للتخلف العديد من الأنواع والأشكال المعروفة، فمنه ما يتعلق بالفرد ومنه ما يتعلق بالجماعات والأمم، وعادةً ما تكون العلاقة طردية بين هذين النوعين، فتخلف الأفراد يؤدي بشكل أساسي إلى تخلف الأمم، وتخلف الأمم يؤدي ويؤثر بشكل أساسي على تخلف الأفراد، إلا ما كان من تخلف خُلقي يولد به الشخص وهو حالة مرضية. فالكسل من الأسباب الرئيسية المؤدية إلى تخلف الأفراد والأمم.
كان العرب في الجاهلية يترفعون على العديد من الحرف والأعمال مثل الزراعة والرعي والحدادة وما إلى ذلك، فكان أشرافهم يهتمون بالتفاخر بنسبهم وأشعارهم ويكتفون بالتجارة باعتبارها العمل الذي يناسب ِرفعة قدرهم وعُلو شأنهم وأصالة نسبهم، ولما جاء الإسلام جعل العمل والكسب عبادة وحث عليهما، بل وفضل العاملين على المعتكفين بالمساجد.
مع الأسف الشديد ورثت شعوبنا هذه العادات السيئة عن الأجداد منذ زمن الجاهلية، فأصبح الفتى لا يدرس إلا تخصصاً مرموقاً ولا يعمل إلا وله حاشية تمجده وتبقى رهن إشارته، وإلا فالبقاء عاطلاً عن العمل أفضل وأشرف له من أن يمتهن حرفةً أو عملاً يرفع عنه العوز، وفي الحقيقة ليس هناك تفاضل في الأعمال إذا لم يكن في العمل ما يغضب الله. فمثلا صاحب الشركات والأعمال إذا إنقطع به الحال في طريق موحش و تعطلت سيارته فتصبح جميع أمانيه تدور حول إيجاد ميكانيكي ليصلح له سيارته، وحتى المصانع الكبرى يعمل بها تقنيون وفنيون من مختلف المهن والتخصصات، علا شأن هذه المواريث والتقاليد حتى أصبحت مجتمعاتنا خاملة عاطلة وكسولة.
تُوصف شعوبنا وأمتنا بالكسل والخمول، وهذه حقيقة، فنحن نقضي الساعات الطوال في النوم والراحة فلا نُفلح في أمر من أمور حياتنا، ولا عبادة نرتقي بها عند الله، ولا حياة كريمة نعيشها في ظل الكسل، على عكس الدول المتقدمة التي لا يعرف الكسل إليها طريق، فقد استيقظوا أثناء نومنا وسبقونا أثناء راحتنا.
الكسل من أهم أسباب التخلف:
نحن نعيش على الإستيراد لمعظم المنتجات التي لا ننتجها ونعيش على ما تنتجه أرضنا دون جهد منا مثل البترول ومشتقاته، نقوم بتصدير القطن من مختلف الأنواع لنعود ونستورده على شكل ملابس غالية الثمن، نقوم بتصدير الصمغ العربي لنعود ونستورده على شكل حلويات وأدوية ومنتجات تجميل أغلى ثمناً، فكسلنا يمنعنا من إنشاء المصانع والمحال والمغازل.
مصانع العالم الإسلامي لا تتعدى مصافي البترول وتكريره وإنتاجه، ومصانع التعبئة والتغليف والقليل من الصناعات الغذائية وحتى آلات المصانع يتم جلبها من دول العالم الغربي.
مصانع الصناعات الثقيلة منعدمة في بلداننا، فحتى صناعة السيارات تتم على شكل تركيب وتجميع القطع المستوردة، لا يمكن أن نعزي ذلك سوى إلى الكسل، ليس لضعف أو قلة في الموارد البشرية، فالعالم الإسلامي يملك من الأيدي العاملة ما يكفي بحكم نسبة الشباب الموجودة فيه والتي تفوق 70%. في حين العالم الغربي يعاني من عجز في اليد العاملة بحكم أن نسبة الشيوخ هي الغالبة ومع ذلك أحدث الفارق. من حيث الموارد المادية فلنا منها ما يمكن أن يجلب لنا أغلى العملات إن كان هناك حسن تدبير، ونملك من المساحات والأراضي الفلاحية الكثير، وأيضا لنا من الثروات الحيوانية والمياه العذبة ما يكفي، ولكن يبقى الكسل سبب تخلفنا الأول.
الكسل على مستوى الأفراد:
على الصعيد الفردي نجد أن معظم الأفراد يستيقظ متأخراً، ولا يسعى لكسب عيشه إلا متكاسلاً متخاذلاً، وقد أوصانا ديننا الحنيف بالبكور فقد بارك الله لنا فيه، إذ نرى في الأسواق ومناطق الأعمال الحرة تأخر في بدء العمل.
أدى التكاسل الزائد والإفراط في الخمول إلى عدم الإخلاص في جميع الأعمال، وتحديداً في الأعمال غير الحرة التي يأخذ العمال أجرها بإنتظام، وإن كان للأجر المنخفض دور في عدم الإخلاص، وإنما هو ليس بمبرر له، بل يرجع ذلك إلى التكاسل، فنرى المعلم يتكاسل عن بذل مجهود أكبر في توصيل المعلومات ويفتر عن متابعة الطلاب، ولا يتفانى في وضع أسئلة ذات قيمة لتقييم مستواهم تخاذلاً عن التصحيح والمتابعة والمراقبة إلا من رحم ربي، ونرى الموظف الحكومي يتهاون في أن يبحث لك عن شهادتك الجامعية المستخرجة حديثاً وسط كومة من الشهادات فيخبرك أنه لم يتم إستخراجها، ويقول لك إذهب وعد بعد إسبوع، والكثير الكثير من الأمثلة على التكاسل الفردي المؤدي إلى تخلف الأفراد وبالتالي تخلف الأمم، فماذا تنتظر الأمم من شعوب تهوى الإسترخاء و التماطل في أداء مهامها.
من الكسل البدني إلى الكسل العقلي
تفشى الكسل البدني وتشربت به المجتمعات حتى زحف زحفاً إلى العقل، وأصبحت العقول أشد كسلا من الأبدان، وهما أيضا يقودان إلى بعضهما البعض فلو كان العقل نشيطاً مليئاً بالأفكار المتجددة لحث البدن على تنفيذها، ولو كان البدن نشيطاً متحركاً لحث العقل على ابتكار أفكار جديدة.
الكسل الفكري هو المسبب الرئيسي لأزمة التخلف، فإن كان الكسل البدني يضر صاحبه بشكل أكبر، فإن الكسل الفكري يضر المجتمعات بشكل أكبر من ذلك، فعلى سبيل الفرد إذا لم يكن هناك تفكير إبداعي فقد يعاني الفرد من تنفيذ أبسط مهامه، ويصبح قليل البديهة، شبه منعدم النظر والرؤية، فحتى على الصعيد المجتمعي نرى أن الأفراد لا يميلون للتأمل وإعمال عقولهم لفهم أي معتقد سائد أو معرفة ما يدور خلف كواليسهم، لذا فإن الأسهل لذوي العقول الكسولة هو عدم التفكير والاستدراك، فقط تقليد أعمى لكل ما هو مستحدث، وتقليد أشد عمى وظلمة لكل ما هو قديم، وكل ما يدخل في أُطر العادات والتقاليد، فنرى فكرة واحدة سائدة في المجتمع تتبناها جميع الأجيال دون فهم أو إدراك أو حتى محاولة تقصي الأمر، ومن يحاول أن يأتي بفكرة جديدة فهو من الخوارج الذين تجب محاربتهم، وإذا فعل شخص مشهورأمراً ما أو قال قولاً ما أصبح قدوة للمعجبين لدرجة التقديس.
هذا التقليد الأعمى في الواقع لا ينتج عن انبهار أو إعجاب، إنما فقط ينتج عن الكسل الفكري، فإن الشخص يشعر بالإنهاك الفكري بسرعة أكبر من شعوره بالإنهاك البدني فيسارع بالبحث عن حلول تقيه شر هذا الإنهاك، فلا يتبنى الفرد أي فكرة حتى يصدق ويسلم بكل ما يراه وكل ما يسمعه دون أن يتكبد عناء البحث و التدقيق.
حتى القراءة أصبحت مهجورة في مجتمعاتنا ليس لأنها مملة كما يزعم الكثيرون، وإنما لأنها تحتاج لإعمال الفكر والخيال أكثر بكثير من مشاهدة الفيديوهات والرسوم المتحركة التي تساهم بشكل أساسي في شل الحركة الفكرية والإبداعية للعقل، وقد تؤدي أحياناً إلى التبلد، وكلما طالت فترة التسليم والتصديق الأعمى كلما قلت الإنتاجية الفكرية، وأصبح من الصعب جداً الإتيان بأفكار جديدة مفيدة تصب في مصلحة الفرد والمجتمع.
تأثير الكسل الفكري على الأمم
من تأثيرات الكسل الفكري على الأمم هو عدم إستغلال الموارد المتوفرة استغلالا مثالياً؛ فجميع الأعمال بمختلف أنواعها سواء الصناعة أو الزراعة وما إلى ذلك لا تخرج عن النطاق التقليدي، وتكاد تكون خالية تماما من إبتكار طرق وأساليب جديدة للعمل والإنتاج لتحقيق الإكتفاء الذاتي، حتى الطعام الذي يتم إعداده في المنازل هو نفسه الذي كان يُعد منذ خمسين عاماً وربما أكثر، فإنه لا يوجد تفكير إبداعي أو خروج عن المألوف حتى في مثل هذه الأمور البسيطة التي لا يمكن أن تؤثر سلبا أو إيجابا بأي شكل من الأشكال على أي شخص، فمثلا في العالم العربي تحديداً نشتكي دائما من ارتفاع درجة الحرارة، ولكن لم نفكر يوما في تحويل تلك الطاقة إلى طاقة بديلة لاستغلالها في مجالات أخرى، وإن كان هنالك القليل من الدول التي استدركت الأمر متأخرة وكما يقال أن تأتي متأخرا خير من ألا تأتي أبدا. والأمل أن نرى باقي الدول تحذو حذوها، فالعالم الغربي في طريقه أو ربما وصل إلى صناعة سيارات تعمل بالطاقة الشمسية.
هناك دول رغم صغر مساحتها وقسوة تضاريسها إلا أنها لم تتوقف عن ممارسة الزراعة في أماكن قاسية كالجبال وجعلتها على شكل مدرجات ومسطحات لتُزرع فيها المحاصيل المناسبة.
سويسرا هي أول الدول في إنتاج الشيكولاتة الرفيعة ومنتجات الكاكاو والعجيب أنها لا تزرع الكاكاو على أراضيها، ومع ذلك تربعت على عرش منتجاته بإعمال الفكر.
وفي المقابل دولة ساحل العاج تتربع على عرش إنتاج الكاكاو في العالم وتعتبر أفريقيا بشكل عام أكبر منتج للكاكاو ولكن الكسل الفكري جعل أفريقيا تنتج وأوروبا تستثمر وتكسب.
وتعتبر الصين والهند ثم نيجيريا تليها الولايات المتحدة الأمريكية من أكثر الدول المنتجة للفول السوداني في العالم، ويحققون استثمارات كبيرة في المنتوج لوجود مصانع ضمة تقوم بتحويله إلى منتوجات متعددة الإستعمال بفضل سواعد وأفكار إبداعية ووصلوا للتصدير إلى دول أخرى في العالم، بينما السودان الذي يحتل المرتبة الخامسة من حيث الإنتاج لا تتعدى الصناعات المعتمدة على الفول السوداني فيه صناعة الزيوت وزبدة الفول السوداني وإستعمال قشوره كعلف للماشية، ولو رأينا ما يتم إنتاجه من الفول السوداني لأذهلنا، ولكن عدم وجود أفكار إبداعية جعل السودان تقوم بتصديره كمادة خام، والاكتفاء بالعائد الزهيد مقارنة بالعائد الذي يمكن الحصول عليه من المنتجات المتنوعة للفول السوداني في حال وجود مصانع تقوم بتكريره وتحويله لأكثر من استعمال.
أما بالنسبة للكسل الفكري المتعلق بالتكنولوجيا فحدث ولا حرج لشدة التأخر الحاصل في هذا المجال، فالتخلف في الأمور سابقة الذكر يعزى بشكل من الأشكال إلى التخلف في مجال التكنولوجيا، والمواضيع المطروحة في مؤشر تكنولوجيا الإتصالات تكفي لتوضيح هذا الأمر.
إذاً فالكسل بأنواعه يمكن اعتباره من أهم أسباب أزمة التخلف، فالكسل البدني يؤدي إلى البطالة بأنواعها، والكسل الفكري يؤدي إلى عدم التقدم و ضعف الإبتكار ومحدودية الإنتاج، وللخروج من هذه الأزمة لابد من معالجة هذه المشاكل وبث روح النشاط ونشر ثقافة العمل والإهتمام بالفكر منذ المراحل الأولى للتعليم باعتبارها الإنطلاقة نحو التنمية المؤمل حصادها مستقبلاً.