أشرف المفكر والسياسي د. عبد الرزاق مقري مُعد ومُقدِّم البرنامج الرمضاني "تحدي العبور" على ندوة إلكترونية مفتوحة من تنظيم الحزب الإسلامي العراقي.. في هذا التقرير نرصد بعض إجاباته على أسئلة الحاضرين الذين ركزوا على فهم مقاربات انتقال الفكرة الإسلامية من المجتمع إلى الدولة وتحديات العبور.  
تقرؤون في هذا الحوار: 

  • التجارب الإسلامية على نهجِ «التكامل والتعاون» 
  • «حُسن التقدير» في الحياة السياسية 
  • بدءًا بـ «إدارة التنافس وتسيير الطموحات».. ما المطلوب من الحركات الإسلامية؟ 
  • «واجبُ الوقت» قبل خطر الخروج من التاريخ! 
  • «عناصر القوة» والجُغرافيا الحاكمَة 
  • «انغلاق الأفق» ومفردات الخطاب الجديد 
  • بين حدود الالتقاء و«حدود الافتراق» 
  • «علماءُ الاجتماع» جنودٌ فوق العادة! 
  • بين الهداية القرآنيّة و«الإمكان البشري»  
  • «قيادة المجتمع» والاستئناف الحضاري
التجارب الإسلامية على نهج «التكامل والتعاون» 
هل يمكن اعتبار التجربة الإسلامية في تركيا وماليزيا أنموذجا (ناجحا) يصلح لتقييم سلوك الحركات والأحزاب الإسلامية في غيرهما من الدول؟

ضمن بيئتها وتاريخها وخصوصيتها نعم هي ناجحة، نجاح الحكم هو بإقامة العدل وكرامة وحرية الإنسان وتحقيق التنمية الاقتصادية والترقية الاجتماعية والتنوير الثقافي والتطور العلمي والتكنولوجي.

البعض يلوم تجربة "أردوغان" بسبب الدستور العلماني وبقاء السفارة الإسرائيلية وعدم منع المظاهر والسلوكيات المحرمة في الشريعة الإسلامية، والسؤال الذي يطرح: هل لو فعل أردوغان عكس ما يفعل الآن كان سينجح؟ بكل تأكيد لا، هم يعالجون أمرا فاسدا استقر قرابة قرن من الزمن، اختاروا أن يعالجوه بخدمة الناس وبالقدوة الحسنة، والأمور في تركيا تسير في صالح الإسلام بحول الله، وهناك تفاصيل أخرى مهمة إيجابا وسلبا يطول الوقت للتفصيل فيها.

أما ماليزيا فـ"مهاتير" لم يأت من ساحة الحركة الإسلامية، هو من حزب محافظ تعتبر فيه الهوية الإسلامية قضية وطنية، نجح في المحافظة على المسلمين وعلى هويتهم ومصالحهم إلى حد كبير، وحتى الذين اختلف معهم حول قضايا الفساد لهم نفس الوجهة ويواصلون التجربة، ومواقف "مهاتير" في قضايا الاقتصاد وقضية فلسطين وقضايا الأمة ونظرته للوضع الدولي أفضل من عديد من الإسلاميين في ماليزيا وخارجها، ومشروع قمة كوالالمبور -الذي نحن شركاء معه بصفتي الأمين العام للمنتدى- هو في عمق رؤيتنا الإسلامية.

هل من الممكن أن تستفيد الحركات الإسلامية من تجارب الأقطار المختلفة سواء الناجحة أو الفاشلة؟ على افتراض وجود رابط يجمع بينها وسمات مشتركة على المستوى الفكري.

نعم بكل تأكيد ولكن يجب إعادة النظر في طرائق التواصل والتنسيق، يجب أن يكون التعاون على أسس عصرية تكاملية، وهناك تجارب تسير نحو النجاح على هذا الصعيد مثل "منتدى كوالالمبور"، وكذلك ملتقى العدالة والديمقراطية، وغير ذلك من المحاولات التي ستلتقي وتحقق النجاح في طرق التعاون والتكامل مثل ما هو الحال في بعض التجارب بين الأحزاب والمنظمات عند غير المسلمين.

«حُسن التقدير» في الحياة السياسية 
ما هي قراءتكم للتحديات التي تواجه الأحزاب الإسلامية بسبب العداء المعلن من قبل أنظمة الدول والحكومات العربية؟ وكيف يكون التعامل معها؟

تختلف الحكومات والأنظمة العربية في التعامل مع الحركات الإسلامية، هناك حكومات تسمح بتوفير هوامش جيدة تسمح بتطور الأحزاب الإسلامية وتقدمها مثل ما هو موجود في بلدان المغرب العربي مثلا، ولكن دون السماح بحالة ديمقراطية كاملة تؤدي للتداول على الحكم.

 في هذه الحالة يجب التعامل مع الهوامش المتاحة وتوسيعها والبحث عن التوافقات والعمل الدائم على تحسين موازين القوى لصالح التغيير الحقيقي، وقد شرحت كيف يكون الأمر في برنامج "تحدي العبور".

المقاومة السياسية، بين التشدد والترهل | تحدي العبور

وهناك أنظمة استئصالية لا تسمح بأي هامش وبعضها قمعي، وفي هذه الحالة يجب اعتماد نمط المقاومة السياسية ضمن مفهوم إطار الكر والفر دون الصدام ولا الاستسلام مع الحرص على التحالفات مع القوى التي تريد التغيير، وقد شرحت كذلك مفهوم المقاومة السياسية في البرنامج. 

وضح تحديدك لمستويات العلاقة مع الدولة (المشاركة/ الشراكة/ التمكين)؟

شرحت هذا مفصلا في برنامج "تحدي العبور" يمكن الرجوع إليه؛ المشاركة هي حينما يكون الحكم في يد جهة متحكمة وتسمح لغيرها أن يكون معها مشاركا في الحكومة دون أن يسمح لهذه الجهة المشاركة في أن يكون لها دور في القرار على مستوى الدولة خارج المجال التقني في الوزارات التي تسيرها، وهي الحالة التي عليها التجربة الجزائرية إلى الآن، ولذلك خطتنا حاليا هي التحول من المشاركة إلى الشراكة.

 أما الشراكة فهي الشراكة في القرار على مستوى الدولة في البرامج والمسؤوليات في كل شؤون الحكم بشكل يتطور بالقدر الذي تسمح به نتائج الانتخابات وموازين القوة؛ وهو النموذج التونسي الذي جاء بعد ثورة والنموذج المغربي في إطار الربيع العربي بعد إصلاحات دستورية اتجه إليها الملك لاستيعاب الساحة وبالنظر للضعف الاقتصادي وقلة الموارد. 

وأما التمكين فهو قيادة الدولة على كل المستويات من خلال عصبة متينة متنوعة على النحو الذي شرحته في البرنامج سواء بشكل انفرادي كحزب سياسي أو في إطار تحالفات وحسب نتائج الانتخابات.

هل هناك حدود للتعاون مع أحزاب السلطة؟ خاصة وأن البعض يعتبر ذلك انتهازية سياسية وبراغماتية لا تليق بالأحزاب الإسلامية.

حينما تكون الحياة السياسية عادية في جو ديمقراطي معقول يكون التعاون على أساس نتائج الانتخابات، والأحزاب التي تنجح في الانتخابات وتتحالف لتشكل الحكومة هي أحزاب السلطة، والأحزاب التي لا تنجح في الانتخابات ولا تكون ضمن تحالف حكومي ما هي أحزاب المعارضة.

أما حينما نكون بعيدين عن الوضع الديمقراطي وهناك قوى متسلطة على الحكم فالمشاركة معها صواب أو خطأ حسب المقصد والآلية والنتائج، إذا كانت المشاركة لأغراض شخصية للتمتع بالمناصب وقبول الأمر الواقع دون رؤية لتغييره فهي بكل تأكيد انتهازية.

 أما إذا كانت المشاركة على أساس رؤى إصلاحية متفق عليها وبعيدا عن المشاركة في الفساد أو السكوت عنه، وكانت من أجل تحسين هوامش الحريات وإدارة تحالفات خادمة لذلك، وكانت النتائج مع الزمن ملموسة فإن المشاركة جيدة ومقبولة، والتوفيق كله في حسن التقدير وأساسها النية الصادقة والنزاهة والشورى. 

بدءًا بـ «إدارة التنافس وتسيير الطموحات».. ما المطلوب من الحركات الإسلامية؟ 
كيف يمكن تجنب مسألة الانشقاقات في صفوف الأحزاب الإسلامية خاصة تلك التي تمكنت من المشاركة فعليا في تشكيل حكومات منتخبة داخل بلدانها؟

طرق تجنب الخلاف تبدأ بالبعد التربوي وعدم التنازع على الدنيا وعلى المناصب وإعطاء الأولوية للمشروع ولمصلحة الأمة والبلد والاعتقاد؛ بأن ما عند الله خير وأبقى وأن المصالح الشخصية متحققة بتحقق المصلحة العامة ثم بالمؤسسية والالتزام بالنظم واللوائح وعدم منازعة الأمر أهله، ثم بالصبر والحوار والتجاوز والتغافل ما أمكن، ثم بإصلاح ذات البين وبحسن إدارة الخلاف والأنماط البشرية والتدرب على الطرق العصرية في ذلك، ثم بإشغال الناس بالعمل والإنجاز وربط الناس بالرؤية العامة والتشويق إليها وصناعة أهداف قريبة ومشاريع دائمة. 

الخلافات وعلاجها | تحدي العبور

 وكذلك بإدارة التنافس وتسيير الطموح وضمان التداول على أسس لائحية وممارسات عملية، مع الاعتقاد بأن الخلاف قدر مقدور على أمة محمد -صلى الله عليه وسلم- كما أكدته النصوص، وتجنب البكاء على ما وقع من خلاف، والوقوف مع الحق حين يظهر بدل الحياد المناقض لروح ما ورد بهذا الشأن في سورة الحجرات.

للحركة الإسلامية عموما تاريخ يمتد عبر (92) عاما ورغم ذلك فهي تعاني أزمة مالية في معظم الدول الإسلامية، ما أسبابها؟

صحيح، تعاني كل الحركات الإسلامية من ذلك ويعود السبب إلى عدة أمور منها:

  • نزعة الزهد والتحرج من الثراء ومن عالم المال والأعمال منذ فترات التأسيس.
  • النزعة الطبقية عند بعض الإسلاميين والتأثر بالاتجاهات الاشتراكية، حيث كان هناك حتى من يتحدث عن اشتراكية الإسلام.
  • صعوبة الكسب الحلال في بيئة أعمال يسيطر عليها الربا والرشوة والفساد.
  • التجارب الفاشلة التي خاضها بعض الإسلاميين من خلال أعمال واستثمارات تابعة لجماعاتهم وحركاتهم.
  • غلبة الموظفين والمعلمين والأساتذة والأئمة في صفوف الحركة الإسلامية.
  • ابتعاد رجال المال والأعمال عنهم بسبب صراعهم مع الحكام باعتبار أن رجال الأعمال يخافون على مصالحهم.
  • عدم التزام الأفراد باشتراكاتهم المالية الفردية التي يفرضها الانتماء لحركتهم، لو يكون للحزب كتلة بشرية كبيرة منتمية إليه ولو يؤدي أغلبهم التزاماته المالية القليلة الواجبة عليه لوفر ذلك لهم مقدارا لا بأس به لتسيير شؤونهم. 
كيف يمكن تقبل دعوة الأحزاب الإسلامية لتحسين الاقتصاد وفق منظور الشريعة الإسلامية وهي لم تستطع إقامة مشاريع رائدة تغنيها عن السؤال عند الأزمات؟

هذا السؤال لا يستقيم على الإطلاق، والجواب عليه يكون من زاويتين:

  • أولا: ليس مطلوبا من الحزب أن يكون غنيا وأن يكون له استثمارات مالية تابعة له، سواء بالمنطق الاشتراكي الذي سارت عليه الحركات الإسلامية باستثمار أموال عامة وقد أدى ذلك إلى كوارث في كثير من التجارب في الأقطار، أو بالمنطق الرأسمالي بحيث يملك الحزب رجال الأعمال وهذا هو المال السياسي الذي أصبح يلغي الديمقراطية في الدول الغربية، اللهم إلا ما يتعلق بالأوقاف وما يمكن أن يكون للحزب من أسهم محدودة في البورصة أو في مشاريع قائمة ناجحة بعيدة عن التسيير الحزبي، وحتى هذه فيها محاذير.

 وإنما المطلوب أن يكون الحزب جذابا من خلال الفكرة التي يرفعها بين الناس ومن خلال مصداقية رجاله ومن خلال الجهد والإنجازات التي يقدمها، ومن خلال تشجيعه الكسب الحلال في بيئته والعمل بقدر ما يستطيع لتوفير الظروف السياسية العادلة والقوانين المشجعة للحلال المانعة للفساد، وما يمكن تقديمه من خدمات لرجال الأعمال لكي ينجحوا. 

 عندئذ سيكون في محيط الحزب رجال أعمال ينفقون عليه، إما لقناعتهم به سواء كانوا منتمين أو متعاطفين، أو لأنهم قرروا الرهان عليه لصالح بلدهم ولمصلحتهم الشخصية.

لو ننظر لسيرة المصطفى -عليه الصلاة والسلام- سنجد بأنه لم يكن غنيا، ولم تكن لدعوته تجارة ولكنه رفع رسالة جذابة ومثلّها أحسن تمثيل فجاءه القادة في مختلف المجالات جاهزين ومنهم التجار والأغنياء، وهؤلاء هم الذين أنفقوا عليه وعلى من حوله وعلى مشروعه.

  • ثانيا: لا يشترط في الحزب لينجح في تحسين الاقتصاد أن تكون له مشاريع رائدة، لا أدري من أين جاء هذا التصور، الحزب ليس شركة ربحية، وإنما هو منظومة قيم وأفكار وبرامج وقيادات وتنظيم وخطاب وجمهور وأدوات تأثير، وحينما يكون في الحكم ينجح من خلال رشده فيه ومن خلال رؤيته الاقتصادية وبرامجه البديلة وحسن استغلاله الموارد البشرية والمادية، وهذا يتطلب أن يكون فيه المفكرون والمتخصصون والتقنيون والإداريون أكثر من مطلب وجود الأغنياء في وسطه، الأغنياء سينتفعون منه وينفعونه حينما يوفر لهم بيئة الأعمال المناسبة لنجاحهم.   
«واجبُ الوقت» قبل خطر الخروج من التاريخ! 
إلى أي مدى يمكن للحركات الإسلامية أن تواكب تطورات أنظمة الحكم؟ وهل يؤثر ذلك في ثوابتها؟

ما معنى تطورات نظام الحكم؟ وهل يوجد للأحزاب السياسية سواء كانت إسلامية أو غير إسلامية من دور غير مواكبة التطورات السياسية التي من أهمها تطورات نظام الحكم، الأحزاب تؤسس لتصل للحكم وتطبق برنامجها.

الذي يجب أن ننتبه إليه في اعتقادي بأن واجب الوقت الآن بالنسبة للحركات الإسلامية هو الانتقال بالفكرة الإسلامية من المجتمع إلى الدولة، كان القرن الماضي هو قرن الصحوة حيث أفلحت الحركات الإسلامية في إرجاع الأمة لدينها وللفهم الصحيح للإسلام.

 والشعوب اليوم صارت سقوفها في الغيرة على الإسلام وقضايا الأمة كبيرة جدا، والتمسك بالإسلام انتقل من كونه حالة تنظيمية إلى كونه حالة مجتمعية. 

 يعبر عن ذلك نجاح الإسلاميين في أي انتخابات تكون حرة ونزيهة، ويعبر عن ذلك الارتباط الشعبي التلقائي بالقضية الفلسطينية، يعبر عنه غلبة المظاهر الإسلامية والغيرة والتفاعل الواسع كلما مُست المقدسات، وكثرة دروب الخير وتعدد المنظمات الخادمة للإسلام، وهذه هي الحالة التي لم تستطع القوى الظالمة والقوى الغربية توقيفها أو تحويلها.

هناك قاعدة في العلوم الاجتماعية تؤكد بأنه إذا تأصلت فكرة ما في المجتمع فستنتقل إلى الدولة لا محال، فإذا كانت صائبة وحملها أكفاء حكمت واستمرت، وإذا كانت غير ذلك سقطت.

على هذا الأساس نقول بأن واجب الوقت هو الانتقال بالفكرة من الصحوة المجتمعية إلى النهضة من خلال الدولة، هذا واجب الحركة الإسلامية اليوم، هو نهضة أوطانهم ونهضة أمتهم.

 وإنه لا يتصور أن تقوم نهضة أمة من دون دولة، كنا سابقا نتحدث عن التجربتين الماليزية والتركية، لم يكن ممكنا صناعة نهضة هذه الدولتين دون حكومات عملت على ذلك في إطار الإسلام بطريقة أو أخرى.

تحدي الحركات الإسلامية اليوم هو تحدي العبور إلى الدولة: "من المشاركة إلى الشراكة إلى التمكين"، حسب ظروف كل بلد ووفق القواعد الديمقراطية الحقيقية ليطبقوا برنامجهم، ولكن أثناء ذلك لا يجب بطبيعة الحال التخلي عن الوظائف التأسيسية للحركة الإسلامية على مستوى المجتمع من خلال شبكات المجتمع المدني في الإطار الفكري الدعوي والتربوي والاجتماعي وعلى مستوى مختلف الشرائح لترسيخ القيم وحماية الهوية وإشراك الناس في حمل عبء النهوض الحضاري ولصناعة توجهات شعبية حامية للفكرة أثناء انتقالها للدولة وأثناء استقرارها فيها، ويجب أن نتذكر بأن دور المجتمع في بناء الحضارة الإسلامية الأولى كان كبيرا من خلال شبكات الأوقاف والحبوس ومختلف الروابط الشعبية.

المجتمع المدني والأهلية الحضارية | تحدي العبور 

وكل هذه الأعمال سواء على المستوى السياسي أو المجتمعي، هو في إطار الثواب، فلماذا تتخلى الحركة الإسلامية عن ثوابتها حين تشتغل في قضايا الحكم؟ وإلا سنقول بأن الإسلامي ذاته لا يمكنه الاشتغال بالسياسة؟

هل يعتبر الحفاظ على منظومة الأفكار عند الحركات الإسلامية بشكله الصارم نقطة قوة أم جمودا يستوجب حركة وتغييرا؟ كيف يمكن النهوض بالمنظومة الفكرية مع الاحتفاظ بالأدبيات التربوية؟ 

لا يوجد شيء ثابت في ديننا سوى كتاب الله والسنة النبوية الصحيحة، وما هو قطعي الثبوت قطعية الدلالة وما أجمعت عليه الأمة، وفي إطار ذلك الأمة مطالبة في كل فترة بتجديد فقهها ونظمها وأنماطها الإدارية والتنظيمية، ولو نتحدث عن الفكر الإسلامي الذي أنشأ الصحوة هو كذلك يجب أن يتجدد، الحركات الإسلامية كانت تقوم على أساس فقه الدعوة وما يتطلب من تعلم أحكام الشرع وتزكية النفوس وتهذيب الأخلاق وطرائق تبليغ الدعوة ومواجهة الأفكار الهدامة والآليات التنظيمية والإدارية المناسبة لهذا العمل، وانحصر مضمون مناهجها التربوية في أسرها وحلقاتها عبر عقود من الزمن في هذا فقط، أما اليوم وهي تتطلع إلى العبور إلى الدولة لصناعة النهضة فهي مطالبة بتطوير فقه الدعوة بما يتناسب والتحولات وبالأخص هي مطالبة ببلورة فقه الدولة.

التقاء الصيرورة والحتمية | تحدي العبور 

 وهذا الذي قصدناه في برنامج تحدي العبور بـ"التقاء الصيرورة التاريخية بالحتمية النصية"، منظومة الأفكار عند الحركات الإسلامية تعود أسسها لقرن من الزمن، وعلى رأس كل مائة سنة لا بد من تجديد كما ورد في الحديث: "يرسل الله لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها دينها". 

فعدم التجديد هو الخروج من التاريخ وهو مخالفة شرعية واضحة، والنهوض بالمنظومة الفكرية أساسه معرفة الاحتياج، ما هي المنظومة التي تتناسب مع واجب الوقت؟ 

نحن نلاحظ اليوم بأن الحركات الإسلامية الوسطية كلها تحولت إلى حركات سياسية حزبية تطلب الحكم وهي منهمكة في هذه المهمة كلية شعوريا ونفسيا وحيزا زمنيا سواء أقرت بذلك أم لا، وهناك حالة انفصام عند البعض في هذا الشأن؛ هو في عمق الصراع على الحكم ولكنه منجذب إلى الماضي فلا هو نجح في مجال الدعوة والتربية ولا نجح في مجال السياسة.

 ومن التطورات الكبرى في المجال الفكري والعملي ما نسميه بالتخصص الوظيفي وهو ما يفيد الاستمرار في المنهج الشمولي للعمل الإسلامي ولكن ليس من خلال الهيكل الواحد، يجب توزيع الوظائف المتنوعة (فكريا وسياسيا ودعويا وتربويا واجتماعيا وعلى مستوى مختلف الشرائح العمالية والشبابية والنسوية ومختلف التخصصات والاهتمامات) على مؤسسات مجتمعية متخصصة ضمن الرؤية الواحدة، والانتقال في تسيير هذه الوظائف من النمط الهرمي المركزي إلى النمط الشبكي المرن بما يفيد التكامل والتعاون والتركيز والإبداع والإنجاز.

أما ما يتعلق بالأدبيات التربوية يجب أن ننتبه بأن الهدف من الأدبيات التربوية هو إعداد الفرد الذي يخشى الله ويعبده ويراقبه، الفرد الصالح المصلح الواعي المثقف الفاعل، وكل وسيلة تؤدي إلى ذلك هي جيدة سواء كانت قديمة أو متجددة، فلا يجب تقديس الوسائل والتفريط في المقاصد.        

«عناصر القوة» والجُغرافيا الحاكمَة 
ما هي (القوة) التي ينبغي للأحزاب الإسلامية أن تمتلكها؟ وما هي عناصرها التي ينبغي الاعتماد عليها في بناء حزب قوي وقادر على مواجهة الصراع سياسيا وفكريا؟

القوة هي أولا قوة الفكرة ثم قوة من يمثلها ومصداقيته وأهليته، ثم توفر الكتلة الحرجة من القادة والمناضلين والأتباع، ثم الحاضنة الاجتماعية الحاملة والمناصرة، ثم هي قوة التنظيم وانتشاره ومرونته، وفاعلية الإدارة وإدارة المشاريع وتوزيع المهام والأدوار، والمهارة في التحكم في وسائل الاتصال الداخلية والخارجية، وشبكة العلاقات الداخلية والخارجية، والقدرة على إدارة الاختلاف وبناء التحالفات القوية والمؤثرة والحامية، وهي الكفاية المالية والفاعلية الإعلامية، وهي التمدد في المجتمع والتأثير فيه من خلال مختلف مؤسسات المجتمع المدني في مختلف المجالات ومختلف الشرائح.

 كيف يمكن للحركة الإسلامية المواءمة بين متطلبات (المرجعية الإسلامية) و(الهوية الوطنية)؟

لا يوجد أي تناقض بين المرجعية الإسلامية والهوية الوطنية، فهل المرجعية الإسلامية شيء مجرد لا علاقة له بالحياة التي نحياها في بلداننا؟ وهل المرجعية شيء آخر غير انتظام حياة الناس بها؟ وهؤلاء الناس أين يوجدون؟ في أرض تسمى وطنا أم شيء آخر؟

 فور وصول رسول الله المدينة بنى مرجعية وطنية تشمل المسلمين وغير المسلمين من خلال "وثيقة المدينة" وكان إنفاذها لا يتعلق إلا بأهل المدينة، وكلما اتسعت رقعة الدولة دخلت ضمن مرجعية وطنية أشمل.  

كلنا يعلم أن المسؤولية تتجزأ وكل إنسان مسؤول على ما تحت يده وما يدخل في اختصاصه ومجاله وما لا ينوب غيره عنه، وحين نقرأ حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ألا كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته ...)) معنى ذلك أنك مسؤول على ما يجري عليك فيه التكليف، فإذا كان وطنك العراق أنت مسؤول عن العراق أولا ويسألك الله عن العراق أولا، فأنت ليست لك مسؤولية على مصر أو الجزائر أو الأردن أو السعودية أو غيرها إلا في إطار التعاون والنصرة والتكامل ما أمكنك ذلك. 

والجغرافيا حاكمة في تحديد نطاق المسؤولية، مهما ما كانت الأسباب التاريخية التي حددت الجغرافيا فأنت لا تصوت على من يحكم في بلد آخر ولا تستطيع أن تقيم مشروعا خيريا مثلا يستغرق وقتك وجهدك في غير بلدك إذا كنت مقيما فيه. 

لا يوجد أي تناقض بين مفهوم الأمة ومفهوم الوطن، الأمة كل والوطن جزء ولا وجود للكل بغير الجزء، وخدمتك لأمتك لا يكون إلا من خلال وطن قوي شامخ متطور أنت مسؤول على جعله كذلك. 

وحتى فكرة الخلافة الإسلامية ليست إطارا تاريخيا جامدا، ليس لازما تصورها كما كانت، يمكن تحقيق الوحدة السياسية للأمة ضمن الآليات العصرية والاتحادات الوظيفية الفاعلة بدل الشعارات والأماني التي ليس لها أثر في الواقع. وبعد ذلك لو أن كل واحد منا فرط في هويته الوطنية ستضيع الأمة كلها.

 والوطن أيها الإخوة تاريخ وتضحيات وقيم ودماء شهداء وأهل وأرحام وملح وأقوات وأرزاق وأفضال مغروسة في مشاعر الإنسان وفطرته وآدميته، والارتباط بالهوية الوطنية والوفاء للوطن هو عين الرجولة والمروءة، أنا أحيانا أستغرب ممن يرتبط بعشيرته ويفرط في وطنه الذي تعيش فيه عشيرته.

 وبالإضافة إلى ذلك الهوية الوطنية هي اختيار، أنت تحمل جنسية وطنك اختيارا، واختيار الجنسية هو التزام بعقد ومواثيق، وما دمت تحمل هذه الجنسية الوطنية بإرادتك فأنت ملزم بهذه الهوية، وما رأيته مخالفا للشريعة الإسلامية في وطنك اعمل على تغييره بقدر استطاعتك.       

 «انغلاق الأفق» ومفردات الخطاب الجديد 
هل تحتاج الحركة الإسلامية اليوم إلى خطاب جديد، وما هي سماته؟ وما تقييمك لما يطرح من عدم صلاحية الخطاب القديم الذي بني على معانٍ كثيرة منها (المعارضة/ الحاكمية/ المفاصلة)؟

كل مرحلة جديدة تحتاج إلى خطاب جديد، وكل مهمة عامة جديدة تحتاج إلى خطاب جديد، وكل تخصص وظيفي في العمل الإسلامي يحتاج إلى الخطاب الذي يتناسب مع التخصص، فلو كنت مثلا حزبا أو حركة سياسية تدخل الانتخابات فهل يعقل أن يكون خطابك في المهرجان السياسي هو خطاب الداعية والإمام، وتقوم في الناس تدعوهم إلى الالتزام بالصلاة وعبادة الله وتستغرق في ذلك، لن يقبل الناس منك، هذا يقوم به غيرك من المتخصصين في الدعوة والإرشاد.

 كسياسي الناس ينتظرون منك أن تفهمهم كيف ستخدمهم من خلال المنصب والموقع الذي تطلبه منهم، كيف تخلصهم من الفساد والدكتاتورية، أن تحدثهم عن وضع البلد وعن وضعهم، وهذا الخطاب وراءه فكر سياسي ودراسات واستطلاعات وغير ذلك.

وبالنسبة للمصطلحات التي ذكرتها فلا حرج في المعارضة إذا نزلناها على تعريفها العلمي الذي تقوم عليه الحياة السياسية العادية، حين يكون الحزب في الحكومة فهو سلطة عليه أن يخدم الناس من منصبه الرسمي وحين لا يكون في الحكومة هو في المعارضة عليه أن يراقب الحكومة ويبين أخطاءها ويقدم البدائل ويعرض نفسه بديلا للأحزاب التي تشكلها.

أما موضوع الحاكمية والمفاصلة فقد قتل بحثا وتجاوزته الحركة الإسلامية الوسطية، وهذا الفكر طارئ على نشأة الحركة الإسلامية الأولى، ظهر في مرحلة ما وأحدث من التأثير ما أحدث ثم تراجع، لم يصبح أحد يتحدث عن هذا الموضوع عندنا في الجزائر وفي المغرب العربي عموما وكذلك عند كل كبريات الحركات الإسلامية الوسطية، وبديل هذا الفكر هو فكر المشاركة السياسية في الشأن العام، وهذا هو الفكر الأصيل والمؤصل شرعا وعقلا.

وهذه المسألة تمايزت صفوف الحركات الإسلامية بشأنها، من اتجه للمشاركة السياسية ضمن الوضع السياسي الموجود وفي خلال الرؤى الإصلاحية ومجهودات التغيير الممكنة، والذين تمسكوا بفكر المفاصلة والحاكمية فقد سلكوا مسلكا خاصا بهم، منهم من انعزل عن الفعل ولم يصبح له تأثير يذكر في التطورات الكبرى للحركات الحركة الإسلامية، ومنهم من انخرط في العنف والتشدد، ولكن يجب أن ننبه بأن الخطر الكبير هو اختلاط التوجهات المتناقضة داخل التنظيم الإسلامي الواحد، هذا أمر لا يستقيم وسيتسبب في صراعات خطيرة وينشئ عطبا في التنظيم وفي السير.     

بعد عقود من انطلاقتها، كم هي مساحة (النقد الذاتي) في عمل الحركات الإسلامية (إيماناً وتنظيراً وممارسة)؟ وكم يؤثر ضعفه اليوم في مسيرتها؟

كنت كتبت بحثا سنة 1996م عنوانه: "الحركة الإسلامية في آخر هذا القرن: إلى أين؟" وبينت بأنه ستحدث تطورات كبيرة محلية ودولية وستتغير أولويات الحركة الإسلامية، وأن الحركات الإسلامية التي ستتجدد على مستوى الفكر والآليات والممارسات تستطيع العبور إلى القرن المقبل، أي القرن الذي نحن فيه الآن، والتي تعجز عن المراجعة والتجديد ستخفق ولن تنتقل إلى المستقبل.

 وأكدت بأن العبرة في القدرة على الانتقال الناجح للمستقبل لا يتعلق بحجم التنظيم وعراقته، فقد تكون تنظيمات إسلامية كبيرة وقديمة تبقى متمسكة بالماضي فترسب في التحول، وقد تكون حركات صغيرة وربما حديثة متجددة تنتقل إلى المستقبل وتكبر فيه. 

وبينت بأن تنظيمات الإخوان المسلمين مؤهلة أكثر من غيرها للتجدد والانتقال ولكن الله لم يعط ورقة بيضاء أبدية لأي كان، وعليه أكدت بأن هناك من تنظيمات الإخوان من يتجدد فيعبر وهناك من لا يتجدد فلا يعبر، وقد تكون هناك تنظيمات أخرى لا علاقة لها بالإخوان سيكون لها شأن كبير في المستقبل...، قلت هذا قبل أن يحدث كل الذي حدث، وقد حدث كما وصفته بالضبط، فرأيي هذا ليس رأيا دبريا ولا خاضعا لضغوطات الواقع.

هذه سنة حياتية جارية لا تتغير ولا تتبدل، من راجعوا أنفسهم من الحركات الإسلامية وصححوا مساراتهم حسب تطورات المرحلة لا يزال أداؤهم جيدا فاعلا مؤثرا، ومن بقوا متمسكين بكل الفكر السابق تراجع أداؤهم بل دخلوا في صراعات كبيرة بسبب انغلاق الأفق أمامهم، وهناك من لم يختاروا التجديد طواعية بل الأزمات والعثرات والضغوطات هي التي فرضت عليهم ذلك وهو أمر جيد أن تتم الاستجابة للضغوطات بالتطوير والتجديد.

بين حدود الالتقاء و«حدود الافتراق» 
هل يمكن للحركة الإسلامية أن ترث (حكماً راشداً إنسانياً) ثم تعدّل عليه، أم أن هذه العملية تكون بمثابة (الترقيع) غير المجدي، وأن على الحركة الإسلامية (التأسيس) دوماً ومعالجة الهياكل والأسس قبل التفاصيل؟

الحضارة الإسلامية الأولى بنت على ما مضى من الحضارات التي سبقتها فكيف لا نفعل ذلك نحن، وقد بدأ البناء على ما سبق من الإنجازات البشرية منذ عهد الخلفاء الراشدين فمن الذي يلزمنا بغير ذلك؟ دواوين الدولة الإسلامية كانت تكتب في الشام باللغة الرومية إلى غاية 81 هـ، ودواوين العراق باللغة الفارسية إلى غاية 83 هـ، ودواوين مصر باللغة القبطية واليونانية إلى غاية 87 هـ، وحينما يقول الله تعالى: ((إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ)) وقوله: ((فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ)) فإن المطلوب الإصلاح حيثما ما أمكن قليله أو كثيره، فرعه أو أصله، وحينما يمكن معالجة الأصل فهو مقدم بطبيعة الحال على الفرع.

إذا كانت كافة أشكال العمل الإسلامي تبوب ضمن مفردة (الدعوة) ولكنها تتمايز بساحاتها، فما هي حدود الافتراق والالتقاء بين (الدعوي) و(السياسي)؟ وهل جرى نوع من أنواع التعسف والاندفاع في التأصيل للموضوع بما أفقده النهايات الضابطة؟

حدود الالتقاء هي الرؤية والرسالة وحدود الافتراق هي في الاختصاص وما يستغرق فيه العمل، لم يصبح اليوم ممكنا الجمع في الهيكل الواحد بين الوظيفة الدعوية بمفهوم تبليغ الدين بعقائده وأحكامه مع الوظيفة السياسية التي مهمتها تنمية الأوطان وتحقيق نهضتها سواء من خلال الوجود في الحكم أو من خلال الوجود في المعارضة على النحو الذي أشرنا إليه سابقا، لا القوانين تسمح بذلك ولا الجماهير التي تريد من يخدمها تقبله، ولا شروط التنافسية وظروف التنافس والصراع وتعقيداتها وما تأخذه من وقت وجهد تسمح بذلك.

التخصص الوظيفي | تحدي العبور

ولكن نحن لسنا مع من يقول بأن الفصل بين الدعوي والسياسي يجب أن يكون تاما كليا وأن تتحول الحركة الإسلامية بكل أفرادها إلى الشأن السياسي، نحن مع فكرة التخصص الوظيفي ضمن خطين متوازيين:

  1.  الخط السياسي لقيادة عملية الانتقال إلى الدولة.
  2.  الخط الاستراتيجي الذي تتوزع من خلاله مختلف الوظائف الأخرى عبر مؤسسات المجتمع المدني.

 على أن يكون هناك مساحات للتكامل والتنسيق، فمثلا عندنا نحن الدائرة المحورية القائدة هي الحركة السياسية، خففناها من كل الوظائف الدعوية والاجتماعية وما يتعلق بالاختصاصات الشبابية والنسوية ومختلف الشرائح التي لا علاقة لها بالشأن السياسي المباشر إلا في فترات الانتخابات لها ترتيبات خاصة، ووزعناها على مؤسسات متخصصة استقطبت أعدادا هائلة من الراغبين في تلك الاهتمامات والتخصصات وأصبحت فاعلة ومؤثرة، ولكل هذه المؤسسات تمثيل في مجلس الشورى الوطني ومجالس الشورية الولائية ليكونوا مشاركين في القرارات الكبرى دون أن تكون لهم علاقة بالتنفيذ وفي قيادة الشأن السياسي ما داموا مسؤولين في مؤسسات مدنية أخرى، وعندنا مجالس للتنسيق ما نسميه "مجالس المؤسسات للمرافقة والتنسيق والتأهيل والدعم الفني"، مجلس وطني ومجالس ولائية تلتقي فيها مختلف المؤسسات للتنسيق والتكامل، والحمد التجربة لها الآن ثماني سنوات وتعطي نتائج جيدة جدا. 

«علماءُ الاجتماع» جنودٌ فوق العادة! 
لو أردنا صياغة رسالة مركزة للمعاني الآتية، ماذا سنقول: (تطبيق الشريعة/ الشورى والديمقراطية/ الدولة الإسلامية والمدنية/ المواطنة/ دور المرأة) ؟
  • تطبيق الشريعة: يجب أولا الاتفاق على معنى الشريعة، الشريعة هي الطريق إلى هداية البشر بما ينجيهم يوم القيامة، وما يحقق مصالحهم وسعادتهم وأمنهم وتطورهم في الدنيا، وفيها أحكام قطعية الثبوت وقطعية الدلالة، ونصوص تتعدد دلالتها ومثل ومبادئ ومقاصد عليا تسمح للإنسان أن يستنبط الأحكام بما يصلح حياته في كل الأمصار والعصور، وتطبيق أحكامها مبني على الاستطاعة في فعل المأمور به، أفرادا وجماعات، ولزوم اجتناب المنهي عنه.  
  • الشورى: صفة لازمة للمؤمنين في حياتهم كلها وفق قوله تعالى: ((وأمرهم شورى بينهم))، وإجراء عملي واجب عليهم في تسيير شؤونهم وفق قوله تعالى: ((وشاورهم في الأمر))، وطرائق تطبيق هذا الأمر متروكة لاجتهادات البشر، والديمقراطية: آلية من آليات الشورى تقوم على عقد اجتماعي بين الناس وبين الحاكم والمحكوم مقتضاه الرضا.
  •  الدولة الإسلامية: هي التي أسست لمعنى الدولة المدنية، بمعنى أن الدولة الإسلامية ليست دولة دينية ثيوقراطية، لا قداسة فيها للحكام وهو لا يحكم الخلق نيابة عن المخلوق، ولكن يحكمهم نيابة عنهم بفهمه للإسلام بغرض خدمتهم، وهناك تفاصيل مهمة يمكن الرجوع إليها في كتابي (الدولة المدنية: رؤية إسلامية).
  •  المواطنة: هي الصفة التي يكسبها المواطن حين يقبل دساتير ومواثيق وقوانين بلده بما يضمن له التمتع بحقوق كاملة بعدل ومساواة مع باقي المواطنين، وبما يلزمه بأداء واجباته تجاه بلده، وكلما حفظت المواطنة سلمت الوطنية.
  • المرأة شقيقة الرجل وهي ليست أقل من الرجل ولا أكبر منه ولا تماثله ولكنها مختلفة عنه اختلافا يضمن استقرار الحياة وهناءها وسعادتها وجمالها، لها واجبات تختص بها على مستوى الأسرة أفقيا تعني كل النساء، وبعض النساء يتميزن عموديا بأن تكون لهن مشاركات في الشأن العام وقد تتفوق فيه على الرجل المهيمن في كل الشعوب على هذا المجال.
كيف يمكن للحركة الإسلامية أن تستفيد من (علم النفس/ علم الاجتماع) في تجويد خطابها ومشروعها؟

الحركة الإسلامية في زمن الصحوة كان خطابها عاما مجملا للناس يتطلب التبسيط لا التعقيد، أما الآن وهي تسعى للحكم لتحقيق نهضة أوطانها تتعامل مع أوضاع معقدة في علاقاتها بالجماهير وفي علاقتها بالقوى المنافسة، ولا يمكنها أن تنجح في وضع خطط مناسبة لنجاح مشروعها وتسديد خطابها دون فهم الواقع كما هو بتعقيداته وتفاصيله، وهنا تأتي أهمية علم النفس وعلم الاجتماع في فهم الأنماط البشرية وميولاتها وتعقيداتها وخياراتها ومؤثراتها وكذلك طبائع المجتمعات وخصوصياتها ومؤثرات التيارات الاجتماعية وطبائع العشائر والأسر والفرق والمذاهب السائدة وغير ذلك. 

ويجب أن نتذكر بأن حركة الاستعمار لبلادنا سبقتها دراسات اجتماعية وأنثروبولوجية ونفسية لمجتمعاتنا، كان علماء الاجتماع جنودا فوق العادة في حركة الاستعمار، ولما دخل الاستعمار منع النجباء من أبناء الأمة من دراسة العلوم الاجتماعية حتى لا ينشأ فيهم المفكرون الذين يعرفون كيف يقودون الأمة. 

ولا يزال هذا التوجه قائما إلى الآن حيث يوجه النجباء في بلداننا إلى دراسة الهندسة والطب والعلوم التكنولوجية، يجب أن ننتبه بأن التحكم في علم النفس وعلم الاجتماع والعلوم الإدارية والاقتصادية والسياسية يبني المجتمعات، والعلوم التكنولوجية تصنع قوتها وتطورها، ولا يمكن صناعة القوة قبل البناء، الفكر هو ابن البلد والتكنولوجيا يمكن نقلها من بلدان أخرى واكتسابها والتحكم فيها بعد ذلك، لهذا السبب ألزمنا في حركتنا مؤسساتنا التربوية لمراجعة المناهج لإضافة مداخل علم الاجتماع والاقتصاد والعلوم السياسية والإدارية في المناهج التربوية. 

بين الهداية القرآنيّة و«الإمكان البشري»  
العمل السياسي لا تحكمه (القطعيات) لكن تضبطه (الثوابت)، كيف نحقق (مقاربة) رصينة بهذا الخصوص؟

لا أعتقد أن الأمر بهذا الإطلاق هناك قطعيات ثابتة وهناك متغيرات، لا يمكن أن نخالف ما هو قطعي الثبوت وقطعي الدلالة، وما لا نقدر تطبيقه نسعى لتوفير الظروف المناسبة لاستدراكه، ولا يوجد حد زمني لذلك وإنما هي الظروف والإمكان، ومن الثوابت أن الدولة التي ننشدها تبنى على العدل وعلى الشورى وكرامة الإنسان وحقه في اختيار حكامه وعزلهم ومنع الفساد وصيانة السيادة ونجدة المسلمين في كل مكان ما أمكن والسعي لتحرير فلسطين، ثم المتغيرات واسعة ممتدة في الفكر والأحكام والنظم والممارسة والخطاب بما يتناسب مع الأوضاع والنوازل والتطورات. 

هل قدم (النص القرآني) ملامحا للعمل السياسي الإسلامي بكافة مراحله (حتى لو على مستوى العموم وليس التفصيل) وكيف ذلك؟

القرآن كله هداية في مختلف شؤون حياتنا، والله سبحانه وتعالى حينما يقول: ((مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ)) لا يعني ذلك أنه أحاط بكل الحوادث فهذا أمر مستحيل، ولكن الله أبان حكمه بغير طريق النص وهو طريق القياس كما يقول العلماء وذلك من خلال استنباط العلماء وفق قوله تعالى: (( لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ))، القرآن يشمل أحكاما قطعية الثبوت وقطعية الدلالة ونصوصا تحمل دلالات متعددة تختلف فيها الفهوم بين الناس وبين الأمصار والعصور، ويشمل مبادئ عامة ومُثلا ومقاصد كبرى، ثم تأتي السنة النبوية الصحيحة التي تفصل وتشرح وتوسع.
 وكل ذلك يشكل منظومة تفكير ومسارات اجتهاد قادرة على التعامل مع كل الأحوال في مختلف المجالات من العقائد والعبادات والأخلاق إلى الشؤون السياسية والاقتصادية والاجتماعية والدولية وغير ذلك، وهي منظومة فكرية مرنة لها القدرة على التطور مع الزمن وعلى إدماج كل ما هو صالح مما يتوصل إليه البشر وما يحقق العدل ويقيم الحق ويضمن سلامة الإنسان والمحيط الذي يعيش فيه، وهذا هو مفهوم الشريعة، ثم هناك الفقه الذي هو أحكام تتغير وتتبدل حسب تطور أوضاع وظروف الإنسان.

ما هو شكل التمايز بين (الإخفاق) و(التيه) و(الابتلاء)؟

التيه هو حينما لا يكون لك هدف ولا رؤية، والإخفاق هو حينما تحدد هدفا بكيفية واضحة وفي زمن محدد ولا تحققه بسبب التقصير في الفهم والإدراك والخطأ في صياغة الهدف أو بسبب العجز والكسل أو الانحراف عن الهدف، والابتلاء هو ما كان تنبيها من الله بسبب المخالفة أو التقصير في الواجب، أو لحكمة يعلمها قد يكون فيها النفع للمبتلى.

«قيادة المجتمع» والاستئناف الحضاري 
ما رأيكم في العبارة التالية: "على مدى عقود توسعت الفجوة بين (العالم والفقيه) و(الحاكم)، وزاد منها الركون إلى تأصيل شرعي باعد بينهما وإن اختلف تكييف المواجهة بين (القطيعة المعنوية) أو (المواجهة العنفية)"؟

بدأ التشقق في هذا الانفصال الفتنة الكبرى بين الصحابة وتأكد عند نهايتها بتأسيس مدرسة الصبر واتجاه الجمهور إلى كره الخروج على الحاكم بالسلاح، ولكن منذ ذلك الوقت إلى غاية سقوط الخلافة الإسلامية كان هناك تكامل مع حصول فترات صراع.

كان العلماء عبر العصور يقودون المجتمع ويوجهونه إلى فضائل الأعمال والمشاركة في الجهد الحضاري، ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وينصحون الحاكم، ولكن بعد سقوط الخلافة الإسلامية وقع الانفصال التام بسبب النهج العلماني الموروث من الاستعمار. 

والعلماء أصناف في العلاقة بالحكم، من كان منهم ينافس على الحكم عليه أن ينضبط بقواعد المنافسة السياسية والحزبية ولا خصوصية له في ذلك، ومن أراد أن يبقى في إطار النصيحة والتوجيه دون المنافسة على الحكم عليه أن يختار الآليات والخطاب المناسب وأن يحدد المسافة بينه وبين الحاكم بما لا يكون أداة لأهوائه ولضرب خصومه، وبما لا يجعله سببا للتوتر والصراعات، وبما يجعله محافظا على تأثيره ومرجعيته بين الناس بمختلف توجهاتهم وانتماءاتهم، وقد يضطر بطبيعة الحال إلى الصدع بكلمة الحق عند الاقتضاء الشرعي بما يجعله في مواجهة الحاكم الظالم والفاسد. 
وهناك علماء اختاروا الحق الحلو وهو التفرغ للعلم والفتوى العادية والانعزال الكلي عن الشأن السياسي وربما الشأن العام، وهؤلاء لهم أفضال ولكنهم ليسوا قادة، وكلما كانت مكانة العلماء في المجتمع كبيرة وكانت لهم الحكمة في التعامل في شؤون السياسة صعب على الحاكم إيذاؤهم، وإن فعل ذلك تكون الضريبة عليه كبيرة.

إذا كانت الحركة الإسلامية ستواجه بمطالب (خدمة) الجمهور بعد وصولها إلى الحكم، فكيف تطبق مشروعها القيمي؟ وكيف يمكن الموازنة في تحقيق ذلك المطلب (الخدمة) بالموازاة مع الهدف الاستراتيجي (الاستئناف الحضاري)؟

حينما تصل الحركة الإسلامية للحكم فإن أساس خدمتها للناس هو التنمية البشرية وبناء المواطن الصالح الفاعل المشارك في مجهودات التنمية، وحين تكون في الحكم سيكون في يدها كل الوسائل لغرس القيم بشكل شامل وعميق، ولا مجال للمقارنة بين ما تفعله على هذا المضمار من خلال وسائل وبرامج الدولة مع ما تقوم بوسائلها الدعوية المعروفة والمحدودة. 
عندما تكون الحركة الإسلامية في الحكم ستخدم مشروعها القيمي بواسطة وزارة التربية والمؤسسات التربوية المختلفة والمدرسة بشكل عام، ومن خلال التوجيه الإعلامي، ومن خلال وزارة الأوقاف والشؤون الدينية والتوجيه الأسري ودعم المؤسسات المدنية المختصة بنشر القيم.

يجب أن نتذكر بأن الحرب الموجهة الآن ضد الإسلام أصبحت تتجه لتغيير الإنسان المسلم وتحريفه عن قيمه من خلال تغيير المنظومات التربوية والأسرية ومن خلال الإعلام والتحكم في المسجد. 

فغياب المشروع الإسلامي عن الحكم هو تسليم هذه القطاعات المهمة في بناء الإنسان لأعداء الأمة، وبطيعة الحال خدمة الإنسان في معاشه من خلال التنمية وتوفير الشغل والخدمات تحفظه من الفقر الذي كاد أن يكون كفرا كما جاء في الحديث، علاوة على أن نجاح الإسلاميين في خدمة الناس من خلال الحكم سيحببهم للإسلام ذاته. الصورة واضحة أيها الأعزاء.

مناغمة عواطف الجمهور قد يوقع في فخ الانقياد لهم، فكيف يمكن للحركة الإسلامية أن تحقق المناغمة المطلوبة للجمهور مع النجاح في قيادتهم لا الانقياد لهم؟

المطلوب هو الاستماع للجمهور والاستماع لاحتياجاتهم والتعبير عنها نيابة عنهم والدفاع عنها وحسن تمثيلهم في المجالس المنتخبة وخدمتهم عند الوصول للحكم، وإذا كانت الأوضاع صعبة في ظل أنظمة شمولية ظالمة وفاسدة، يجب الوقوف أمامهم من أجل التغيير وليس خلفهم، والتضحية تكون أولا من النخب، ثم تأتي الشعوب لدعم النخب في الوقت المناسب عند فترات الحسم، وأي استعمال لعواطف الشعوب في غير الوقت المناسب هو إضرار بهم وإضرار بالمشروع، وحسن التقدير في ذلك هو ما يعني الأهلية القيادية وهو قبل ذلك توفيق من الله.