصر العولمة وفَرضَها علينا، فأصبح استهلاك الصورة يَعْرِفُ بين يَدَي الأنا اسْتِفْحَالا مُهْوِلاً لا مَنَاصّ منه، لقد انتقلنا مع العولمة من مرحلة الفقر الفوتوغرافي إلى مرحلة نَرْزَحُ فيها تحت وَطأة وَابِلٍ من الصور، فميلاد الصورة قد غَيَّرَ كثيرا من السّلوكيات، وخَلخَل توازن كثير من العادات؛ خذ معي مثلا فترة تناول أسرة لوجبة طعام ما، الكلّ مُنشغل بأخذ صورة له مع الطعام، والقيام بإرسالها إلى شبكات التواصل، لإثبات الذات والإنغماس في فرض هويته وحضوره الافتراضي، إنها هيمنة وتفضيل للشكل والصورة على الجوهر، إنها لحظة من لحظات استيلاب الأنا في العالم الافتراضي.
إن واقع الصورة اليوم، بَاتَ يَفرضُ نفسه بشكلٍ واقعيّ لا فِكَاكَ منه، إنه عالَم فَرضَ نفسه علينا، وأضحى أمَامَنا واقعًا لم يَعُد باستطاعتنا تجاهله، وهذا يُمثل مُنعَطفا وتَحدِّيا في نفس الوقت أمام الذات؛ إنّها أَنًا جديدة، سايرت تحولات العصر الحديث، فَبَاتَت ذاتا افتراضية دخلت مجال العالم الرقمي، وأسست من خلاله روابط جديدة مع نفسها ومع العالم ككل، مُحْدِثَة بذلك أشبَه ما يكون بقفزة انتقالية في إدْرَاك ما يحيط بها، إنها أشبه ما تكون بما أطلق عليها جاك لاكان Jacques LACAN بمرحلة المِرآة؛ وهي مرحلة تتعرف فيها الذات على نفسها من خلال رؤية انعكاسها في المرآة، وبالتالي الوصول إلى مرحلة الوعي بالذات من خلال هذه المرآة، وهذا بِعَيْنِه ما يُشَكِّلُهُ أخْذ صورة فوتوغرافية للذات وعرضها على الشاشة، إذْ تتعرّفُ من خلالها الذات على ذاتها، ويَدخُلُ معها أيضا في هذه المعرفة كُلّ غَيْرٍ شَاهدَ نفسَ الصورة، أعني تكوين رؤية وفكرة افتراضية على الذات من طرف الغير، لكن الفرق بين معرفة الذات لذاتها، هي معرفة افتراضية مَمْزُوجَة في نفس الوقت بِمَعْرِفَةٍ واقِعِيَّة، فليسَ أحَدٌ أعلم بالذات من الذات، أما الغير فمعرفته لتلك الذات تبقى معرفة افتراضية، فمَهْمَا حَاوَل الغَيْر الاقتراب من بناء تَصوّر ومعرفة واقعية من خلال الصورة الافتراضية، فإن نسبة نجاحه في مدى التطابق الافتراضي مع الواقعي تبقى ضئيلة. فالصورة هي لغة لها دلالات وإيحاءات، ولكنها دلالات غير مَحدُودَة، كُلٌّ يَفهَمُ منها ما يشاء، فهي قَابِلة للتأويلات إلى ما لا نهاية، إنها بدون دلالة ثابتة، إنها مَحْضُ تأويلات تُبْنَى على رؤية افتراضية قد تُطَابِقُ الواقع وقد تُخَالفُه.
إنه فَيْضٌ من الصوّر حَلَّ مَحَلّ الكلمات والعبارات، كل شيء نستطيع أن نُحَوِّله إلى صورة دونَ أنْ نحتاج إلى خطاباتٍ طويلة، إن كَبْسَة زِرّ كاميرا تلتقط صورة ما، فإنها تتكلم بكثير من الأحاسيس والمشاعر واللحظات، من فرح أو حزن أو انشغالات؛ تَمُرُّ معها تلك المشاعر في العالم الافتراضي بعملية تَحْنِيطٍ واسعة بواسطة لايْكَات وإيمُوجَات Emoji.
هي إذن مرحلة انتقالية؛ تستوجِبُ من الأنا أن تجتهد في إعادة بناءِ مفهوم لها، ووضعِ تعريف جديدٍ لهَا يتزامَنُ مع دخولها للعالم الافتراضي، وأنْ تُعِيدَ للذات التفكير في كَيْنُونَتِها، في ظلّ العصر الرقمي الذي تحدد فيه الصورة جوهر الذات الجديدة وهويتها، وأنْ تكونَ الذات على وَعْي بميلاد أنا افتراضية جديدة مغايرة للأنا الواقعية، مُتَعايِشَة بذلك مع زمن الصورة الذي فَرضَ نفسه بشكل ملحوظ، وأنْ تَسْعَى جَاهِدَة لتجاوز ما يمكن أنْ يَكُون من تَوتّرَات ومَخاضٍ عسير وتجاذبات دائمة بين الأنَاتَيْن، سَالِكَة في ذلك مسلك الإبداع، وخلق حالة من التوازن بين الأنا الواقعية والأنا الافتراضية، وأنْ تُقَنِّنَ من استهلاك الصورة حتى لا تُبْحِرَ بِمَرْكبِ الصورة في عالم افتراضي خالص، فَتَفْقِد معه الذات بَوْصَلتَهَا للعالم الواقعي، وأنْ تكون لها القدرة على الربط بين العَالَمَيْن الافتراضي والواقعي، دون تَنْمِيقَاتٍ أو تَزْيِيفٍ للحقائق، إذ ينبغي أنْ تَكُون الصورة قريبة للواقع الذي تَعيشُه الذات، دُونَ مُحَاوَلة تَكَلّفٍ في إعطاء صورة مِثالية مُزَيَّفَة.