بعد جولتنا المختصرة حول العلمانية ونظرتها للمعرفة والإنسان وظروف نشأتها وتطورها إلى الوقت الذي وصلت فيه إلينا، تبين بشكل سريع أن المجتمع الذي تمخضت عليه هذه الفلسفة مجتمع له خصائص وسمات معينة تميزه عن المجتمع الذي له خصائص إسلامية، تلك الخصائص التي هي الأخرى تستمد مبررات وجودها من نظرة مختلفة عن العلمانية في مصدرية المعرفة وتفاعلها مع التاريخ والجغرافيا على حد سواء.

‎في هذه الإطلالة السريعة سنتحدث مع ما أشار إليه الفيلسوف المعاصر الدكتور عبد الوهاب المسيري عن أنماط المجتمعات التي تسود عالم اليوم تبعا لمشاربها الفكرية.

‎فالمجتمع المتعلمن أو لنقل الذي نشأ كسيرورة طبيعية لسيطرة المعارف العلمانية هو مجتمع بالضرورة مجتمع تعاقدي، بينما المجتمع الذي نشأ كسيرورة طبيعية لمعارف إسلامية سيكون مآله إلى أن يكون مجتمعا تراحميا.

‎ولكل مجتمع منهما خصائص تختلف إلى حد معين عن المجتمع الآخر بعضها اختلافات جوهرية وبعضها إختلافات شكلية فحسب.

‎في النظرة العلمانية للإنسان ترتفع قيمة المادة بشكل يبعث على الندرة بشكل كبير، مما يجعل العلاقات بين البشر علاقات ميكانيكية تسيرها العقود المبرمة، وبالقدر الذي تزداد فيه العلمانية انتشارًا بالقدر الذي تزداد فيه العقود والقوانين انتشارًا وبالقدر الذي تخف فيه قبضة العلمانية تخف فيه القبضة القانونية وتنفرج العقود المبرمة تاركة مساحة للعقود غير المبرمة أو ما يمكن أن يسمى بالعرف.

‎في النظرة الاسلامية للإنسان توجد العقود أيضًا بشكل له أثر بالغ في تنظيم الحياة المجتمعية، لكن العلاقة بين الناس علاقة لا يمكن وصفها بالميكانيكية فللضمير والأخلاقيات والقيم المعنوية وزن يختلف عنه في المجتمعات التعاقدية التي تزن كل العلاقات تقريبا بدرجة نفعها المادي.

‎في المجتمعات العلمانية يمكن أن يتسع نفوذ الدولة والقانون إلى ان يصل الى الأب وابنه والبنت وأمها وهكذا يتشكل ما يمكن أن نسميه بالعقد الاجتماعي الذي ينطلق من فلسفات مختلفة، بصرف النظر عن النظرة السائدة هل هي نظرة توماس هوبز الانسان شرير بطبعه يحتاج إلى قانون ليضبط شره، ام نظرة جون لوك الانسان خييّر بطبعه ولا يلجئه الى الشر الا حاجته الاقتصادية او الغرزية بشكل عام، أو حتى نظرة جان جاك روسو المتجاوزة لذلك، فنهاية المطاف في ثلاثية العقد العقد الاجتماعي العلماني  تقف عند إنتاج المجتمع المدني الذي ينبثق عن الاجتماع الانساني الضروري لنشأة الدولة و الحضارة بشكل عام، وبالتالي تحول هيئات المجتمع المدني الى كيانات سياسية تدير شأن البلاد و تتوسع في سبك القوانين نتيجة عقد مبدئي يتنازل فيه الناس للدولة بقدر هائل من الحرية حفاظا على الطابع العام الذي يسير الاجتماع الضروري، فكنتيجة طبيعية لهذه السيرورة سيأخذ القانون حدا من الاتساع ليصل الى كل العلاقات مهما كانت خاصة.

‎بينما في الاجتماع الإسلامي الموضوع ليس كذلك، فالاجتماع البشري رغم كونه ضرورة عقلية إلا انه تحول مع التعاليم الشرعية الى مندوب شرعي تقام على اساسه الاحكام التفصيلية التي يتمثلها الاسلام كدين في المجتمع، وعليه فإن التجمع البشري سيتمخض عن مجتمع أهلي لا عن مجتمع مدني، يسوده التراحم لا التعاقد ذلك أن طبيعة التعاليم الشرعية التي يلتزم بها المسلم في علاقته بالدين هي في حد ذاتها تكتنز علاقات تراحمية تجمع بين افراد الدين الواحد  بشكل اختياري وليس ضروري، فالعلاقة بين الاب وابنه وبين الزوجة وزوجها وبين البنت و بنتها وبين الجار وجاره وبين الحاكم والمحكوم وغيرها من هذه العلاقات هي علاقات في حقيقتها  ذات مستوى ثان، فمستواها الأول منجز بعلاقة كل من هؤلاء بالله تعالى صاحب مصدرية العلاقة الاولى، وبالقدر الذي تزداد فيه التعاليم الاسلامية اتساعا والتزاما بالقدر الذي تزداد فيه العلاقات تراحما والتحاما.

‎وإذا أخذنا رمضان كحالة من حالات التراحم التي ينشدها الشارع الإسلامي في تنظيم العلاقات بين الناس، فإننا سنجد الكثير من التشريعات التي تصب في سبيل تحقيق التراحم بدل التعاقد.

‎فمن أفطر صائما له أجر خاص به يأخذه من عند الله فهذا أثره في التراحم كبير، ومن صام مع الناس شعر بجوعهم وعطشهم وهذا تراحم آخر ومن افطر مع عائلته وبين اهله وفي اسرته في بيت واحدة وعلى مائدة واحدة هذا فيه مزيد من تشبيك العلاقات الاسرية وتراحم من نوع آخر، وموائد الإفطار التطوعية في كل مكان لمن كان مسافرا او عابر سبيل هذا تراحم آخر واصطفاف الناس في صلاة التراويح تراحم من نوع آخر والزيارات العائلية بين الأهل والجيران في ليالي رمضان تراحم آخر وزكاة الفطر التي ينتهي بها رمضان تراحم أخر وفضل الصدقات المضاعف تأسيا بالنبي الذي كان أجود ما يكون في رمضان تراحم آخر، وغيرها كثير من اشكال التراحم التي تعيشها المجتمعات الاسلامية في علاقات اكثر استقرارًا ومتانة من العلاقات التعاقدية التي تبثها القيم العلمانية في المجتمعات اليوم عبر مركزية المادة والفردانية والاستهلاكية، وهو ثلاثي خطير جدًا مؤذن بتدمير كل العلاقات التراحمية التي ستتحول تدريجيًا إلى علاقات تعاقدية مع الاسف.

‎حين يدخل المسلم في رمضان عليه ان يقف على هذه المعاني في سبيل تحرره من هيمنة النمط العلماني للحياة فيستشعر  أهمية الشعائر الاسلامية في التصدي للفلسفة العلمانية ذات الطابع المادي الذي يحكم علاقات الناس بعضها ببعض بشكل ميكانيكي مغرق في التعاقدية.