الإنسان وما أدراك ما هو، كائن معقد فهمه فقط عند الإبتعاد عن رؤيته من خلال الوحي، كائن ذو تناقضات داخلية متعددة ومزدوجة، فأحياناً يخاف وأحياناً يقتحم، يكون شجاعاً ثم يغدو جباناً، يشعر أن داخله قوي ثم ينقلب الشعور فجأة لهش.
تلك التناقضات المزدوجة التي يعيشها الفرد في ذاته يفتح لها الوحي آفاقاً واسعة للحل، يفتح للذات فساحتها التي تنقلها من عالم الأرض المحدود لعوالم أكبر، فتتفتق الذات بالأمل فتعمل.
إن الوحي يُبين أن الحياة الدنيا ما هي إلا ابتلاء واختبار، يبتليك الله بالنقص في دنياك أو يحبب إليك شيء من مالٍ أو نفس أو ذهب فيبتليك ببعده ويبتليك بأخذه منك ليرى صبرك ويختبر إيمانك به وأنه المعطي والآخذ والمحيي والمميت وأنه إليه يرجع الأمر كله، وإليه تصير الأمور "صِراطِ اللَّهِ الَّذي لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الأَرضِ أَلا إِلَى اللَّهِ تَصيرُ الأُمورُ" (الشورى: 53).
فما المعادلة التي تطمئن لها النفس في سيرها وفِي حياتها على الأرض؟ وما هي الخصائص التي ينبغي أن تنبت في النفس لتقاوم ما يعتريها من مصائب ونوازل مباغتة تورث الألم؟
للإجابة على هذه الأسئلة لابد أن نتعرف أن الله تعالى جعل منهجاً يتبعه عباده وهو (الإيمان)، والإيمان ثمرةٌ من المجاهدة في معرفة الله، والإيمان درجات متعددة وواسعة وقد تحدث كثير من الفقهاء وأهل الصدق عنه فيما كتبوا. كذلك من الإيمان اليقين على ما اكتسبت النفس من شأن الدنيا والرضا بما قسمه الله لها خلال سعيها، وذلك لا يعني الإستغناءُ عن السعي والعمل والجهد، لكنه يعني كسر شوكة الحزن التي يورثها القلق من شأن الدنيا ومتاعها وإستعلاء الإيمان على بهرجها.
ربما يعلق الله قلبك بحلمٍ أو يحبب أحد خلقه إليك ويبتليك ببعده عنك في الواقع فينبت فيك الألم وتنزل عليك الشدة ليمحص الله قلبك إليه ويختبر لجوءك لرحمته ولطفه، اتصبر أم تكفر، أتحتسب الألم ليغفر لك الله أم تسخط فيزيدك الله خسراناً.
والتبصُر في معارف الذات يَكشف للمرء ضعفه، ولولا الجهل بمآلات الأمور لما استقامَ التسليم لله، فلذةُ التسليم تنبت في النفس مع الجهل بالحكمة من الألم، ويقتضي على الإنسان التسليم في كل ما يرى أن ليس لديه يد في تقديره، ويستأنف سيره إلى اللهِ غير عابئ بمصائر الطريق، بل عليه أن يعرف سبيل الحق من الوحي فيتبعه هادياً ونصيراً.
إن الله يعلمك الإيمان بالألم يعلمك أنه عالم الغيب والشهادة، يُنزل عليك الشدائد ليغفر لك، يصبك بالمصيبة ليقربك إليه، يملأ قلبك شوكاً يكاد يفتك بك ليجرك للطفه الكبير، يضيّق الدنيا عليك لتعلم أنه الواسع، يفكك أوصالك التي اعطاك إياها لتعرف أنك إليه راجع. "الَّذينَ إِذا أَصابَتهُم مُصيبَةٌ قالوا إِنّا لِلَّهِ وَإِنّا إِلَيهِ راجِعونَ" (البقرة: 156).
والحياة الدنيا إنما هي سلسلة متصلة من الإختبارات، ولربما يكون الإختيار ليس أخذاً منك بل عطاءُ إليك، فإن نقلك الله من ميدان اختبارات الأخذ فسيضعك في ميدان إختبارات العطاء وما أكبر هذا الميدان، وما أقل الناجحين فيه، فعطاءُ الله للناس غير مجذوذ ولا منقوص. فكم من نعم الله الهابطة على الناس وهم المظلومون الكفّارون " وَآتاكُم مِن كُلِّ ما سَأَلتُموهُ وَإِن تَعُدّوا نِعمَتَ اللَّهِ لا تُحصوها إِنَّ الإِنسانَ لَظَلومٌ كَفّارٌ " (إبراهيم: 34).
وما هي الخلاصة من ذلك؟
الخلاصة يا سادة أن يعيش المؤمن سعيد فلا يفرط في الحزن على مأخوذ منه أو ناقصٌ في دنياه، ولا يفرح بما أوتي من متاع فهو مأخوذ منه أو هو ذاهب وتاركه. لكي لا تأسوا على ما فاتكم ولا تفرحوا بما آتَاكُم. "ما أَصابَ مِن مُصيبَةٍ فِي الأَرضِ وَلا في أَنفُسِكُم إِلّا في كِتابٍ مِن قَبلِ أَن نَبرَأَها إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسيرٌ(22) لِكَيلا تَأسَوا عَلى ما فاتَكُم وَلا تَفرَحوا بِما آتاكُم وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ مُختالٍ فَخورٍ" (الحديد: 23)