حين يدخل رمضان، يتصور كثير من المسلمين في الثقافة السائدة أنهم دخلوا في مستوى من التكاليف العالية التي تتميز بالمنع والحظر، فالنظر يتوجه بشكل عام الى حيز الممنوعات والمحظورات، فالنجاح في شهر رمضان بشكل مبدئي متعلق بمدى الالتزام بتجنب الممنوعات، وهذه الزاوية في النظر أعتقد انها ليست كافية في التعامل مع الاسلام بشكل عام وفي رمضان بشكل خاص، ذلك أن الاسلام كمنظومة تشريعية في الاصل هي منظومة للمنح وليس فقط للمنع، فالبحث في تعاليم الاسلام عليه ان ينطلق بشكل مبدئي عن الممنوحات ثم بعد ذلك يلتفت للممنوعات باعتبارها تقف حاجزا دون تحقيق الممنوحات، فتكون الرؤية متناسقة من ناحية وتكون التكاليف في سياق يشعر الانسان بقوة الاسلام في دفع الحياة نحو الانجاز أكثر و ليس في تعقيد الحياة و تكبيلها.

 نأخذ مثلا في رمضان هذا العام لو دخل المسلم على اساس أنه سيزيد في سجية الانفاق بشكل دائم ويركز عليها كهدف عام وأساسي في رمضان هذه السنة، بحيث سيتعلم الانفاق من المال والجهد والعلم والذوق وغيرها من أنواع الارزاق التي عنده، فإنه سيكون بشكل مبدئي مطالب بتوفير النصاب الذي سينفق منه وسيتعود على ذلك في رمضان منذ اليوم الاول الى الأخير.

إن إنفاق المال يحتاج بالأساس إلى وجوده، ولكي يتم ذلك، يحتاج الإنسان إلى العمل، وهذا بدوره يتطلب الإبداع في تحقيق الأهداف المرجوة، بغض النظر عن الطريقة المتبعة لتحقيق ذلك. لا يهم المقدار المالي الذي ينفقه الشخص، المهم أن تكون النسبة محترمة ومتناسبة مع العمل الذي يقوم به يوميًا. بذلك يتمكن المسلم من الخروج من دائرة الكسل وضياع الوقت في الأمور التي لا جدوى منها، مثل النوم طوال النهار، أو التسكع بدون فائدة، أو إضاعة الوقت في مشاهدة المسلسلات دون قيام بعمل يذكر. وبالطبع، فإن إعداد الإفطار يعد عملاً مهماً ويجب أن يؤدى بكل احترام وتقدير.

إنفاق الجهد والوقت أيضًا مهم جداً، فإن إنفاق عدد من الساعات في جهد عضلي معين في الأسبوع، يومًا أو يومين، في عمل تطوعي في أي مجال، نظافة، موائد الإفطار الصائم، تنظيف المسجد أو أي عمل يدوي، فإنه يدمج الفرد بشكل جيد في المجتمع من ناحية، ويكسبه نوعًا من التواضع من ناحية أخرى، ويخرجه من دائرة الكسل المصاحب لرمضان في ثقافة الكثيرين مع الأسف، بالإضافة إلى فوائد أخرى يعرفها كل من واضب على ذلك والتزم به.

انفاق العلم أيضًا مهم جداً، والعلم ليس شرطًا أن يكون شرعيًا أو فكريًا أو غير ذلك، يكفي أن يلتزم المسلم بإنفاق جزءٍ من معلوماته سواء على مواقع التواصل الاجتماعي أو في الواقع، في المسجد، القهوة، أو في أي مكان، المهم يوجد التزامٌ سواءً يوميًا أو بشكلٍ يومين أو حتى أسبوعيًا. وهذا يعوّد الإنسان على أن يكون يومًا طالبًا وفي الغد تلميذًا يتعلّم من القراءة، المتابعة، أو أي شيء آخر. بالإضافة إلى ذلك، يساعد هذا العمل على تحقيق التوازن بين العلم والتعليم، والعمل المادي والعمل التطوعي، والاشتغال بالعقل والاشتغال باليد. كل ذلك يساعد على خروج الإنسان من دوامة الشعور بالقيود التي يفرضها الدين، فالتعاليم الدينية هي بالحقيقة فرصةٌ للإنسان للحصول على المزيد من الفرص وليس فقط للحظر.

ما ذُكِر هنا عن الإنفاق هو مجرّد مثال فقط وليس هو المقصود الرئيسي، وما ذُكِر في تفاصيل المثال أيضًا هي حالات فقط يُمكن تعميمها. وبشكل عام، المقصود من المقال هو كيف يبدع المسلم في النظر إلى التعاليم الإسلامية على المستوى الفردي والجماعي والحضاري، وتفهمها كمنحة للعطاء والانجاز والإبداع والعمارة، وليس فقط كتعاليم وتكاليف لوضع القيود والمحاذير والمنع والمحظورات.