إنا لله وإنا إليه راجعون. اهتزت الأرض، وفقدنا معها أحبة، وتعلقت أعيننا محبوسي الأنفاس بمتابعة العالقين، والأمل في إخراجهم ناجين من الموت. لكن يبدو أنه كان هناك زلزالاً موازيًا لم نحسب حسابه، وهو زلزال القلوب التي تزعزع فيها الإيمان، وأطلقت زفراتها غضبًا أو على استحياء مذهولةً من ذلك البأس الشديد الذي فتك بالمستضعفين بلا رحمة. والوقت هو وقت استنفار للحشد نحو جهود الإغاثة ودعم الناجين، والذين فقدوا أحبتهم وهم متفرقون في كل بقاع الأرض، وكأنه فعلا ذلك الجسد الواحد الذي وصل ألم أحد أعضائه إلى كل أعضاء الجسد.
فالوقت ليس وقت التنظير، ولا وقت البحث عن الحكمة، ولا وقت الاستعلاء بنعمة الأمن، وبقليل من العلم لدينا، على أناسٍ رأوا الأهوال فنلومهم على اهتزاز اليقين! ثبتنا الله وإياكم في كل وقتٍ وحين. الوقت هو وقت الدعم، والتثبيت. لذلك أكتب اليوم في فكرة محورية وهي أصل لهذا التثبيت.
إن زلزال القلب قادرٌ على أن يفتك بنا أكثر من زلزال الأرض! وفي هذا الظرف الجلل، لا يوجد أسوأ من سرقة الشيء الوحيد القادر على المرور بنا عبر هذه الأزمة، ألا وهو الإيمان بالله ﷻ.
إذا اعتقدت أن دور الإيمان بالله ﷻ في حياتك هو أن يحميك أو يُنجيك من الزلازل، ووقوع الكوارث الطبيعية، والابتلاءات، ستكون النتيجة الطبيعية أن تتشكك في هذا الإيمان عندما لا يقوم الإيمانُ بالدور الذي رسمته أنت له. لكن يمكنك أن تنظر إلى الإيمان بالله ﷻ على أنه سلاحك الوحيد في عالمٍ تحدث فيه زلازل، وكوارث الطبيعية، وابتلاءات. فالإيمان ليس مكافأة لك تحصل به على الامتيازات في الحياة، بل هو طوق نجاتك عندما تفقد تلك الامتيازات، ولن تستطيع استيعاب تلك الأزمات بدونه.
هناك طريقتان للنظر إلى هذا العالم. الطريقة الأولى هي النظرة المادية العدمية التي لا تؤمن بوجود إله. والنظرة الثانية هي الإيمان بوجود إله حكيم خبير عليم يسيّر هذه الحياة وفق سنن، وتدافع، وحكمة قد نفهم بعضها، وبالتأكيد لا نفهم أكثرها. نحن نعيش في عالم لا يُعتمد عليه، وتحدث فيه أهوال لا نفهمها. بعضها نسببه نحن، وبعضها لا حيلة لنا فيه. ونعلم يقينًا أننا في رحلة ستنتهي بالموت لا محالة. أي النظرتين للحياة تستطيع أن تحملك، وتعبر بك في رحلتك تلك وتجعلك أكثر قدرة على احتمالها؟
بشكلٍ شخصي، لا أستطيع استيعاب النظرة الأولى المتعلقة بعدم وجود إله. فهي ليست فقط عاجزة عن إجابة أسئلة أساسية ينشغل بها فكر أي إنسان (وينبغي له ذلك) حول من أين أتى الإنسان وكل صور الحياة، وكيف بدأ العالم، وما الذي يحدث بعد الموت. فالعلم لم يحسم السؤالين الأولين، بل زاد أمرهما تعقيدًا بنظريات متضاربة. وهو بالتأكيد لن يستطيع الإجابة على السؤال الثالث! بل بالإضافة إلى ذلك، هي نظرة عاجزة عن تثبيتنا عندما تحدث الأزمات الشخصية، أو الكوارث الطبيعة، أو تلك التي من صنع الإنسان. فأي معنى يمكننا إسقاطه على تلك الفواجع باستخدام النظرة العدمية المادية؟ وهل هي أرحم بنا في تلك المواقف من فكرة وجود إله؟ أم أن فكرة وجود إله هي الوحيدة القادرة على الربط على قلوبنا في تلك المواقف؟
إن النظرة المادية العدمية تنظر لهذا الكون، وللإنسان على أنه لا توجد لهما غاية، وما بعد الموت هو عدم ولا شيء. وتحت تأثير هذه النظرة، لماذا يفعل الإنسان أي شيء في هذه الحياة؟ ولماذا يسعى، ولماذا يضحي؟ بل إن "ستالين" نفسه الشهير بإلحاده، وبعد تحريمه للممارسات الدينية في روسيا الشيوعية، اضطر لتخفيف القبضة عن الكنيسة، والسماح للناس بممارسة الطقوس الدينية لأنهم (ضمن أسباب أخرى)، لم يعد لديهم رغبة ولا شهية لخوض معارك الحرب. فبدون "معنى" في الحياة، وبدون "غاية"، وبدون وعد لما بعد الموت، لماذا يضحي الإنسان في عالمٍ عدمي، ولماذا يخاطر بحياته وهي كل ما يملك؟ إن هذه النظرة تدعو إلى اليأس، والحسرة، والمرارة في كل لحظة من لحظات الحياة التي يعيشها الفرد في خواء نفسي، وفي لوعة المفارِق في أية لحظة، المسلوب من أي أمل في الدنيا، وما بعدها.
أما الإيمان بالله ﷻ، فهو الوحيد القادر على تهيئتنا لحياة قاسية، ونهاية محتومة. فالحياة الدنيا قصيرة، ومؤقتة، وتتوالى فيها السنن، والأحداث (بغض النظر عن الحكمة، والأسباب). ونعيش فيها بين فقد، وخسارة، وألم، ومكاسب معدودة، مأمورين فيها بعبادة السراء، والضراء. وحتى إذا لم نفهم الحكمة من أي شيء، ما الذي يمكّننا من التعامل مع كارثة كالتي ضربت أهلنا في سوريا وتركيا، وأوجعتنا جميعًا؟ ما الذي يمكن أن يربط على قلوبنا سوى الإيمان بغيبٍ نتمسك بخيوط الأمل فيه؟
- الإيمان بأن من فقدناهم شهداء، انتقلوا من ضيق العيش ومعاناة الحصار، والعوز إلى رحابة الجنة، ونعيم لا ينقطع بإذن الله؟
- الإيمان بالمحيي، الباعث الذي سيجمعنا بهم بإذن الله في لقاءٍ ثانٍ يشفى صدر كل حبيب، ويواسي كل مكلوم؟
- الإيمان بأن ألم كل جريح، وكل لحظة خوف، وارتجاف قلب تم تدوينها، وكتابتها ليُجزَى عنها صاحبها الصابر المحتسب أضعاف، وأضعاف من الأجر؟
- الإيمان بأن من فقد ابنه، فهو لديه شفيعٌ ينتظره على أبواب الجنة لا يدخلها إلا وقد شفع لوالديه عند ربه ﷻ وأنهما بصبرهما، ورضاهما عن ربهما، لهما بيوت الحمد في الجنة.
- الإيمان بأن كل من ظلم، وحاصر، وتخلى، وخذل، سينال جزاءه في الآخرة من الحق ﷻ الذي يستوفي الحقوق.
- الإيمان بأنه لله ﷻ ما أخذ، ولله ﷻ ما أعطى، وبأن كل شيءٍ عنده بمقدار.
بل من كان يستطيع أن يربط على قلوب الناس أثناء الثواني الطويلة القاسية لارتجاف الأرض، وارتجاف القلوب معها؟ ما هذه القوة التي رأيناها في شابٍ يردد الشهادة، والتكبير، والحوقلة وهو يوثّق لحظات الزلزال ويأخذ بيد أسرته لخارج البيت الذي تنهار أجزاء منه أثناء التصوير؟ من كان يستطيع تثبيت تلك المرأة العظيمة، التي رفضت الخروج من تحت الأنقاض حتى يعطوها حجابًا؟ من كان يستطيع تثبيت ذلك الشيخ الذي قضى آخر لحظات له يسبّح الله ﷻ، فيخرج من تحت الأنقاض شهيدًا مسبحته في يده؟ من الواضح أن كلمات هذا المقال ليست لهؤلاء العظماء! فقد تعلمت منهم اليقين، وأدعو الله ﷻ ثباتًا كثباتهم. لكن ما الذي كان يمكن أن يساعدهم لولا الإيمان؟
من يبادل كل هذا بالعدم، وباليأس، وباللا شيء؟!!!
وأيضًا لا يُجدي الإيمان بوجود إله، ثم نلومه حاشاه، ونتشكك به في كل موقف. يقول تعالى في سورة الحجرات "إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ۚ أُولَٰئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ" (15)
نسأل الله ﷻ صدقًا كهذا. فالإيمان مشروطٌ بعدم الشك، وعدم الارتياب حتى تسمح له بأن يحقق لك الأثر المُبتغى منه بإذن الله. فليس مصادفةً أن نقرأ سورة الكهف كل جمعة، ونمر فيها بلا وعي على قصص اليقين، وعدم التشكك لأنه هناك عالم من الغيب لا نعلم عنه شيئًا. فأما السفينة، وأما الغلام، وأما الجدار، فكانت كلها رسائل اليقين والإيمان بالغيب لنا. فلا تذهب أنفسنا حسرات على كل فقد، وكل شيء لا نفهمه، ونتعلق بطوق النجاة الوحيد في بحرٍ مظلم متلاطم الأمواج.
رحم الله شهداءنا، وعافى مرضانا، وربط على قلوب المكلومين، وثبّتنا جميعًا بهذا الإيمان وهذا اليقين، الذي بدونه نضيع ويفترسنا اليأس بلا رحمة!