تحرير:

  • محمد جمال 
  • شروق مستور 

يسابق الكيان الصهيوني الزمن لتهويد القدس المحتلة، وقد بدأ سياسته هذه منذ احتلال الشطر الغربي لمدينة القدس عام 1948 وشطرها الشرقي 1967، حيث اتخذت سلطات الاحتلال سلسلة إجراءات وسنّت مجموعة قوانين وتشريعات تصبّ كلها في اتجاه السيطرة الجغرافية والديمغرافية على المدينة وتهويدها.

وضمن هذا المخطط، يتركز نشاط الجمعيات الاستيطانية في الاستيلاء على العقارات الفلسطينية بالقدس المحتلة في أحياء البلدة القديمة وسلوان والشيخ جراح وواد الجوز، حيث ارتفعت في السنوات الأخيرة نسبة الاستيلاء على الكثير من المنازل بنسبة 70%.

والأحداث المأساوية الأخيرة التي شهدها حي الشيخ جراح منذ شهر رمضان المبارك لعام 1442ه (2021م) دليل على استمرار الاحتلال في مخططاته الإجرامية. وهذه حلقة جديدة في مسلسل ابتلاع الأراضي الفلسطينية الذي تمارسه سلطات الاحتلال منذ أكثر من سبعة عقود. لكن الأمر يتجاوز بكثير مجرد الاستحواذ المجرد على الأراضي إلى كونه خطوة ضمن خطة صهيونية شاملة لإحكام السيطرة على الفلسطينيين وفرض العُزلة عليهم من خلال المستوطنات، التي تُعَدُّ في جوهرها وسيلة لتفتيت المدن الفلسطينية وعزلها، ووأد الذاكرة التاريخية وأي بذور للمقاومة هناك. 

نطلعكم في الفقرة الأولى من هذا التقرير على المساعي التوسعية للكيان الصهيوني داخل الأراضي الفلسطينية ثم ننتقل بكم إلى الأبعاد الحضارية الكامنة وراء مشروع التهويد وطبيعة الصراع الذي تخوضه الأمة ضد المحتل.

المعمار الصهيوني: أبارتايد هندسي هدفه إقبار الهوية الحضارية لفلسطين

إن الهيمنة الصهيونية على ثقافة البناء في الأراضي المحتلة يوقع الخطر على الهوية الوطنية الفلسطينية بالقدس في المدى البعيد، عن طريق هذا الأبارتايد الهندسي الذي يعزل الفلسطينيين بعنصرية ويمنعهم حقوقهم في مدينتهم التاريخية. 

 

 

أدَّى هذا الوضع إلى "ظهور نمط معماري يتنافر تماما مع طريقة البناء في القرى العربية، ففي المناطق اليهودية يجتهد المهندسون المعماريون ومخططو المدن في تطوير أسلوب معماري قومي حيث يعمل الاحتلال على استخدام مادة لبناء الجدران الخارجية لمنازل اليهود، ليُوحِّد السمة المعمارية للمباني المختلفة ويظهرها كأجزاء عضوية من بنيان المدينة. لهذا تعمل سلطات الاحتلال على تشجيع بناء البيوت في الأحياء اليهودية، والحدّ من توسُّع البيوت الفلسطينية، وذلك لمواجهة النمو الديموغرافي السريع لدى الفلسطينيين وتفتيت الهوية والوجود الفلسطيني. 

هل هذه العمليات الموسعة للسيطرة المعمارية على فلسطين قانونية؟ 

في ظل الأحداث الأخيرة، اعتبرت مفوضية الأمم المتحدة لحقوق الإنسان أن الإخلاء القسري للعائلات الفلسطينية المقيمة في حي الشيخ جراح في القدس الشرقية "انتهاك للقانون الدولي". وحسب ميثاق الأمم المتحدة، وبموجب القـانون الـدولي يعتبر الاستحواذ على الأراضي بالقوة غير جائز وخرق للقانون. ووفق قرار الجمعية العامة 1514: إن إخضاع الشعوب لاستعباد الأجنبي وسيطرته واستغلاله يشكل إنكارا لحقوق الإنسان الأساسية، ويناقض ميثاق الأمم المتحدة، ويعيق قضية السلم والتعاون العالميين. و يجب وضع حد لجميع أنواع الأعمال المسلحة والتدابير القمعية، الموجهة ضد الشعوب غير المستقلة، لتمكينها من الممارسة الحرة السلمية لحقها في الاستقلال التام، وتحترم سلامة إقليمها القومي.

عند قراءة ميثاق الأمم المتحدة وهذه البنود الواضحة نستنتج أن الكيان الصهيوني يتعمد اختراق القوانين الدولية بدعم من القوى الكبرى على رأسهم الولايات المتحدة ودول أوروبا، وتعتبر كل تحركاته في القدس واعتدائه بالصواريخ على غزة انتهاكا وخرقا للقوانين الدولية، خاصة في ظل غياب قوة عسكرية رسمية لفلسطين.  

هذا الانتهاك السافر لممتلكاتهم ولمعالمهم الدينية يطرح في ذهننا سؤالا مهما:

من سيحمي الفلسطينيين من انتهاكات الاحتلال في ظل هذا الصمت الدولي؟ أليس من حق الفلسطينيين الدفاع عن أنفسهم؟!

 

 

لقد اعترف الميثاق للدول بإمكانية ممارسة حق الدفاع الشرعي سواء بصورة فردية أم بأسلوب جماعي أو أن تتم ممارسة الدفاع الشرعي الجماعي من خلال تضامن مع الدولة المعتدى عليها فور وقوع العدوان ومن دون أن يبنى ذلك على تنظيم أو ترتيب سابق، وذلك عندما يطلب المعتدى عليه المعاونة من الدول الأخرى ويلبى طلبه. وفقاً لنص الفقرة الرابعة من المادة الثانية من أحكام الميثاق، وهو ما أشارت إليه بوضوح المادة 51 منه التي نصت على أنه "ليس في هذا الميثاق ما يضعف أو ينتقص الحق الطبيعي للدول فرادى أو جماعات في الدفاع عن أنفسهم إذا اعتدت قوة مسلحة على أحد الدول". 

وبالتالي فإن المقاومة الفلسطينية لها حق الرد والدفاع الشرعي عن الأرض والمواطنين بصفتها الممثل الرسمي للشعب الفلسطيني وباعتبار فلسطين دولة معترف بها من طرف 137 دولة وهذا في ظل العدوان الصهيوني العنيف والمستمر.  

المشروع الصهيوني.. لماذا يهدف إلى نزع قداسة المكان والعداء للتاريخ والإنسان؟

إن وظيفة الصهيونية الأولى هي تلقين وترسيخ ثقافة الإحساس بالخطر حيث تقتات على العدوانية، وتحولها باستمرار إلى نوع من الرابطة القومية. لا تستطيع الصهيونية أن تعيش دون حروب، ولو على بعد آلاف الأميال من حدودها الراهنة، لذلك فإن "السلام" هو عدو الصهيونية الأول. وتبرز بشكل واضح عدوانية الصهاينة تجاه الفلسطينيين في الفترة الأخيرة، حيث شهدت غزة قصفا عنيفا وعشوائيا جوا وبحرا من طرف الكيان الصهيوني مما رفع حصيلة الضحايا.

ويعد الصراع الذي تخوضه الأمة مع الكيان الصهيوني صراعا كيانيا ووجوديا لا يصلُح معه النظر السياسي والتاريخي وحسب، بل يجب تقديم النظر الفلسفي أيضًا من خلال بحث أسباب تفريط العرب والمسلمين في القدس وتطبيعهم مع الكيان الصهيوني، تلك هي نظرة الفيلسوف المغربي "طه عبد الرحمن" للصراعات الموجودة على الساحة. فهو يقدم الإيذاء الواقع من الجانب الصهيوني على الإنسان الفلسطيني في شقين، وكل شق كجبل الجليد له ظاهر وباطن، فالشق الأول: الظاهر منه أنه "إيذاء واعتداء واقع على الأرض الفلسطينية"، بينما الباطن هو "إيذاء واقع على الأرض التي باركها الله". 

وهذا هو جوهر الصراع، فالإيذاء الإسرائيلي يكمن في احتلال الأراضي التي باركها الله وجعلها ملكًا له، وهذا راجع إلى أن شعورهم بالملكية يكون أكبر إذا كان هذا المكان مقدسًا، ويشعرون بالانتصار إذا أصبحت بيوت الله هذه ذاتها بيوتهم، ولأجل ذلك لن يهدأ لهم بال حتى يدمروا المسجد الأقصى ويشيّدوا بدلًا منه هيكلًا يرمز إلى ملكيتهم، يريدون بذلك أن يضاهوا الله -عز وجل- في مُلكه!

أما الشق الثاني: فظاهره "الإيذاء الواقع على الإنسان الفلسطيني"، بينما جوهره هو "الإيذاء الواقع على الإرث الذي أنتجه هذا الإنسان"، وذلك من خلال سلب الإنسان الفلسطيني "فطرته" وخلخلة "القيم" واستئصالها، فيفقد الفلسطيني "الوجهة" فلا يدري هل يقاوم المحتل الغاصب، أم يندمج معه ويذوب فيه، والصهيوني لا يتوقف عند هذا الحد، بل يعمد إلى إفساد "الذاكرة" كذلك عن طريق خلخلة علاقة الفلسطيني بالماضي والحاضر والمستقبل، فيطعن الفلسطيني في معتقداته، ويستسلم للواقع المفروض عليه، ويفقد الثقة في أي تغيير يلوح في الأفق، ومن ثمَّ يفقد الفلسطيني علاقته وصلته بالمكان، فتحل بذلك إرادة الصهيوني محل إرادة الإله، وتصبح بذلك الأراضي المقدسة المباركة، ليست مقدسة وليست مباركة!

كما أن هدف الكيان الصهيوني من التطبيع الحاصل معه من جانب بعض الدول العربية، هو حصر القضية الفلسطينية بين الفلسطينيين والصهاينة، وتحييد العرب والمسلمين عن الصراع، فيريدون نزع قدسية ومركزية تلك القضية من قلب كل مسلم وعربي بجعلها محصورة في الفلسطيني فقط،كونها قضية فلسطينية داخلية، وليس قضية عربية وإسلامية، ولذلك يرى طه عبد الرحمن أن علينا وصف هذا الصراع "بالصراع الإسلامي الصهيوني" لتوسيع نطاقه ليشمل المسلمين عربًا وعجمًا.

وليس هذا وحسب، فيرى "بول كونرتون" أن من أسوأ الجرائم التي يرتكبها المحتل في حق الإنسان الفلسطيني صاحب الأرض، هي جريمة تدمير "الذاكرة المكانية" وذلك عن طريق تهجير الإنسان الفلسطيني من أرضه وهدم مسكنه، وتغيير اسم الحي والقرية والمدينة التي كان يسكن فيها، وهذا بالضبط ما يحدث خلال هذه الأيام في "حي الشيخ جراح بالقدس" وغيرها من الأماكن، فينتج عن تدمير الذاكرة المكانية قطع أي علاقة تربط الإنسان الفلسطيني بالمكان، وبالتالي يبدأ تاريخ تلك الأماكن ببداية تسميتها بأسمائها الصهيونية الجديدة، فعندما تجول في خاطر الفلسطيني أي ذكريات متعلقة بتلك الأماكن، فإذا به يجد أنها غير موجودة، كون المواقف متعلقة دائمٌا بالأماكن التي حدثت فيها!

وما يفعله المحتل الصهيوني ليس بجديد، فقد قام -في الماضي- الثوار الفرنسيون بعد نجاح الثورة الفرنسية بتغيير أسماء الكثير من الأماكن حتى الشوارع والكباري، وأطلقوا عليها أسماء مثل "فولتير" و "روسو"، ليقطعوا صلة تلك الأماكن بالحقبة الملكية، فتبدأ تاريخ تلك الأماكن ببداية تسميتها بأسمائها الجديدة في العهد الجمهوري، فتمحي من ذاكرة الفرنسي أي علاقة تربطه بالعهد الملكي.

ويرى الدكتور "عبد الوهاب المسيري" أنه في إطار التحليل لكي نعرِّف العدو لابد أن نُدرك أن الدولة اليهودية سوف تقلل من ديباجتها اليهودية، وبالتالي لا يجب أن نقول هذا يهودي وهذا غير يهودي، لأنه من الآن فصاعدًا سوف يأتي إلينا رجل يحمل شنطة سمسونيت، ليس له علاقة بنجمة داوود، يريد أن يتاجر فقط، بالعكس، سوف نرى يهودا ليسوا يهودا في الحقيقة، بل مسلمين، ولكن يلعبون دور اليهودي، وسوف يمثلون إسرائيل خير تمثيل، ويضيف أنه طالما نحن في هذه الاستقطابات، فإن المرحلة القادمة كما يقال في العامية المصرية (هنتلحس تمامًا أو هناخد على قفانا)، لأن اليهودي الجديد، وهو (اليهودي الوظيفي) سوف يقوم بصلاة العشاء معنا، وهذه مشكلة كُبرى، لأنه سوف يقوم بالوظيفة التي كان يقوم بها قبل ذلك الجنرال الإسرائيلي أو التاجر الصهيوني.

لذلك - حسب المسيري - نجد الفلسطينيين يقاومون العدو الصهيوني، بينما نجد الدول العربية تخشاه، وهذا راجع إلى أن الفلسطيني نظر إلى العدو في إطار دوره الوظيفي متجاوزًا إدعاءاته عن نفسه وشعاراته بأنه لا يقهر!

وبالتالي يجب علينا (أن نحلل الإنسان في إطار دوره الوظيفي وبنيته الحقيقية، وليس في ضوء إدعاءاته هو عن نفسه).