تقرؤون في هذا المقال تفريغ محاضرة (من مشكلات الحضارة في فكر مالك بن نبي.. إشكال الموقف من الحضارة الغربية) من تقديم د.عبد الملك أبو منجل يوم الخميس 10 أغسطس أوت 2020 ضمن فعاليات الندوة الافتراضية لمالك بن نبي والتي بثتها صفحة مدونات عمران بالتعاون مع مؤسسة مالك بن نبي للأبحاث وقناة الأنيس الفضائية.
في هذه المحاضرة سنحاول معرفة موقف مالك بن نبي من الحضارة الغربية، وهل كان يراها تصادم مع الحضارة الإسلامية أم كان هناك تأثير وتأثر بينهما؟
مالك بن نبي قال في أحد مقُولاته عن الحضارة الغربية وتأثر المسلمين بها "أن العالم الإسلامي دخل صيدلية الحضارة الإسلامية طلباً للشفاء، ولكن من أي مرض ومن أي داء؟" هذا ما سنحاول التعرف عليه اليوم رفقة الدكتور عبد الملك أبو منجل.
جناية السلطة الكنسية على حاضر الأمة الإسلامية
من المعلوم أن الهم الأكبر الذي كان يشغل فكر مالك بن نبي هو مشكلات الحضارة، ومن ضمن هذه المشكلات يندرج إشكال كبير وعظيم ظل يؤثر فينا إلى اليوم، وما زالت الأمة ترزح تحت نيره إلى حد اللحظة، ولهذا فأنا أفضل أن أُمهد للحديث عن فكر مالك بن نبي وعن تصوره لإشكالية الموقف من الحضارة الغربية، وذلك باستذكار مقال لي كنت قد كتبته منذ سنوات ونشرته في جريدة البصائر ويحمل عنوان قريباً وربما يلفت الإنتباه في ظاهره إلى عدم منطقية المقال بعنوان "جناية السلطة الكنسية على حاضر الأمة الإسلامية" كيف يكون للسلطة الكنسية التي كان لها آثارها في حياة الأوروبيين في قرونها الوسطى؟ كيف يكون لهذه السلطة أثرٌ في واقع الأمة الإسلامية؟ فلا التاريخ تاريخنا ولا الجغرافيا جُغرافيتنا، ولكن رغم ذلك أنا عندما وضعت هذا العنوان قصدت أمراً كنت متيقناً منه، وهو أن إستبداد تلك السلطة الكنسية وقهرها للعلم والعلماء كان نعمة للأوروبيين، ونقمة على المسلمين، يعني عندما ننظر في المآلات التي أحدثتها الأحداث الكبرى في تاريخ الأمتين الغَربية والإسْلامية، سنجد أن ما وقع من قهر ومن إضطهاد ومن ترويج للخُرافات والجهل من السلطة الكنسية في أوروبا، كان سبباً في نهضة الأوروبيين، وكان بعد ذلك سبباً فيما وقعنا فيه من صراع داخلي ما زلنا نستهلك فيه طاقاتنا ونؤخر نهضتنا إلى الآن.
كان الأوروبيون غارقون في الجهل والتخلف، يؤمنون بالخرافات ويزعمون لأكاذيب المتاجرين بالديانات ويرضون بنمط حياة يخلو من حيوية العقل وحَركية الفكر، فلما بَالغت الكنيسة في اضطهادها وترويجها للخرافة، ومحاربتها للعلم كان ذلك سبباً في إفاقة الأوروبيين من غفلتهم وثورتهم على وصاية كنيستهم، وكان ذلك سبباً في قيام نهضتهم وتفويض سلطة العقل التي كانت تحتكرها الكنيسة.
وتنصيب العلم هدفاً يُضحى في سبيله بكل شئ بما في ذلك الدين، بل وتصوير العلم نقيضاً للدين ما يستوجب فصل الدين عن الحياة، بل والنظر إليه كما لو أنه عدو العلم وعدو الحياة.
في خضم هذا الصراع إنتصر الأوروبيون بالعلم على دين كان يحارب العلم، وأقام الأوروبيين حضارة العلم تأثراً بِحضارة قام العلم فيها على الدين، وهي حضارة المسلمين، ولكن ذلك لم يشفع للمسلمين، فقد قرر الأوربيون أن العلم والدين خصمان لا يجتمعان، وأن الحكم يجب أن يكون للعلم لا للدين، وكيف لا يكون الأمر كذلك، وما تخلصت أوروبا من التخلف ولا دخلت عصر الأنوار ولا صنعت نهضتها العلمية ولا شيدت حضارتها المادية ذات البريق والقوة إلا بثورتها على الدين وتحررها من خرافاته.
أبالعِلم نحكم أم بالدين؟ بعد أن دكت منافع نابليون معاقل المسلمين!
صنعت أوروبا حضارتها المادية العظيمة، وبهرت العالم ببَريقها وقوتها وسيول كشوفها العلمية وتحولت إلى مثال للأمة المتفوقة المتحضرة المهيمنة على الطبيعة المسخرة لها في سبيل حياة أفضل وأملأ بالرخاء والمتعة، صارت أوروبا مثالاً يُحتذى به وصار انتصار العلم فيها على الدين أغنية جميلة يرددها الطامحون إلى التحرر والتقدم في طريق الحضارة المادية.
فما شأن المسلمين بهذا المسار وهذا الذي حدث؟ إن لهم لشأن وأيما شأن فقد كانوا على حال من الهزال والتخلف والبؤس الفكري والمادي، وقد دكت منافع نابليون معاقلهم فاستقبلوها بكثير من الدهشة والإنبهار وبقليل من الفطنة والإستبصار، وقد قرر بعض حكامهم أن يستفيدوا من حضارة أوروبا ويَقتبسوا منهجها في النهضة، فأرسلوا بعَثاتهم العلمية إلى حَواضرها الكبرى لا سيما باريس، وقد ذهب الشباب الأزهري وغير الأزهري إلى هناك لتمتيع العين بأنوار أوروبا وتفتيح العقل بأفكارها وترويح النفس بأحلامها، وقد عاد الشباب إلى وطنه يخبر قومه وحكامه هذا الخبر العظيم، أتيناكم من سبأ بنبأ يقين إنا وجدنا حضارة لها عرش عظيم، وأن سر هذه الحضارة هو الفصل بين العلم والدين وإنا لن نصنع نهضتنا العربية إلا بعد أن نسير سيرة الأوروبيين، وهكذا دخل تاريخ الأمة الإسلامية قضية لم تكن من قبل قط محل جدل وصراع بين المسلمين؛ وكانت القضية في الإشكالية التالية "أبالعِلم نحكم أم بالدين؟!
وهكذا كان حكم الكنيسة الغاشم الفاسد القامع وراء دخول هذه القضية حياة المسلمين، وهكذا أمضى المسلمون قرناً كاملاً أو يزيد، يتجادلون حول هذه القضية الدخيلة المفتعلة والتي لا محل لها من المنطق والوجود في تاريخهم، بل هكذا تحول الجدل بين الفريقين إلى تصارع وتحول الصراع إلى قتال وأمضت الأمة الإسلامية قرناً من حياتها أو يزيد خارج حركة التاريخ ونبضه.
يهدم العلمانيون في الأمة الإسلامية بكل ما أوتوا من قوة السلطة ومنابر الإعلام والنشر ما يبنيه الإصلاحيون الإسلاميون أو المحافظون، ويهدم الإصلاحيون بكل ما أوتوا من قوة سلطة الدين ومنابر الوعظ والدعوة ما يروجه العلمانيون، أسلحتنا موجهة إلى صدورنا، معاولنا نهدم بها دورنا، طاقاتنا منهوبة في جدل لا يعنينا وفي تصارع أحد طرفيه وكيل للغرب فينا، وفي تقاتل يجني العدو ثماره ويذرنا نراوح مكاننا من التخلف والمهانة، لو لم تتسلل القضية الدخيلة إلى ثقافتنا لنَهضنا بعد فترة وجيزة من كبوتنا، وشرعنا نسير في طريق النهضة بأنفسنا، بالدين والعلم معاً سننهض ونبني وهل هما أًصلاً أمران مختلفان؟، كنا بنينا بهما معاً أركان نهضتنا وصنعنا ما لم يصنعه اليابانيون ولا الصينيون ولا الكوريون لما حبانا الله به من نعم وقوى روحية وثروات مادية، و لكن متى يبلغ البنيان يوماً تمامه إذا كنت تبنيه وغيرك يهدم .
هذه مقدمة أردت بها أن ألفت الإنتباه إلى الأهمية الكبرى التي يكتسيها البحث في الموقف من الحضارة الغربية، وفي إشكال الموقف من الحضارة الغربية في فكر مالك بن نبي.
محتويات المحاضرة
- أولاً: سؤال النهضة والحضارة لدى مالك بن نبي.
- ثانياً: قانون الحضارة نهضة وسقوطاً.
- ثالثاً: التعليل العلمي لصعود الحضارة الغربية.
- رابعاً: الموقف الموضوعي من الحضارة الغربية.
- خامساً: الخلل المنهجي في الموقف من الحضارة الغربية.
سؤال النهضة لدى مالك بن نبي.. ومشكلة صانع الحضارة والنهر الصامت!
كان السؤال الأكبر الذي شغل تفكير مالك بن نبي هو سؤال النهضة الحضارية، ولأن العالم الحديث تقوده حضارة عالمية قوية مهيمنة هي الحضارة الغربية، ولأن الأمة الإسلامية وقعت ضحية قابليتها لهيمنة هذه الحضارة فكرياً وإقتصادياً وسياسياً وعسكرياً في بعض المراحل، فقد اتخذ مالك بن نبي من سؤال العلاقة مع الحضارة الغربية أحد المواضيع الفكرية الجديرة بالتأمل والدراسة، فكان تأمل الحضارة الغربية منشأً وخصائصاً ومقومات بإيجابياتها وسلبياتها فرعاً من اهتمامه بالقضية الأم؛ ألا وهي مشكلة الحضارة.
عندما كان مالك بن نبي يتحدث عن الحضارة الغربية في كتبه لم يكن قاصداً أن يتحدث عنها هي في ذاتها، وإنما كان همه هو الحديث عن الحضارة التي تعني أمتنا، كيف تنشأ الحضارة؟ وكيف تزدهر؟ وما أسباب ومقومات ذلك؟ وكيف تنحل الحضارة ثم تضعف وتسقط؟ وماذا يمكن أن يُستفاد من القانون الضابط لنشوء الحضارات وسقوطها؟
لم يكن إتجاه مالك بن نبي إلى تحليل الحضارة الغربية سوى عنصر من عناصر منظومة فكرية متكاملة موضوعها سؤال النهضة بعد ثبات، والحضارة بعد موت، فقد أهمه كما أهم من قبل سواه أن يرى أمته متخلفة مهينة تابعة ذليلة عالة على غيرها، عاجزة عن التفكير لنفسها بنفسها، تتعثر خطواتها في طريق الإصلاح بلا منهج، وفي طريق النهضة بلا صحوة، وفي طريق الحرية بلا همة فتبدو لها الحضارة ماضياً بهيجاً يُتَغنَى به، أو حاضر غربي يُتعلق بأثوابه، وليس وراء ذلك من إدراك حقيقي لأركان الحضارة، ولا وعي موضوعي بشروط النهضة، ولا سعي منهجي في طريق التحرر من عوائق النهوض وأعراض التخلف.
شرع مالك بن نبي يفكر ويتأمل ويتدبر ويحلل، يضرب بفكره في أعماق الماضي، وفي آفاق الحاضر ليقرأ في ضوء الأحداث والوقائع والمظاهر دلالاتها، ويجمع من أشتات تلك الدلالات منظومة قيم وقوانين هي بمثابة معالم في طريق النهضة ومشروع الحضارة.
لم تكن قراءته للحضارة الغربية سوى جزء مهم في تحليله أسباب قيام الحضارات وعلل سقوطها والخصائص التي تؤهلها للاستمرار، والرذائل التي ترشحها للتدهور ثم السقوط، لذلك لم يخصص كتاباً مُستقلاً لمعالجة إشكال العلاقة مع الحضارة الغربية، بل تناول هذه المسألة في جملة من كتبه في إطار معالجة موضوع محوري ألا وهو سؤال النهضة وقانون الحضارة.
في قانون الحضارة كيف تنهض وكيف تسقط، لم يكن مالك بن نبي وهو يعايش مأساة وطنه وأمته إبان الإحتلال، ثم مأساة التخلف والتبعية بعد الإستقلال، لم يكن معنياً بقراءة الأجزاء معزولة عن سياقها الكلي، وبترقيع الخروق مفصولة عن النظرة إلى الظروف المحيطة بجغرافيتها أفقاً وعمقا، بل كان يضع عينه البصيرة على السطوح ثم لا يلبث أن يغوص في الأعماق، كان يحاول أن يهتدي لحل جذري لمشكلة الإنسان في تفاعله مع طاقات الوجود، تلك المشكلة التي نجدها عند تأملها مشكلة حضور وفاعلية، مشكلة منهج في ضم العناصر المتاحة بعضها إلى بعض بفعل شحنة لا يمكن أن تعزى إلا إلى الروح بالمعنى الوجداني المحض، وتلك هي مشكلة الحضارة مشرقه في الغرب الأوروبي الأمريكي ومغربه في الشرق الإسلامي، ولكن لماذا أشرقت هنالك وغربت هنا؟
هل يمكن بعثها هنا أم يجب استيرادها من هناك؟ مشكلة الحضارة هي مشكلة الحضور والفاعلية لذلك يرى مالك بن نبي أن المشكلات التي يعيشها أي شعب إنما هي مشكلة حضارة، وأن الحضارة هي الفعل المعبر عن ملحمة الكفاح الإنساني فلا يصح أن يُنظر إليها إلا في هذا الإطار الكوني التاريخي الذي يرقى بنتائج النظر إلى مستوى القانون.
كان مالك بن نبي يبحث عن القانون الذي يختفي خلف نشوء الحضارات واستمرارها ثم سقوطها، يقول "إن مشكلة كل شعب في جوهرها هي مشكلة حضارية ولا يمكن لأي شعب أن يفهم أو يحل مشكلته مالم يرتقي بفكرته إلى الأحداث الإنسانية، وما لم يتعمق في فهم العوامل التي تبني الحضارات أو تهدمها، وما الحضارات المعاصرة والحضارات الضاربة في ظلام الماضي والحضارات المستقبلة إلا عناصر للملحمة البشرية منذ أن هبط آدم على الأرض إلى آخر وريث له فيها" هذا كلام مالك بن نبي.
مشكلة الحضارة عند مالك في جوهرها هي مشكلة الإنسان، فهو صانع هذه الحضارة وفق شروط تتعلق به في طريقة توجيه طاقته الحيوية، وهو هادمها كذلك وفق الشروط ذاتها، فالحَضارة عند مالك بن نبي ليست سوى إرتقاء الإنسان من مستوى الكائن الطبيعي إلى مستوى الكائن الإجتماعي؛ الكائن الذي يكتسب ملكات التفاعل الثقافي، فحينما ينتقل الإنسان من تلك الحال إلى حال آخر بفعل شحنة روحية ودفعة عاطفية مصدرها الفكرة الدينية، سيدفع بطاقته الحيوية في طريق الفاعلية الإجتماعية وتتجسد هذه الفعالية في منهج تفاعله مع العناصر الثلاثة التي رأى مالك بن نبي أنها المقومات الضرورية للحضارة وهي الإنسان والتراب والوقت.
منهج تعامل الإنسان مع الإنسان بعده هو الوحدة الأساس التي يتشكل منها المجتمع، والمحرك الذي يتحرك المجتمع والتاريخ بحركته ويسكن بسكونه، وبعده مُنتج الحضارة و ناتجها، ومع التراب الذي بعده المجال الحيوي المسخر للإنسان بقصد إسْثماره وتعميره، ومع الوقت الذي بعده المجال الزمني المتاح للإنسان على الأرض.
وبتِعبير مجازي الذي جاء به مالك بن نبي عن الوقت "أنه النهر الصامت الذي يعبر العالم منذ الأزل بفيض من الساعات اليومية التي تصير في مجال ما ثروة وفي مجال آخر عدم".
3 قوانين حصيلة تأملات مالك.. متى يتحرك ويتوقف التاريخ؟
هذا ما يفرق بين الإنسان المتحضر والإنسان المتخلف، وانطلاقا من هذا فإن قيام الحضارة وسقوطها هو ناتج وعي الإنسان بذاته وفعله في مجاله ومنهجه في تركيب العناصر المؤلفة لوجوده وفاعليته في استثمار طاقاته الحيوية في إتجاه يسمو بإنسانيته إلى مستوى يليق بها من النظام والخلق والذوق الجمالي، وهنا ينفتح المجال للحديث عن الشرط الحضاري الكبير الذي رآه مالك بن نبي قانون الحضارة الأول، وروحها النافخة فيها طاقة الإنطلاق والانبعاث والاستمرار والتجدد والدين بعده نظريةً في تفسير الوجود ومُثل عليا تحرك الهمم نحو مزيد من البذل، سواء كان مصدرها الوحي الآلهي أو كانت مزيجاً بين الوحي الصحيح والإضافات البشرية المنحرفة عن الأصل أم كانت نظرية بشرية خالصة لا صلة لها بالسماء، وقد نظر مالك بن نبي في هذه الحضارات جميعاً وتأمل نشأتها وازدهارها وسقوطها فكانت خلاصة تأمله وتحليله ثلاثُ نتائج:
- الأولى أن قانون الروح هو الذي يحكم نشوء الحضارات وازدهارها، ثم تحللها وسقوطها وتفسير هذا القانون أن الحضارة كما قال مالك بن نبي لا تظهر في أمة من الأمم إلا في صورة وحي يهبط من السماء يكون للناس شِرعةً ومنهاجا، أو هي على الأقل تقوم أسسها في توجيه الناس نحو معبود غيبي بالمعنى العام، فكأنما قدر الإنسان أن لا تشرق عليه شمس الحضارة إلا حيث يمتد نظره إلى ما وراء حياته الأرضية أو بعيداً عن حقبته؛ إذ حينما يكتشف حقيقة حياته الكاملة يكتشف معها أسمى معاني الأشياء التي تهيمن عليها عبقريته ويتفاعل معها، فهذه الفكرة الدينية هي التي تفسر للإنسان معنى وجوده، فتشحنه بطاقة تدفعه إلى تحقيق أهدافه وهي التي تقوم بإخضاع الطاقة الحيوية للفرد لعملية تربوية قصد تكييفها لمقتضيات الأداء الناجح للوظيفة التاريخية التي خلق من أجلها، وهي التي تبث فيه العناصر الخام المؤلفة لمادة الحضارة، تلك الروح التي تُوجِدُ العلوم وتشحذ العقول وتطلق الأيدي في ميادين الإنجاز ولا يمكن للعلم ولا العقل أن ينجزها بذاته.
- الثانية: أن للحضارة عمراً متدرجاً من النشوء إلى القوة إلى المرض ثم إلى السقوط على مراحل متمثلة في مرحلة الروح ثم مرحلة العقل ثم مرحلة الغريزة؛ فمَرحلة الروح تمنح الإنسان طاقة الإيمان التي تفيض على المجتمع بقدر زائد من الجهد، وتغلب في الكائن الإجتماعي روح الواجب أو العطاء على منطق الحق أو الأخذ وهو ما عبر عنه ابن نبي رمزياً بالعبارة القرآنية اقتحام العقبة.
وهو ما يعني أن الحضارة هي القيام بالواجب إنطلاقاً من المكان الذي فيه الإنسان، ومرحلة العقل هي ناتج فائض الطاقة الحضارية التي دفعت بها مرحلة الروح في طريق الإنجاز والتطور والانتشار والتراكم كماً و نوعاً، إنها المرحلة التي تتطور فيها العلوم والفنون وتنفتح فيها الأبواب على ناتج هذا التطور من يسر العيش ولذائِذه ومَباهجه، وتسترجع فيها الغريزة قدراً من حرية قيدتها الفكرة الدينية ووجهتها في طريق الإنجاز الحضاري إذ لا قدرة للعقل على السيطرة على الغرائز سيطرة الروح، ومرحلة الغريزة هي ناتج هذا المنعطف الذي تعرفه الحضارة لحظة بلوغها أوج ازدهارها، منعطف العقل ناتج ضعف سلطة الرقابة والتوجيه على الطاقة الحيوية من قبل الروح، وبَدء استعادة الغريزة تحررها.
فعندما يبلغ هذا التحرر تمامه يقول بن نبي يبدأ الطور الثالث من أطوار الحضارة، طور الغريزة التي تكشف عن وجهها تماماً وهنا تنتهي الوظيفة الإجتماعية للفكرة الدينية، التي تصبح عاجزة عن القيام بمهمتها تماماً في مجتمع منحل، يكون قد دخل نهائياً في غير التاريخ وبذلك تتم دورة الحضارة.
- النتيجة الثالثة هي أن قانون تدرج الحضارات من مرحلة الروح إلى مرحلة العقل إلى مرحلة الغريزة يستدعي قانوناً آخر هو قانون الدورة الحضارية، فالحَضارة التي تسلمها مرحلة الغريزة إلى الضعف والتحلل بفعل ضمور فعالية الفكرة الدينية في بنيتها الإجتماعية ستعجز لا محالة عن الإستمرار في العطاء والإشعاع وحمل قيم التحضر، ولن التسليم التاريخ حين ذلك إلى الفارغ لأنه إذا انقضت دورة حضارية فإن التاريخ سيتوقف وأن الحضارة لن يكون لها وجود بل سيظهر بحكم قانون التدافع و التداول من يحمل مشعل الحضارة في جهة أخرى من الأرض مؤسساً دورة حضارية جديدة على أساس من الفكرة الدينية أيضا لتجري على هذه الحضارة الجديدة سنة الحياة فتعبر المراحل نفسها وتعيش قانون نشأتها وازدهارها ثم ضعفها والسقوط. إنه القانون الذي لا يتخلف ولا يحابي.
فإن الأقدار كما يقول بن نبي لا تلبث أن تقود الحضارة إلى حيث قدر الله لها أن تسير، من دور إلى دور، ومن فجر إلى فجر، غير عابئة بما يحاوله الباطل من إطفاء النور أو تغيير الحقائق، ولا ملتفتة إلى ما تبثه الزوايا من وهم أو إلى ما يتخرص به الإستعمار.
هذا القانون يسري على جميع الحضارات وعلى كل المجتمعات، وعلى ضوء هذا القانون أفلت الحضارة الإسلامية فحلت محلها الحضارة الغربية، وعلى ضوء هذا القانون كذلك مضى مالك بن نبي يقدم تحليله الموضوعي للحضارة الغربية.
التحليل العلمي لصعودها.. متى التقى مالك بالحضارة الغربية؟
لم تكن علاقة مالك بن نبي بالحضارة الغربية سوى علاقة باحث عن السر عن القانون وعن المنهج الذي سَيقدمه لبني أمته، وهم يتخبطون في طريق الحضارة، بل ويَتعثرون في طريق النهوض، ولا يهتدون سبيلا، لذلك كان انصرافه للحديث عن هذه الحضارة مُتخللاً جملة من كتبه ذات العنوان الواحد المحوري ألا وهو "مشكلات الحضارة" ولم يكن حديثاً مُستقلاً، بل كان حديثه عن الحضارة الغربية حديث متأمل لا سائح مُحلل، ولا واصف معلل، ولا منبهر.
كان موقفه التحليل العلمي للحضارة كيف نشأت؟ ولما ازدهرت؟ ما سر قوتها وهيمنتها؟ ما مظاهر فاعليتها وبوادر تحللها؟ ماذا يمكن أن يؤخذ منها منهجا في التعامل مع عناصر الحضارة التي هي الإنسان والتراب والوقت؟ وماذا يمكن أن يؤخذ منها عبرة لكي لا نقع ضحية هيمنتها ولا نجَاريها في مظاهر تحللها.
كان لقاء مالك بن نبي مع الحضارة عبر ما قرأه لأدباَءها ومفكريها قراءة مشغوف قبل أن يرحل إلى باريس لطلب العلم، ثم عبر لقائه المباشر مع هذه الحضارة ومنتجاتها من الآداب والفنون والآثار والأوضاع وأنظمة الحياة العلمية والسياسية والإجتماعية والإقتصادية والإدارية وهو مقيم بالعاصمة الفرنسية باريس، وزائراً لعدد من الدول الأوروبية.
في ذلك الحين لم يكن مالك بن نبي يخفي تعجبه بمظاهر التحضر ودلائل الفاعلية في تلك الحضارة، كان يقول على سبيل المثال معبراً عن الإنطباع الذي خلفه فيه تأمل الجدران السوداء والنُصب والآثار لدى مدفن الخالدين أو مقبرة العظماء كما تسمى في باريس: "وأحس في أعماق نفسي بالنور المنبثق من هذه الأحجار السوداء، وأُدرك لماذا تسمى باريس مدينة النور" فقد كان يعترف بما له من أثر في النهضة الغربية من جهود علمائها ومفكريها الكبار ولكنه كان في الوقت ذاته يستحضر حال أمته، ويقارن بين الحالتين فيشْعر بالإهانة لما يراه من فرق واسع وتخلف رهيب في الأمة، ثم يشعر بأسف أشد حين يرى أبناء هذه الأمة من الطلبة المسلمين هناك لا يُشاركونه هذا التأمل وهذا الإحساس ولعله جدير لنا أن نقرأ ذلك بعبارته وهو يقول: "وكنت أحيانا استغرق في مطالعة البرامج الجامعية في زاوية من زوايا الشارع وتسرح مُخيلتي في تأمل عميق حول كل ما يفصل بين العالم الإسلامي والعالم الغربي من مسافات وفروق، وكانت هذه المطالعة تمنحني فكرةً مخيفة عن هذا البون الذي يحاول قياسه، وكان الإحساس بتخلفنا الرهيب يحط من نفسي ويجعلني أحس بالإهانة الكبيرة ولم ألاحظ أي طالب مسلم يقف متأملاً أمام هذه الإعتبارات فيعظم تأسفي ويزيد".
فقد كان هذا هو الشعور والموقف والتأمل الذي يولد إنطباع الإعجاب والتقدير من جهة وشعور الأسف والغيرة من جهة أخرى، وكلا الانطباعيين يحمله على التحليل العلمي والموقف الموضوعي من الحضارة الغربية، كان تحليله للحضارة الغربية مندرجاً ضمن القانون العام الذي عده قانوناً لنشوء الحضارات وازدهارها، قانون الروح أو قانون الفكرة الدينية وهنا يعني الفرق بين هذه الفكرة التي أسس عليها مالك بن نبي رؤيته عن الحضارة، وبين ما يُقال عن الحضارة الغربية بأنها حضارة تصارع الدين – طبعاً هذا صحيح – ولكن هي في الأساس قامت كما قامت الحضارة الإسلامية على أساس الفكرة الدينية، وفي المحاضرة السابقة من محاضرات هذه الندوة الدولية الإفتراضية كان المفكر أبو يعرب المرزوقي قد أشار إلى هذا، بقوله أن الحضارة الغربية ليست في الحقيقة علمانية كما يروج، ولو كانت علمانية حقاً لكانت تضع الإسلام والمسيحية واليهودية وبقية الأديان على قدم المساواة.
نمضي إلى التعرف على النتيجة التي توصل لها مالك بن نبي في دراسة خصائص هذه الحضارة، في الموقف الموضوع من الحضارة الغربية نلاحظ أن مالك بن نبي بتمتع بتفكير علمي رياضي ينبو عن العاطفية والإنشائية والجدية وسواء كان ذلك وراء اختصاصه في الهندسة الكهربائية أم احتكاكه بالحضارة الغربية أم ذكاؤه ومواهبه الشخصية أم كل ذلك، فقد أهله هذا النمط من التفكير لأن يتخذ من الحضارة الغربية موقفاً قل نظيره ضمن جملة ما اتخذه مفكروا الغرب ومثقفيه من هذه الحضارة، إنه الموقف الموضوعي الذي يدرس الموضوع في ذاته بعيداً عن ضغوط العصبية القومية، أو النزعة العاطفية الناجمة على الهيمنة الغربية أو عقد الشعور بالنقص إزاء الغالب المتفوق والإحساس بالانبهار إزاء حضارة بلغت من الإزدهار مبلغاً عظيماً، ولهذا فقد وصل إلى هذه النتائج وهذه الصفات وهي العالمية المركزية والفعالية والمادية.
نبدأ بالفعالية، لا شك أن الفعالية هي أكبر فضيلة في الحضارة الغربية وأظهرها وألصَقها بالحضارة وأكثرها تعبيراً عن قانون التحضر، وهي لذلك جديرة بالاحترام وبالتقَدير على أقل شيء.
لقد استمرت الحضارة الغربية قروناً محافظة على قدر وافر من الفعالية، وهي جديرة بأن نتَأملها ونتعلم منها فعالية الشعور وفَعالية التفكير وفعالية العمل، باصطلاح آخر فعالية القلب والعقل واليد فكل طاقة إجتماعية يقول مالك بن نبي تصدر حتماُ من دوافع القلب ومن مسوقات وتوجيهات العقل وحركات الأعضاء، فكل نشاط إجتماعي مركب من هذه العناصر والفعالية تكون أقوى في الوسط الذي ينتج أقوى الدوافع والتوجيهات وأنشط الحركات، هذه الفعالية تنتج التوتر الذي يذكر مالك بن نبي نماذج منه بعد أن ذكر أن التاريخ ليس سوى قائمة إحصائية لحركات القلب واليد والعقل، منها النموذج العربي الذي لم يُنجز خلال أربعة آلاف سنة سوى عصر المُعلقات، عندما جاء الإسلام إستطاع أن يخلق حضارة خلال نصف قرن، ومعنى ذلك أن الإسلام أتى بالمسوغات الدافعة العقل واليد لكي تُحقق مُتساندة حضارة ذات إشعاع.
الخاصية الثانية المادية وهي خاصية سلبية لكنها واجبة الوجود للاستمرار، فقد حلل مالك بن نبي الحضارة الغربية في مسارها المتطور الذي عرف الإنتقال الحتمي من مرحلة الروح إلى مرحلة العقل إلى مرحلة تتدرج نحو الغريزة، مُحافظة على رصيد وافر من مرحلة العقل، فكانت النتيجة الكبرى التي خلص إليها هي أن هذه الحضارة ذات الفعالية العالية التي مكنتها من تحقيق تفوق صارخ وهيمنة على العالم، قد قادتها هذه الفعالية شيئاً فشيئاً إلى مادية صارخة فصلت بينها و بين المبدأ الأخلاقي الذي كان أساس وجودها، وجردتها من بعدها الأخلاقي وعمقها الإنساني وأدخلتها في طور جديد له من رذائله وأمراضه وفوضَاه ما يغض كثيراً من ذلك الإغْراء الذي كانت تمارسه على العالم لا سيما عالمنا الإسلامي الباحث عن أُنوذج إشعاع يهتدي به.
أما الخاصية الثالثة وهي أيضاً سلبية، أنها عالمية مركزية تستوجب منا أن نسعى للتحرر منها، هي ذات وجهين إيجابي وسلبي، أما الإيجابي فمصدرها تلك الفعالية الفائقة التي مكنت العالم الغربي من فرض هيمنته على العالم وتوحيد المشكلة الإنسانية، إذ حققت الغربية العالمية هذا التوحيد حين أوصلت مقدرة الإنسان إلى المستوى العالمي وهو يتجلى في حياة كل شعب وفي تشكيلاته السياسية وفي ألوان نشاطه الفني والعقلي والإجتماعي، أما الوجه السلبي لهذه العالمية فهو الشعور المرافق لها والسلوك الذي لا ينفك عنها، إنه الشعور بالمركزية والاستعلاء والمعاملة بالهيمنة.
إن الحضارة الغربية تُعاني شعوراً مرضياً في نظر بن نبي هو أن إنسانها هو الإنسان الأعلى والأقوى وأن هذه الفوقية تخول له معاملة الأطراف غير المنتمية إلى هذا الجنس الذي خُص بالتحضر والذكاء والعبقرية معاملة سيطرة واحتقار وإقصاء تتجسد في ألوان من القهر و الإذلال والاضطهاد، عنوانها الإستعمار وشعارها التمدين والعولمة وحقيقتها الاسْتعلاء والاستغلال والإستعباد.
وقد وقف مالك بن نبي بإشفاق عند هذا المرض الذي يُصور للغربي أن تاريخ البشرية بدأ مع الإغريق والرومان، ثم حدث فيه تقطع وجمود -يعني أن مرحلة الحضارة الإسلامية لا يذكرها ولا يعترف بها إطلاقاً- ثم عاد للظهور في باريس ولندن من جديد.
كيف يمكن أن نُفَعل هذا الفَكر الكبير لمالك بن نبي حتى نتحدث عن هذا التفكير والتنظير وأن نرى حضارتنا الإسلامية فعلاً تعود للصعود؟
الذي يهمنا من فكر مالك بن نبي كما كان أشار إلى ذلك الدكتور عمار جيدل في مُحاضرته الأولى، هو الجانب العملي من هذا الفكر، وما ينبغي أن يبنى عليه لكي نتمكن من تغيير نمط حياتنا وتفكيرنا وتعاملنا مع الوجود والعناصر المشكلة لهذا الوجود الإنساني، فمالك بن نبي عندما درس الحضارة إنما درسها إنطلاقاً من ألمه وهو يرى أمته متخلفة مهانة مُستعبدة تعيش في فوضى وتخلف وتفتقر إلى الذوق الجمالي، فبحث بعقله الجبار في أسباب نشوء الحضارات، وعندما عاين وعايش الحضارة الغربية رأى فيها كثيراً من العوامل التي هي حقاً سبب نشوء الحضارة، ومن الصفات والمقومات التي ينبغي أن يتأثر بها المسلم وأن يحاول احتوائها، الحضارة الغربية ليست ركام من السلبيات وحسب، ولكنها أصلاً بناءٌ من الإيجابيات ولأسباب تخص الخصوصية الحضارية والتاريخية للحضارة الغربية.
هذه الإيجابيات مزيج مع كثير من السلبيات التي يجب على العقل المسلم أن يحللها، المشكلة أن أكثر الذين ذهبوا من طاقاتنا الفكرية والعلمية من شبابنا وطلبتنا إلى الغرب على مدى عقود لم يتعاملوا مع الحضارة الغربية كما تعامل معها مالك بن نبي وقليل من أمثاله، حيث لم يكونوا يُلاحظون ما يتحرك في قلب هذه الحضارة من عوامل النهوض من الفعالية والنظام والذوق والإنضباط وروح القانون، وعلى ذكر ذلك فإن مالك بن نبي عندما تحدث عن قانون الروح الذي هو السبب الأول في نشوء الحضارات لاحظ بأن أوروبا إن كانت قد إنطلقت في البداية وأقامت حضارتها على أساس الفكرة الدينية وهو قانون الروح فإنها انتقلت بعد ذلك بفعل تحولات في موقفها من الدين انتقلت إلى روح القانون أي أن ذلك القانون الروحي أسلمها شيئاً فشيئاً إلى أن ينشأ فيها ضمير يتعلق بالقانون وبالإنضباط بالنظام وبالحرص على معرفة الأمور جميعها وعلى ضبطها ضبطاً مُحكماً.
هل نفهم من كلامكم أنه نحن كمسلمين إذا أردنا النهوض بحضارتنا من جديد علينا أن نعود للفهم الصحيح للإسلام؟
هذا لا شك فيه ولهذا ذكر مالك بن نبي في سياق تحليله لهذه المشكلات الحضارية بأن النصر والتفوق والقوة لا تكون للفكرة لصحيحة الأصيلة في ذاتها، ولكن للفكرة الفعالة ذات الصلاحية، قد تكون الفكرة خاطئة على نحو ما ولكن إذا تولاها أهلها بفعالية هي التي ستنتصر.
أما الذين يملكون فكرة سليمة ومنظومة مثالية من الناحية النظرية ثم لا يُحولونها إلى عمل وفعل ونظام حياة وشحنة متدفقة بالتوتر الباعث على العمل والإنضباط والإتقان فإنها لن تفعل شيئاً.
ومعلوم أنه ليس في عالم الروح والأديان والمناهج منهج ودين أرقى من المنظومة الروحية والأخلاقية والتشريعية والاجتماعية التي جاء بها الإسلام، إنما أوتي المسلمون من تفريطهم في هذه الحيوية التي تنبعث من هذه المنظومة التي تحولت إلى كلام.
كيف نحقق في عصرنا هذا الوعي الكامل بقوة الفكرة الدينية لإعادة النهوض من جديد؟
الحقيقة أن الفكرة الدينية لا سيما في بلادنا العربية وأمواج هائلة من التشويش، وكما ذكرت في بداية هذه المحاضرة فإن مصدر هذا التشويش وهو ما حصل في تاريخ الحضارة الأوروبية من صراع بين الدين الكنسي والعلم، بعد ذلك تلقف كثير من المفكرين والمثقفين والكُتَاب وحتى السياسيين المسلمين النهضة الأوروبية مبنية على أساس الصراع مع الكنيسة، وحصر الدين في ركن ضيق من الحياة على أنها قاعدة في نشوء الحضارة بينما لم يكن الأمر كذلك في الأساس كما قال مالك بن نبي، لا يتحرك الإنسان لأن الإنسان كُتلة من المشاعر وهذه الكتلة الوجدانية هي التي تدفعه إلى الحركة وإلى العمل بمستوياته المختلفة، إنما يحرك الوجدان الإنساني فكرة روحية ما ترسم له مثالاً عن الحياة الإنسانية كيف يكون ويتجسد هذا في أرفع مستوياته في الحياة الغيبية التي ترسمها الأديان السماوية لا سيما الإسلام، وعندما نلاحظ الواقع لا سيما في الآونة الأخيرة صار الناس يعودون إلى الدين ويَشعرون بضَرورته، وأنه هو الذي يملأ كثيراً من ألوان الفراغ ويُصحح كثيراً من الإنحرافات التي وقعت فيها الحضارة الحديثة، ندرك أنه لابد بأن نكون على وعي بأن الفكرة الدينية ينبغي أن تكون في صلب تحركنا وتفكيرنا ومشاعرنا وغايتنا الحضارية.
هل مشروع ابن نبي يتوجه ليُحدد تخلفنا كمسلمين وكيف يُمكننا أن ننهض أم أن مشروعه يمكن أن يكون وصفة شفاء للحضارة الإنسانية؟
مالك بن نبي مُفكر إنساني عالمي ولكنه في الحقيقة مُنطلقه وروحه وأهدافه هي أهداف إسلامية، وفكر في سر نشوء الحضارات وسر كبوتنا من منطلق غيرته على الأمة الإسلامية، فرسم هذه المشاريع كحلول للأمة الإسلامية، ولكن في الوقت ذاته هي حلول للحضارة الإنسانية جمعاء.
فالحَضارة التي آلت إلى مادية سافرة وإلى استهلاكية غاشمة وإلى مركزية استعمارية آثمة، لا يمكن أن ينتج معها حياة راقية آمنة لا للغربيين ولا لغيرهم، ولهذا أرى بأن مشروع مالك بن نبي هو إصلاح للإنسانية كلها ولكن التعويل على هذه الأمة أن تأخذ بهذا المشروع وأن تعود إلى نقاط القوة في الكائن الإنساني لا سيما في الدين الإسلامي.
هل فلسفة التاريخ عند مالك بن نبي تُفسر التقدم أم التراجع الحضاري؟
التاريخ يفسر الإثنين معاً، فإذا كان المقصود بأن التاريخ يمضي مُضياً نحو التراجع أم يمضي مُضياً نحو التقدم ولا أعتقد أن مالك بن نبي كان معنياً بهذه المسألة ويبحث فيها، ولكنه يرى بأن التاريخ دورات حضارية وأن في الإنسان وفي طريقة تعامله مع مقومات الحضارة والتي هي الإنسان ذاته والتراب والوقت، إذا استطاع الإنسان أن يُحسن التصرف مع هذه العوامل فإنه سيُنشئ حضارة ستعيش مداها وفقاً للشروط التي ذكرها والمراحل التي رآها، وهي مرحلة الروح ثم مرحلة العقل ومرحلة الغريزة، وعندما تنتقل حضارة معينة بفعل انتقالها إلى مرحلة الغريزة، وتفْريطها في الطاقة الروحية والطاقة العقلية ستتهَيأ الظروف لنشأة حضارة أخرى وهكذا.
هل كان لغربة مالك بن نبي مغرباً ومشرقاً في أوروبا وفي مصر أثر كافي لدراسته للحَضارتين الغربية والشرقية؟ وهل حقاً فكْره خال عاطفياً من الميل إلى قوميته ودينه؟ وهل تأثر مالك بن نبي فكرياً بالتهميش الذي عاناه عالمياً ومحلياً؟ ودليل ذلك مؤلفاته كالعفن؟
على كل حال موضوع العفن مسألة أخرى وقد أشير إليها ولكن أظن أن مالك بن نبي وطبعا في النهاية هو إنسان والإنسان كتلة من المشاعر وتأثر فيه التجارب المختلفة، ولكن لا أعتقد أن هذه التجارب الشعورية قد أثرت فيه تأثيراً يبعده عن الموضوعية، لا ننفي جانب العاطفية عن مالك بن نبي ولكن هذه العاطفيَة إستثْمرها في الغيرة على أمته وفي البحث عن أسباب نهوضها من جديد، ولذلك عندما تعامل مع ما يحدث في هذه الأمة ذاتها، وفي واقعها المعاصر وعندما تعامل مع ما يحدث في الحضارة الغربية كان موضوعياً وكان يدرس الموضوع في ذاته، لم يكن يتعاطف مع قومه لمجرد أنهم قومه وفي هذا الإطار قد يندرج بعض نقده لجمعية العلماء المسلمين، ولكَثير من المفكرين والسياسيين، وكذلك موقفه من الحضارة الغربية كان موقفاً موضوعياً كان يحلل تحليلاً علميا لما يراه بعينه وكان يؤلمه كثيراً طبعا أن غيره من أنداده من الطلبة يذهبون للفسحة والسياحة وليس للتأمل.
كان مالك بن نبي يأسف على الطالب المسلم وقد دخل أوروبا لعقلية ما بعد الموحدين العاجزة عن التفكير المنهجي والفارغة من المشاغل الحضارية الكبرى، لم يكن يلاحظ في الأجواء التي يرتادها سوى الجانب السطحي الذي يتعلق بعالم الغريزة لا عالم العقل و الروح، والجانب الظاهر الذي يتعلق بمنتجات الحضارة دون القانون الذي أنشأ هذه الثقافة والحضارة التي دفعت إلى إخراج هذه المنتجات قال: "إن طالب هذا أفقه لا يمكنه أن يرى فيها تطور الحضارة وإنما يرى هنالك منها نتيجتها فهو لا يرى المرأة التي تجمع قبضات العشب لأرانبها وإنما يرى تلك التي تصبغ أظافرها وشعرها وتدخن في المقاهي والندوات، في الحضارة الغربية الكثير من علامات الإجتهاد والذوق والإبداع والفعالية، ولكن كثير ممن زاروا أوروبا من طلابنا ومفكرينا حتى كانوا يرون الجانب السلبي ولم يكونوا يركزون على هذه الجوانب المشعة بالحضارة"
فكر مالك بن نبي مازال مقتصرا على النخبة الفكرية كيف يمكن تعميم هذا الفكر على باقي النخب؟
هو حقيقة ظل مدة مقتصرا على هذه النخبة بل ربما ظل حقبة من الزمان مُهمشاً تماماً ولا يكاد يسمع به إلا أصحابه وبعض تلاميذه ولكن الآن الحمد لله أصبح فكر مالك بن نبي رائجاً في النخبة بمستوياتها المتعددة، بل وبدأ ينزل إلى مستويات أقل من هذه الطبقات وأظن بأن هذا العمل الذي تقومون به مشكورين جداً يندرج ضمن هذا المسار في تقريب فكر مالك بن نبي للفهم .
نحن كمجتمع جزائري وكجَزائريين ما هو دورنا لكي نقترب من هذا الفكر؟
على كل حال أول خطوة ينبغي أن تتخذ في هذا المجال هي قراءة هذا الفكر، ونحن كما تعلمون نعاني معاناة شديدة مع القراءة والاجتهاد، مع العلم أن الفعالية مفقودة الآن في أوساطنا العلمية والفكرية وينبغي أن نشجع الجميع على حب القراءة، خاصة تلك القراءة التي تحرك فينا الحاسة الفكرية والعقلية والنقدية، الآن في مختلف العلوم الإنسانية لا يتمتع باحثُونا ومثقفُونا بالحس النقدي ولهذا ترى كل المنظومات والمناهج والأدبيات والمقولات في علم الإجتماع وفي علم النفس والفلسفة والأدب وفي اللغة كلها تؤخذ من جهات أخرى دون أن نُعمل فيها الحاسة النقدية.
عندما نتعلم المطالعة بحقها، ونقرأ أمثال هذه الكتب ذات المشاريع الأصيلة العملاقة، مشروع مالك بن نبي ومَشروع طه عبد الرحمن، إلى غير ذلك ،تتأسس فينا هذه الحاسة النقدية التي تنقلنا شيئاً فشيئاً من مرحلة التقليد والأخذ إلى مرحلة الإبداع والفعالية.
هل العلاقة بين الحضارة الغربية والإسلامية قائمة على الصدام حسب توجه هنتجتون أم أن هنالك رؤية توافقية بينهم؟
في الحقيقة طبائع الإتجاهات الدينية والأيديولوجية والأهداف الاقتصادية في حياة الإنسان والشعوب تحمل هذا وذاك، فالشًعوب والحضارات تتفاعل وتتحاور ويأخذ بعضها من بعض بطريقة أو بأخرى قاصدين ذلك أم غير قاصدين، ولكن في الوقت ذاته هناك أسباب تؤدي إلى حصول هذه الصراعات فالصِدام موجود ولكن الحوار يمكن أيضا، وعلى العُقلاء في كل جهة أن يتبنوا هذا المنهج الحواري.
ولكن المشكلة عندما يتعلق الأمر بأمتنا فإن المنهج الحواري وأن الحوار بين الحضارات يحتاج إلى ندِية، أن تمتلك قوة وهذه القوة قد تكون معنوية أكثر منها مادية، وحبذا لو تكون معنوية ومادية أيضا، المغلوب في العادة هو من يدعو إلى الحوار يؤكد بها إنهِزاميته ومَغلوبيته، ولكن ما طرحه هنتجتون في موضع الصدام والصراع الحضاري أعتقد بأنه ليس دقيقاً، و أعتقد بأن الحضارات ليس مصيرها الحتمي أن تتصادم بل يمكن أن تتعاون وأن تتعارف وذلك بحسب أهل التأثير فيها من مفكرين وسياسيين،.
إذا قُيض لكل أمة من يدعو لاستثمار الإمكانات الروحية والعقلية والفكرية لجميع الأمم وتسعى لطريق التعاون فسيكون الأمر كذلك، إذا قاد بعض الدول وبعض الإمبراطوريات قادة اسْتعماريون متهورون فلا شك أنهم يقودونهم إلى الخراب وهو الذي نعيشه الآن مع قتال وصراع.
وفق النموذج الذي قدمه ابن نبي لصعود الحضارات، إلى أي مدى يمكننا إعتبار الصعود الحضاري الغربي في جانبه التاريخي الذي يبدأ بالشرارة المسيحية وينتهي بآثار الحداثة، نموذجاً قابلاً للإسْتحضار والإقتداء في صناعة نهضتنا نحن كمسلمين؟
المبدأ الأول الذي نشأت عليه الحضارة الغربية كما نشأت عليه الحضارة الإسلامية هي الفكرة الدينية التي تشحن الإنسان بطاقات توجهه إلى تحقيق قيم مثالية فيسعى إلى شحذ كل جهوده وطاقاته في سبيل بلوغ هذه القيم، ولكن عندما يصل العقل إلى مرحلة من الإنفصال عن الروح وهي الشاحن الأول للطاقة الإنسانية فإن هذا العقل سيرمي شيئاً فشيئاً المصير الإنساني إلى حكم الغريزة، وأعتقد أن حكم الغريزة بدأ الآن يأخذ بزمام الأمور في الحضارة الغربية،.
لا يغرنا الآن ما تتمتع به هذه الحضارة من قوة مادية و تكنولوجية وإعلامية وما إلى ذلك، فإن كثير من علامات التحلل والتخبط موجودة في هذه الحضارة وإذا استمر الأمر كذلك وإذا سلم الناس مشاعرهم وطاقاتهم الحيوية إلى عالم الغريزة فإن هذه الحضارة ستؤول حتماً إلى الإنهيار.
وأمتنا الإسلامية مدعوة إلى أن تستفيد من هذه الفكرة سواء تعلق الأمر بكيفية نشوء الحضارة الإسلامية، وهذا هو الأولى بنا أن نستفيد منه، ونأخذه بعين الإعتبار أو بما تتمتع به الحضارة الغربية في بدايتها وفي مراحل ازدهارها من عوامل ثباتها وقوتها وتماسكها التي مازالت موجودة إلى الآن، وإن بدى أنها تؤول إلى الإنحلال.
العبرة الكبرى من موقف مالك تجاه الحضارة الغربية
العبرة الكبرى التي يمكن أن نستفيدها من فكر مالك بن نبي لا سيما في موقفه من الحضارة الغربية هي أن:
- نشغل عقولنا في التعامل مع هذا الوجود وأن يكون لنا حس نقدي في التعامل مع مُنجزات الفكر البشري؟
- ينبغي أن نتحلى بقدر عال من الموضوعية في التعامل مع ذواتنا ومع غيرنا.
- ينبغي أن نتحرر من الكثير من العقد التي تصورنا عظماء ونحن لسنا كذلك، أو تصور غيرنا عظماء وهم ليسوا بذلك المستوى من العظمة، هذا أمر في غاية الأهمية نستفيده من فكر مالك بن نبي، والذي كان موضوعياً جداً في التقاطه عوامل القوة وقيم الفضيلة والنهوض في الحضارة الغربية، وذكرها وعبر عن إعجابه بها وفي الوقت ذاته لم يقع ما وقع فيه الكثير من المفكرين على امتداد القرن الماضي وإلى الآن، الذين ما إن رأوا الحضارة الغربية فقدوا قدرتهم على التفكير الموضوعي وعلى ملاحظة ما فيها من علامات التخبط والاضطراب، وما فيها من منافاة القيم الإنسانية الناهضة بروح الإنسان والمُتدفقة بالقيم الضامنة للإسْتمرار.
هذا ما نفتقده كثيراً ولهذا أنصح الطُلاب في التخصصات الإنسانية المختلفة بأن يقرأوا جيدا ما كتبه مالك بن نبي، وما كتبه الذين يحللون الحضارة الغربية ومنتجاتها تحليلاً موضوعياً ليس فيه تعصبٌ عليهم ولا لهم.