بعد نهاية الحرب العالمية الثانية وبِموجب وعد بلفور بدأت حركة إنشاء كيان صهيوني بفلسطين، نتيجة لتوجيه حركة الهجرة اليهودية إلى فلسطين من قبل بريطانيا منذ الحرب العالمية الأولى، وبِسقوط الدولة العُثمانية بدأت الحروب والثورات والمُقاومات في فلسطين لحركة الاحتلال الصُهيوني، وقامت بريطانيا تدريجيا بالانسحاب من الأراضي الفلسطينية مُعلِنة بذلك نهاية انتدابها على فلسطين، كان ذلك كله في مصلحة بني صُهيون الذين قاموا بالاستيلاء على المناطق التي انسحبت منها بريطانيا، في حين أن جميع القوى العربية آنذاك لم تُحرِك ساكنا ولم تفعل أو تُبدي سوى الإعتراض.
ولم تكن هنالك مظاهر للتحرك الفعلي فيما يتعلق بشأن فلسطين، واصلت إسرائيل احتلالها للأراضي وتخطت الحدود المفروضة لها بموجب التقسيم، واشتعلت نيران الحُروب بينها وبين العديد من الدول العربية، وتحديداً سوريا ومصر والأردن بحكم القرابة الجغرافية بينها وبين العديد من الدول العربية الأخرى الداعمة للقضية الفلسطينية.
من بلد مستقل إلى وطن محتل بلا نهاية.. سلامٌ معه ومن أجله أم عليه؟
استمر الضغط من قبل إسرائيل والعالم الغربي على فَلسطين والدول المُجاورة لها، وفي المقابل الإنهزام النفسي والبنائي للدول العربية نتيجة لعوامل أخرى أثرت عليها -كَحرب الخليج- مما حدى في النهاية بفلسطين للرضوخ لبعض الاتفاقيات مثل اتفاقية أوسلو بمؤتمر السلام بمدريد والتي قضت جميعها بالإعتراف بالكيان الصهيوني.
يجب أن نُشير إلى أن هذا الإعتراف جاء من قِبل دُول العالم العربي، حيثُ أن دول العالم الغربي صرحت بهذا الإعتراف منذ إنتهاء الإنتداب البريطاني على فلسطين، وفي العام 2002 أطلق الملك عبدا لله بن عبد العزيز ملك السعودية ما سُمي بمبادرة السلام والتي تهدف إلى إقامة دولة فِلسطينية مُعترف بها عالميا ضمن حدود ما قبل 67 وعودة اللاجئين وانسحاب إسرائيل من جميع هذه الحدود في مُقابل الإعتراف وتطبيع العلاقات بين إسرائيل والدول العربية.
وما نراه من ردة فعل عكسية تماماً وغير متوقعة من الدول العربية وهو ما يتنافى تماماً مع الواجب تجاه هذه القضية، بداية بعدم التصدي كما يجب لهذا العدوان، ومن ثم التخاذل مروراً بالتسليم، ومؤخراً تم اعتبارها قضية غير ذات أهمية بالنسبة للعديد من الدول العربية، بل والوقوف ضدها بالعديد من الصور والأشكال تحت مظلة البحث عن السلام.
ولكن لماذا دائماً يتم البحث عن السلام مع إسرائيل والخضوع لها ومحاولة أخذ كلمتها والتقرب إليها مقابل التغرب عن فلسطين، والواجب أن يُبحث السلام معها ومن أجلها لا عليها، وقد أصبحت مُهمشة تماماً، وفي الحقيقة أن القضية الفلسطينية تمس كل مسلم في شخصه ودينه وعاطفته بالفطرة، وللدلالة على ذلك نجد أنه حتى الأطفال حديثي العهد بهذه الأمور لا يملكون عنها خلفية واسعة –والأَوْلَى والواجب هو أن يتم تَمليكهم إياها– يميلون إلى القضية الفلسطينية وتأبى نُفوسُهم الحرة البريئة الخضوع للأمر الواقع.
لماذا المساس به مساسٌ بدينك؟
إن فلسطين تحمل كماً هائلاً من الدلائل الدينية العظيمة بعد المملكة العربية السعودية في دلالتها الإسلامية؛ إذ أن المملكة هي أرض الحبيب وأصحابه وأحبابه وآل بيته وتضم في حجرها مسجده وحرم الله تعالى، وفي المقابل نجد أن فلسطين أرض الأنبياء حيث جُمِعوا بها وصلوا خلف نبينا الحبيب، وعرج منها إلى السماء وقال عليه أفضل الصلاة والتسليم عن بيت مقدسها: لا تُشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد هي المسجد الحرام، ومسجد الرسول صلى الله عليه وسلم، والمسجد الأقصى.
قضية فلسطين أشد في كونها قضية تمس الإسلام والمسلمين وتمس العرب والعروبة، كل أذى يصيب القضية يشْعِرُ الفرد بالمساس في دينه، فمن الروايات التي ثبت صحة إسنادها عن أم سلمة رضي الله عنها وأرضاها أن الصلاة في المسجد الأقصى بألف صلاة، وفي رواية بخمسمائة صلاة.
ويبدو جلياً من هذا أن فلسطين مُحتلة والكل على يقين بذلك في قرارة نفسه، وأن إسرائيل ليس لها في فلسطين بلد، وما يقوم به العدو الصهيوني بغي وعُدوان، ومع أننا لم نقم بواجبنا كما هو مُحتم علينا، ولم نفي بوعدنا للقضية، ويبقى الأمر لرب السماء والله لا يُخلف الميعاد، كما ارتبط أمر تحرير فلسطين بقيام الساعة وهو حق على الله والله الحق.
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضيَ اللهُ عنه، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى يُقَاتِل الْمُسْلِمُونَ الْيَهُودَ، فَيَقْتُلُهُمْ الْمُسْلِمُونَ، حَتَّى يَخْتَبِئَ الْيَهُودِيُّ مِنْ وَرَاءِ الْحَجَرِ وَالشَّجَرِ، فَيَقُولُ الْحَجَرُ أَوْ الشَّجَرُ: يَا مُسْلِمُ يَا عَبْدَ اللَّهِ، هَذَا يَهُودِيٌّ خَلْفِي فَتَعَالَ فَاقْتُلْهُ، إِلَّا الْغَرْقَدَ فَإِنَّهُ مِنْ شَجَرِ الْيَهُودِ) رواه مسلم وأحمد بنفس النص، وصححه الألباني، وأخرجه البخاري والترمذي والنسائي وأبو داود وابن ماجه، بنصوص أخرى. فالله ولي فلسطين فنعم المولى و نعم النصير.
أيهما أصعب الاحتلال العسكري أم الفكري؟
إن ما نتعرض له من إحتلال وغزو فكري ونفسي وثقافي لهو أخطر ويضاهي آلاف بل ملايين المرات الإحتلال العسكري؛ في الإحتلال العسكري نرى بوضوح من هو الظالم ومن هو المظلوم ومن الأولى بالوقوف معه ضد غيره، ومن هو بحاجة لمد يد المعونة له.
في الإحتلال العسكري تتعلم من هو عدوك وكيف تحْذَرُه وتحاربه، أما ما يُلم بنا من إحتلال فكري فهو غير ملموس أو محسوس، وحتماً لا يمكن مُشاهدته أو سماع صوته، تسلل إلينا تدريجياً وخلال سنين طويلة، وجعل من العدو صديق والصديق عدوا، وهنا يجب توخي الحكمة القائلة إحذر عدوك مرة واحذر صديقك ألف مرة.
أصبح الإحتلال يأتي من قِبَلِنا، فكل من تمكن الاحتلال من عقله وفكره أصبح بدوره يُمارس هذا الإحتلال على غيره، إحتلال منِعْناَ من الوعي به، إحتلال يكتسي حُلة الثقافة، إحتلال يجعلنا نرى بمنظار غيرنا ونسمع بأذن غيرناً ونحكم بحكم غيرنا، حتى أصبحنا في معزل عنا، إحتلال منعنا من الدفاع عن فلسطين رغم كوننا أصحاب القضية، منعنا من أن نرى قضيتها بعيوننا التي يعكسها ديننا. وكالعادة نختلس النظر من منظار غيرنا، وبالتأكيد من يرتدي نظارة لا تلائم مقياس نظره ستصبح الرؤية عنده مشوشة وباهتة، وأسوأ ما في الإحتلال الفكري الثقافي أنه من بنات رغباتنا، فلم نُكره عليه، ولم يرفع أحد في وجهنا سلاحاً، ولم نسمع يوماً صوت مدفع.
نحن من قيدنا أنفسنا بهذه القيود، نحن من فتحنا له أبوابنا، وتركناه يُحركنا مُدعين الكرم، وإخواننا جياع.. مدعين الشجاعة والمروءة وإخواننا لا يبيتون إلا وفي يد أحدهم سلاح.. ندعي الصبر والحُلم والتسامح، وإخواننا أحوج لعفونا.
بل ما هو إلا خوفٌ من قول الحق ونصرة المظلوم، نفعل كل هذا وخيرنا ليس لأهلنا متناسين أن الواقع هو أن نكون رحُماء بيننا أشداء على الكُفار، فكيف لنا أن نرى هذا الإحتلال غير المرئي، كيف لنا أن ندحر جيوشه غير المرئية، من سيسمع نداء أستِغاثتنا وليس هناك من يدعم قضيتنا، من يدعم قضيتنا ونحن أغلبنا لا يعلم بوجودها؟.
من الواجب علينا أن نستفيق من هذه الإغماءة، ونعي ونساهم في رفع وعي من هم حولنا بخطر هذا الإحتلال، ولا ينجلي هذا الإحتلال وتتبدد ملامحه إلا بالعودة للحق ومنبعه، وذلك عن طريق التمسك بالإسلام وتعاليمه الدينية والشرعية وتطبيقها وإنزالها على أرض واقعنا، والتوقف عن التعامل معها بكونها علوم مُقدسة يجب الحفاظ عليها، ليس داخل كتبها، وإنما بتطبيقها وتداولها ونشرها، هكذا فقط ستبقى.
عندما يُصبح كل فرد منا عارفاً بتعاليم دينه، ويرى جميع الأمور بعين الإسلام، عندها فقط سنتحرر من هذا الإحتلال، ستكون لنا أسسنا في التعامل والفكر والقوانين ورفع الهمم، فإن أي حرية غير العبودية لله فهي إحتلال ولا حرية في غير التعبد لله تعالى، وإنه دائما وأبداً من ركب سفينة الغير لا يتوقع أن توصله إلى وجهته.