مسموح لك أن تفكر كما نشاء وحرام عليك أن تعبر إلا كما نشاء؟؟ هل هذا قول عاقل أم مهووس؟ هكذا يريد منا خياطو الفكر العربي الذين يفصلون لنا اليوم بدلات طفولية سخرية للناظرين، في إعلان وصاية على أمة قاصرة قد وضعت عقلها في جيبها وأتقنت فن الخرس وهضمت دور الانصياع الى الأبد؟!

المواطن العربي اليوم محاصر في مثلث من المحرمات بين الدين والسياسة والجنس، كل ضلع فيه يمثل حاجزاً شاهقاً لا يستطيع أفضل حصان عربي رشيق أن يقفز فوقه إلا بالقفز إلى الإعدام؛ فأمام حائط الدين يطل مفهوم الردة، وأمام جدار السياسة يبرز مصطلح الخيانة، وعند حافة الجنس تشع كل ألوان الحرام والعيب ولو كان البحث في معهد من طراز (كينسي) للبحث العلمي في أمريكا؛ فالعقل مصادر ومؤمم ملغي حتى إشعار آخر.

فطائفة أعلنت الوصاية على العقل ورفعت شعار التخصص فيما يشبه الكهنوت ووضعت شروطاً للاجتهاد لن تجتمع إلا في كائن أسطوري فوق بشري، والسياسيون صادروا الضمير ونشروا الرعب فلا يستطيع المواطن التصريح بأفكاره ولو بمنشور سري، وعقلية التقليد الآبائية وضعت الخطوط الحمراء أمام جدار كهربائي صاعق عليه إشارة (جمجمة وعظمتين) كما في غرف التوتر الكهربي العالي.

ولكن هل نحن فعلاً كذلك؟ الواقع أننا نمارس العادة السرية في التفكير فحشد من الذكور يسافرون يتندرون بأقذر قصص الجنس الرخيصة، وماسح الأحذية يبوح بأخطر أفكاره السياسية لمن يثق به، وعالم الدين المستنير يحتفظ بالآراء الجريئة لنفسه مسايرة لجمهور أعمى وسلطة عوام أثقل من نجم نتروني.

هناك علاقة في البيولوجيا بين العضو والوظيفة؛ فالعضو الذي لا ينشط يضمر، والجهاز الذي لا يعمل يموت، وحركات مفاصلنا مع نسمات الصباح تحررنا من اليبوسة، وتدريب عقولنا على النقاش والجدل يفتح طرقاً عصبية رائدة دوماً.

والعقل النقدي حي والعقل النقلي ميت؛ لأن الأول يعمل بكل الطاقة، والثاني يحفز الذاكرة فلا يزيد عن علبة حديد مثل الكمبيوتر. إذا انكمش العضو ضمرت العضلات وترققت العظام وجسأت المفاصل، هذه هي مشكلة الأطباء مع المرضى المشلولين لفترة طويلة ولو عادت الحياة إلى العصب فالمفصل يروي قصة الكارثة على شكل تشوه معيب وقسط مستديم؛ وهكذا فالمرض والاختلاط (المضاعفات COMPLICATION ) يتفاعلان على نحو جدلي متبادل التأثير يدفع الإنسان الى هاوية لا رجعة منها. 

ما يحدث في البيولوجيا يتكرر في السيكولوجيا والسوسيولوجيا؛ فالإنسان الذي اعتاد الاستلقاء يصعب عليه المشي وتحريك العضلات، والفرد المأسور في أنظمة سياسية وبرامج ذهنية تصادر العقل لفترة طويلة يتحول الى كائن ممسوخ أشبه بالقردة والخنازير، والمجتمعات الخرساء التي أتقنت فن الصمت تقترب من حافة الموت بتفسخ شبكة العلاقات الاجتماعية وتوقف العمل المشترك. 

يمثل الإنسان الكائن الواعي فيتميز عن النبات ولكن ثقافتنا تريد منا أن نفتح كتب النبات فنتحلى بصفاته فنتكاثر ونتنفس ونتغذى ولكن بدون نطق أو وعي، فمتى أنشدت شجرة قصيدة أو اعترضت نبتة على خرافة؟ وإذا أردنا الحركة فيجب أن نقلد النباتات المتسلقة ببطء وضعف بدون إثارة أي انتباه فنزحف على بطوننا زحفا؟

إذا كان الوعي هو الانفكاك عن رتابة الطبيعة فليس أمام العقل إلا أن يفكر ويعبر، والتفكير يقود آلياً إلى التعبير ما لم يصد بآليات الإرهاب والقمع أو السخرية والتكذيب.

التفكير يقود إلى التعبير والتعبير ينعكس على التفكير فينميه ويصححه ويعمق مجراه، ومن خلال التعبير سواء بالنطق أو الكتابة إلى مستوى التواصل العالمي بالأنترنت يتحول العقل الفردي إلى عقل جماعي عملاق، ولم ينمو العقل الإنساني إلا بواسطة هذه الآلية من التعبير العلني والإفصاح عنه في ضوء النهار تحت سمع الجميع في مؤتمرات ومناظرات حفظتها الكتابة كذاكرة جديدة تراكمية.

 ولم يكن للعلم أن يتطور لولا نزع غطاء السرية عنه ومناقشة أي شيء علنا بدون الخوف من الاتهام بالزندقة، فالعلم يخترق كل التابو ولا يعرف الحدود أو يعلن عن استراحة أو توقف، كما لا يقدم استقالته أو تغشاه حيرة لأنه من الله الذي يعلم السر وأخفى وفوق كل ذي علم عليم.

 

 

وقبل عصر الكتابة كانت الخبرات تموت بموت الأفراد، ولكن مع الكتابة والنقاش الجماعي أصبح الفرد يأخذ خبرات الجنس البشري المتراكمة خلال ملايين السنين فيمتصها من المحيط الاجتماعي ويتمثلها خلال سنوات الطفولة القليلة لذا كان التعبير وأدواته حياة العقل الإنساني الجمعي. 

من هنا كانت سنوات الطفولة عند الإنسان نسبياً طويلة بالنسبة للحيوان، كما أنها حاسمة في جعل الإنسان كائناً اجتماعياً، ويتم صقل أداة التعبير بنظام اللغة المفتوح في السنوات الأولى؛ فإذا لم ينطق الإنسان خلال سنوات الطفولة خسرها إلى الأبد كما أظهرت ذلك أبحاث علم الاجتماع الانثروبولوجي.

لا غرابة أن لعن القرآن الذين يكتمون المعلومات أو يأجرون أقلامهم لأصحاب النفوذ فيشترون به ثمناً قليلاً فأقسم بالقلم وما يسطرون وبالطور وكتاب مسطور، وأول كلمة أنزلت كانت أمراً بالقراءة وفي الإنجيل (في البدء كانت الكلمة) فهذه هي أساسيات فلسفة التفكير والتعبير . 

المنافق هو الذي يضمر غير ما يعبر عنه في قلوبهم مرض فزادهم الله مرضا، ومرض التقية هو التظاهر بعبارات تستر وضعاً متبايناً، والقرآن أراد من المؤمن التخلص من مرض النفاق والتقية في ضربة واحدة، وأعتبر أن من يكتم قناعاته ملعون من الله وملائكته والناس أجمعين، وخلَّد موقف الاعلان والتعبير في سورة كاملة أعطاها اسم الرجل ( المؤمن ) الذي لم يسكت فقال لفرعون لم تقتلون رجلاً يقول ربي الله؛ فموسى لم يذنب بشيء يستحق عليه القتل ولم يمارس سوى حق التعبير في انتقاد وضع فاسد. 

في الواقع لم يكن ( جان مسلييه ) كافراً بالله عندما سمح لعقله بالاعتراض على الفكر السائد، كما لم يكن (نيتشه) ملحداً عندما أعلن موت الله، كما لم يهرطق (فوكو) بإعلان موت الإنسان. كلهم مؤمن عميق اليقين أقرب إلى حرارة التصوف ولكن كلهم يرفض تصورات الكنيسة ويتمرد على فكر العصر وهو ما فعله الأنبياء في التاريخ دوماً فقال معارضوهم من الملأ لم نسمع بهذا في آباءنا الأولين، وهذه الآلية لا تخص المسيحيين دون المسلمين أو البوذيين دون الهندوس فهي قانون إنساني يسري مفعوله على جميع البشر، وعندما يدعي البعض أنهم أبناء الله وأحباؤه يكون الجواب: فلم يعذبكم بذنوبكم بل أنتم بشر ممن خلق؟! 

يروي لنا تراثنا أن الشاعر (جميل) اقتيد إلى الخليفة المعتصم لكلمة قالها فأمر بإعدامه وكان الى جنب الخليفة (السيَّاف) جاهزاً فأنشد يريد إنقاذ رقبته :

أرى الموت بين النطع والسيف كامناً يلاحظني من حيثما أتلفـــت

وأي امــرئ يــدلي بعــذر وحجــة وسيف المنايا بين عينيه مصلـت

وما جزعي من أن أموت وإنــــــني لأعلم أن الموت شيء مؤقــــــت

ولكن خلفي صبية قد تركتـــــــهم وأكبادهم من حسرة تتفتــــــت

كأني أراهم حين أنعى إليهـــــــم وقد لطموا تلك الوجوه وصوتــوا

فإن عشت عاشوا سالمين بغبطــــة أذود الردى عنهم وإن مت موتوا

تقول الرواية أن قلب الخليفة المعتصم أشفق عليه فضحك وقال: كاد والله ياجميل أن يسبق السيف العذل؟! اذهب فقد وهبتك للصبية وعفوت عن الهفوة وخلع عليه وعقد له على شاطيء الفرات وأحسن وأجمل السيرة؟

وهكذا فمصير الإنسان معلق بكلمة واحدة وموته وحياته تنتهي على (تعبير) تفوه به. نحن نروي هذه الواقعة أنها من مفاخر التاريخ العربي إلى درجة أننا نعيد استنساخها لتوضع في يوميات التقويم السنوي كحكمة يومية نستفتح بها نهارنا في تكريس ثقافة النمرود الذي قال لإبراهيم أنا أحيي وأميت في عار ما بعده عار وتاريخ مخجل يحتاج إلى إعادة كتابته من جديد بعيداً عن سير وعاظ السلاطين.

الكلمة بريئة نحن الذين نشحنها بالمعنى، واللفظ قمر يعكس المعنى من شمس الفكر ونحن ننقش الكلمات في أوراق الكفن الأبيض والمعنى يهبها الحياة على شكل كائن يتجسد منتصبا من تابوت الألفاظ.

لم يكن (أبو حامد الغزالي) مجانباً الحقيقة عندما اعتبر أن توليد المعاني من الألفاظ ورطة قاتلة؛ فمثلها مثل ألعاب السيرك التي تخرج الأرانب من القبعات السوداء كما فعل بعض من كتب عندما أخرج أحدهم من لفظة (ولا يضربن بأرجلهن) أن معناه (الستربتيز = التعري)؟ فيمكن توليد كل المعاني من أي لفظ بعمل بهلواني؟ واعتبر ( الغزالي) في كتابه (المستصفى) أن من أراد تحصيل المعاني من الألفاظ (ضاع وهلك وكان كمن يستدبر المغرب وهو يطلبه) ومن قرر المعاني أولاً ثم اتبع الألفاظ المعاني فقد نجا.