مبحرٌ في "طفولة قلب" أستنشق منه عبيرا من الذكريات.. أتصفح في سطوره شهورا وسنوات.. تتراءى أمام عيني مشهد مؤلفه وهو يتحدث عن والده الحنون حينما عاش حياة الكد والتعب، تلك الحياة التي قضاها في طفولته معذبا تحت سياط القسوة والجوع والحرمان.. ومشهد الرحيل..
"مات أبوه وعمره سنة فاشتغل عند أخواله من عمر السادسة في رعي الغنم قريبا من المدينة المنورة، ولاقى قسوة العذاب ومكث نحو سنة مثالا لانتهاك حرمة الطفولة، ولقسوة حرمانٍ لا يفرق بين الأعمار، كان يُعاتَب على أي خطأ بأن يُرمى على الأرض ويُوطأ جسده، ويُعرك وجهه بالحصباء حتى يُدمى دون أن يجد من يشكو إليه أو يسمع نشيجه أو يمسح دمعته فلا يهتدي إلى طريق للخلاص، يعمل دون مقابل سوى أكله الذي لا يعد أن يكون سفوفا من الجراد المطحون يشرب عليه جرعات ماء.. فيا للشقاء حين يقسو المالك على الأجير فهذا الطفل يبيع عمره وجهده مقابل لقمة العيش."
اليتيم فهد توجه إلى الصحراء بدلاً من المدرسة، ليبدأ العمل في رعاية الأغنام عند رب عمل يتصف بالشدة والقسوة إذ لم يحنو عليه وما راعى غربته ولا يتمه ولا طفولته! ومقابل عمله لم يكن يتلقى اليتيم فهد أي أجر، سوى الحصول على طعامه، وهو مقدار كف من “الجراد”.
وفي يوم من الأيام جاع جوعا شديدا فأكل من كيس الجراد دون علم سيده، وعندما علم سيده قام بضربه ضرباً شديداً في منطقة صخرية على رأسه حتى أسال دمه.. لم ينم فهد تلك الليلة من شدة الألم النفسي والجسدي إذ كيف لطفل في السادسة يواجه كل هذه القسوة ..فكر فهد بالهرب والتخلص من هذا العذاب الوبيل والقسوة والتنكيل، وقضى ليلته باكيا لا أحد يسمع نشيجه.. أو يتحسس آلامه..
يا لقساوة المشهد!!! كان وحيدا يعاني قسوة الغربة وفقد الأهل وعذاب الرجل.. في الليل وبعد أن بكى وانتحب صمم على فكرة خطيرة وناجحة لكنها قد تكون مهلكة.. صمم على الهرب.. وفي ظهيرة اليوم الثاني لم يرسل الغنم إلى الماء على دفعات كما كان يفعل وإنما أرسل الأغنام دفعة واحدة وهرب..
كان سيده عند الماء كما هو المعتاد ولذا هرب بكل قواه راكضاً ليحصل على الاطمئنان، وبعد قطعه مسافات بعيدة جعل يلتفت ويكثر من الالتفات لكنه ما رأى أحدا.. هنا شعر بأنه سلم من المطاردة وأمن مما خلفه لكن بدأ القلق يساوره مما هو مقدم عليه إلا أن صورة والدته في خياله أعطته القوة ليواصل المسير.
مشهدٌ قاسٍ لطفل يركض هربا من المعاناة لكن لا يدري أين يذهب… هنا في هذه الصحراء المترامية الأطراف البعيدة الأرجاء الموحشة المُسبعة .. حيث الموت عطشا وجوعا وتعبا.. لا يدري أين يتجه سوى أنه يسمع بمدينة تسمى بريدة لابد أن يسافر إليها رغم المشاق والأهوال ووجود الوحوش والسباع..
أدركه الليل وهجم عليه الظلام وغطى الكونَ سربالٌ أسود كما قال النابغة الذبياني أحد شعراء المعلقات وهو يهيمُ على وجههِ خوفا من أحد الملوك: فإنّكَ كالليلِ الذي هو مُدركي… وإنْ خِلتُ أنّ المُنتأى عَنكَ واسعُ.
نامَ الطفل فهد وحيدا تحت شجرة وكان من الممكن أن يكون طعاماً لأحد الحيوانات المفترسة، أو سيتعرض للدغة ثعبان بين تلك الأحراش التي مرّ منها، وكانت تلك الليلة من أصعب الليالي في حياته فقد بقي فزعا طيلة الليل فهنا حيث هذه الصحراء لا أم تواسيه، ولا أب يحنو عليه، ولا أخ يعضده، ولا كتف أخت يستند عليها، ولا شفيق ولا رفيق.. يتقّلب على جنبيه ويلف جسده النحيل، ولا غطاء فوقه، ولا فراش تحته، وبات يضربه البرد فلا يجد غير أن يلتوي على جسده النحيل..
هنا حيث الظلام الدامس، ونباح الكلاب من بُعد، وعواء ذئاب الصحراء، ويتنصّت بأذنيه لعله يسمع حفيف الأفاعي ودبيب العقارب في دجى الليل البهيم.. لم ينم إلا غفوات وفي كل غفوة يرى فيها سيّده الذي أخذه للجو وبطحه وأسال دمه، ومشهد كفّ الجراد المقرر له كل يوم وتلك الحُفنة التي طالتها يده من جوع فلقي بسببها أصناف العذاب..
مشهدُ الأم وهي على البُعد أيضا كان يُجري مدامعه ويبعثُ الحنين في قلبه، والشوق في مهجته.. يتخيّلها وهي تستقبله بذراعيها وتجري دموعها شوقا إليه.. وما كان يحدوه في سفره الشاق ذلك إلا صورة أمه التي يغذّ السير نحو حضنها.. وهنا أمام هذا الموقف تأثّر صاحب طفولة قلب وبكى وهو يتحدث عن ألم والده في مشهد رأيتُه فيه وهو يتحدّث بلغة الدموع أمام هذه اللحظة..
لأمّي أحنّ ومن مثلُ أمي
رضاها عليّ نسيم عليل
فيا أمي أنتِ ربيعُ الحياةِ
ولونُ الزهورِ وشمس الأصيل
وفي الصباح استيقظ من غفواته ولم يكن ثمّ إلا جذع تلك الشجرة الذي احتضنه كما تحتضن أم طفلها الحبيب.. قام عند إشراقة الشمس وتلفت يمينا وشمالا وفرك عينيه فقد كانت الشمس حينها تداعب جفونه ثم نهض ليواصل المسير..
في الظهيرة وبعد أربعة وعشرين ساعة من سفره رأى من بعد (خيمة بدو) فأحسّ بالأمان لكنه سقط مباشرة على الأرض وراح في نوبةِ إغماءٍ عميقة ..
رأته صاحبة تلك الخيمة فهرعت إليه وحملته في حضنها لخيمتها ورشّته بالماء، وقامت بالاعتناء به حتى فاق من إغمائه، ثم أطعمته وارتاح عندها ساعة أو ساعتين وسألته أين مقصده، فأخبرها أنه يريد أمه في بريده.. فوصفت له الطريق وأخبرته أنه سيمر بمدينة اسمها( الفوّارة) وأرشدته وبيّنت له معالم الطريق التي لابد أن يسلكها، وتلك الطريق بعيدة موحشة يسير فيها الماشي المسرع مسيرة يومين..
قام الطفل بإكمال مسيره في عمق الصحراء يمشي ويتلفّت يغلبه الحنين لأمه التي فارقها وغابت ملامحها عن وجهه لكنه ممعنٌ في السفر إليها رغم الأهوال والمشاق ومكابدة آلام السفر لطفل لم يتعوّد على مكابدة الأسفار وقطع الفيافي والقفار..
ومن جديد هجم عليه الليل والتعب، وأضناه الإرهاق وتقطعت نعلاه وتشققت قدماه ليجد خيمة “عروس” تزوجت حديثا، قامت بدورها بكسائه، وغسل ملابسه التي امتلأت بالقمل، فاغتسل، وأعطت له لحافا يلتحف به، وأعطت له ملابس يلبسها، وكان زوجها (العروس) قد اصطاد أرنباً فذبحوه، وأطعموا فهد فتعشى وشبع، ثم سامروه قليلا وأزاحوا هموم صدره، ثم نام ليهنأ بليلة من أجمل ليالي العمر..
كانت تلك العروس تجيد معنى التفاؤل ولغة الأمل حين ألقت عليه جمالا من جمال كلماتها التي زادته يقينا بجمال الوصول ونسيان مرارة الفقد ولوعة الحرمان.
الدكتور سلمان العودة صاحب طفولة قلب وعلى أنه بالرغم من عدم معرفته لتلك العروس، إلا أنه يضحي عنها في كل عيد أضحى من كل سنة، لأنها أنقذت حياة الطفل فهد والده. عجيبٌ أمر وفائك..!! كأنك لازلت تذكر طفولة والدك.. تعيش ذكرياته!! تتحسس آلامه!! تجدد فرحته تلك!! تعيش معه العمر!!
فهد العودة والمشهد الأخير
بين هذا المشهد والمشهد الأخير لوالده ذكريات كثيرة مُختزلة، وبعضها في طفولة قلب.. فقد مررتُ على آخر موقف لوالده فهد.. وكان موقفا مليئا بلوحات الحزن العميقة المؤثرة..
"كان ذلك الصباح مختلفا.. أكل فطوره باقتضاب وتمتم ببضع كلمات قالها قبل انصرافه وهو يرى صبيانه الصغار.." لولا هذه الرؤوس الصغيرة لركنتُ إلى الراحة والدعة" وانصرف يحمل بضاعته إلى المتجر، ثم توقف ليسير حيث القدر، فالمبنى الجديد هو الآخر يحتاج إلى رعاية حيث ستكون الأسرة بعدُ.. واتجه إلى هناك حيث الموت يختبئ بين الجدار والماء .. أنامله الرقيقة تلامس حديد الماسورة الموصولة بخرطوم الماء، وفي لحظة غفلة يتصل هذا بتيار الكهرباء ليصعقه صعقة عنيفة ويتنادى الجيران إلى جثة فارقتها الروح..."
في هذه اللحظة كان سلمان الشاب يغط في نومه ويرى في نومه أنه يمشي على عكازين مكسورة رجله.. قام على الصراخ .. الريق جفّ، والمشاعر ترتجف، والهول يسيطر على الموقف.. الناس يقولون أين أبناؤه الكبار.. فيخرج عبد الله، محمد، سلمان..النساء في رعب.. الوالد فارق الحياة..
قبل صلاة الظهر قبّلَ الأولادُ جميعا جبهةَ الأب الحاني الرحيم الشفيق وهو مسجّى قبل أن يُحمل على الأعناق ويغادر هذا الكوكب*..قبّلوا كلهم جبهة الأب الذي حضنهم ، وتعاهدهم بلطفه، والدمع يطفر، والحزن يحفر أخاديده في الأعماق
وليس البكا أن تسفحُ العينُ، إنما
أحرّ البكاءين: البكاء المولّجُ
رائحة جسد سيغيب بعد لحظة، وتغيب معه خصال الخير التي جبل عليها
الكلمات عنه مؤثرة في طفولة قلب
- تهبط كل شواهد الراحل، إلا قبره يكبر كل يوم في عين سلمان.. يتعالى ..يتعالى حتى ينتصب أمامه كوجه يخبره أنه لازال طفلا بحضوره.
- أكملَ قهوة الصباح.. أغلق مواعيده..كان ميعاده مع الله لم يتأخر.
- هذه المرة اختار أن يكتب بضميره هو بعيدا عن الغائب؛ فهناك من الفجائع مالا تتسع له الضمائر
إيهِ يا والدي الكريم سلام
يتلقّاك من أعالي الجنانِ
في" طفولة قلب" ذكر مؤلفه مشهدين عميقين وهو يتذكر والده فهد.. مشهد وهو يُضرب من قبل سيّده الذي كان يرعى له الغنم، والدماء تنزف منه، وفراره منه، ونومه في الصحراء، وسفره الشاق، واحتفاء العروس به، ومشهدٌ ثانٍ عميق وهو يراه يرحل يغادر الدنيا إلى غيرِ رجعةٍ..