شغل سؤال التغيير والنهضة أذهان الشباب خصوصا خلال العقد الماضي، باحثين عن إجابة السؤال في الدولة ومؤسساتها ووظائفها وصلاحياتها، ولكن مع كل عملية تغيير كانت تحدث في الوطن العربي، كان البديل يبدو أسوأ، مما عزز الواقع المعيش أكثر وأكثر، ودفع بعض الشباب العربي لليأس والقنوط وانتظار "معجزة" أو "المهدي المنتظر" لحل إشكالات الواقع، كون "الدولة " بنظرهم هي المسؤول الأول والأخير، وهي "الكل بالكل".

ولكن إذا ما نظرنا للعمق أكثر، يظهر أننا تناسينا استثمار المساحات الهامة و الشاسعة والوسيطة الموجودة بين الفرد والدولة والتي تتمثل بالمجتمع المدني، والتي لها دور كبير في تعزيز منظومة القيم والأفكار عند الأفراد وتؤثر في سلوكياتهم وتحفزهم نحو فعل حضاري أكثر رشدا، فأين موقع المجتمع والدولة في الفكر و التراث العربي و الإسلامي ؟ وهل يوجد تجارب وصيغ مجتمعية في تاريخنا كان لها دور في صناعة الحضارة الإسلامية ؟ وكيف نفهم العلاقة بين الدور المجتمعي المتمثل ب "الأمة" ودورالدولة كمحطات هامّة في سياق النهوض الحضاري ؟

سنتحدث أيضا في هذا المقال بالنسبة للمجتمع عن مفهوم "المجتمع المدني" كونه المفهوم الأبرز والأحدث، وسنجيب عن الأسئلة بالاعتماد على منظورين :

-النظري المتعلق بالتصور الإسلامي للمجتمع والأمة. 

-والعملي من ناحية الممارسة التاريخية العملية 

المجتمع المدني .. هل من إشكال حول المفهوم ؟ 

علينا أن نبين بدايةً أن الظاهرة أسبق من المفهوم دائما، وبالتالي للمجتمع المدني أصل في الخبرة الإسلامية كما سنبين، ولكن يحاط بمفهوم المجتمع المدني – كأي مصطلح غربي وافد – كثير من التحفظ والريبة بل والصراع بين أنصار المفهوم ومعارضيه، فصراع " المدني والديني " هو الإشكالية الأبرز المتعلقة بالمفهوم، وكون المصطلح أيضا قرين للحداثة وملتصق بالتجربة الغربية، ولكن إذا نظرنا في الغرب فإن " المدنية" مصطلح وصفة مشهورة لها العديد من المعاني والمقابلات والاستخدامات مما لا يجعلها محصورة بمقابلة الديني أو ضده.

أما بالنسبة للتراث الإسلامي، فإن صفة المدنية استخدمت من قبل علماء وفلاسفة إسلاميين قديما (ابن تيمية، ابن العربي، ابن خلدون) مثل المقولة الشهيرة " الإنسان مدني بطبعه " وكانت تشير إلى معنى أن الإنسان كائن اجتماعي يأنس لغيره في حركاته وتفاعلاته، ولو نظرنا في العصر النبوي، فتجربة التعاقد في عهد المدينة المنورة تعتبر أول تجربة في التعاقد المدني وسبقت نظرية العقد الاجتماعي عند جان جاك روسو، وحيث يرى الباحث إبراهيم غرايبة أن إقامة المجتمع الإسلامي كانت أساس الدعوة الإسلامية، وسميت يثرب "المدينة" في دلالة رمزية مهمة على أن الإسلام يقوم ويطبق أساسا في مدينة، وكان الرسول – صلى الله عليه وسلم- ينهى من يسلم من أهل البادية أن يعود إليها، ليبني مجتمعا مدينيا، وحتى قيم المجتمع المدني من حقوق إنسان وحرية وعدالة ومساواة كلها لها جذور قوية في الدين الإسلامي.

ولكن هناك من يرى أن مفاهيم وقيم المجتمع المدني لم تتجذر لدينا بسبب طبيعة "الأزمة الدستورية" في عصور الحضارة الإسلامية بدءا من الدولة الأموية، مما جعل هناك رفضا دينيا وسياسيا عند البعض لفكرة المجتمع المدني، وعليه فإن مصطلح المجتمع المدني هو أحد أدوات لغة الحاضر والمستقبل، علينا استثماره إيجابيا ليكون ساحة للإنجاز والإنتاج بدلا من أن يكون ساحة حرب فقهية واجتماعية وسياسية، ومع ذلك، فهذا لا يعني استيراد المجتمع المدني كما هو من الغرب، إنما كل مجتمع صناعة بيئته بما تتضمنه من منظومة الأفكار والشرائع والقيم.

ولذلك يقول د. سيف عبد الفتاح : " المفاهيم ليست ملابس أو موضة تُلبس، إنما عالم يُفعّل، والمفاهيم الحقيقية تبنى على أرض الواقع وتواجه تحدياتها وظروفها " 

المجتمع في ميزان الفكر والتراث العربي والإسلامي 

يقول د. أحمد الريسوني : " كانت الأمة - قبل الدولة وأكثر منها – هي التي تدبر وتدير شؤونها الدينية والثقافية، وتحل مشاكلها المعيشية وتلبي حاجاتها الاجتماعية وتنهض بمشاريعها العلمية والتعليمية، وتحقق إنجازاتها العمرانية والحضارية.

وكانت الدولة تشجع و تساعد وتنظم، وقد تضعف فتصبح عالة على المجتمع، وقد تنحرف فتصبح عائقا في طريقه، او تطغى فتصبح سيفا على رقاب أبنائه . ولكن المجتمع رغم هذا كان يظل نشيطا متجددا في طاقاته وعطاءاته " ولو نظرنا في تاريخنا الإسلامي، نجد أن ضعف المجتمع المدني ممثلا بمؤسساته وتجمعاته المدنية مثل "أهل الحل والعقد" وتزايد دور التجمعات القبلية في الحياة السياسية كان سببا للفتنه بين معاوية وعلي، وسببا في مقتل سيدنا عثمان وعلي رضي الله عنهما، حيث لم يكن هناك أطر ومؤسسات وقوانين لتنظيم المعارضة وتمثيلها وحماية الشرعية الدستورية.

وفي هذا السياق ترى منى أبو الفضل رحمها الله تعالى أن : " الرسول عليه الصلاة والسلام لم يخلف دولة أو إمامة، ولكنه ترك أمّة انبثقت عنها المؤسسات والمدارس والأئمة والدول، فليست الدولة في الإسلام مدارا للأمة قياما ووتطورا وامتداد وضمور، ولكن الأمة تدور حول العقيدة، والعقيدة هي مدار بقاء الأمة، أما الدولة فقد تكون أو لا تكون، فبتأسيسها تكتمل المقومات العمرانية للأمة" ، والرسول عليه الصلاة والسلام خلّف أمة قوية خلفه ولكنه لم يخلف إماما، حيث ترك أمر الإمام للأمة.

وذهب الرازي والنيسابوري في تفسيرهم لمعنى " أولي الامر" في سورة النساء أنهم أهل الحل والعقد وأضاف النيسابوري بأنهم أصحاب الاعتبار والآراء، أما الإمام محمد عبده في تفسير المنار فقد أدخل شريحة واسعة وهم كبار العلماء ورؤساء الجند والقضاة وكبار التجار وأصحاب المصالح العامة، ومديرو الجمعيات والشركات وزعماء الأحزاب ونابغو الكتاب والأطباء والمحامي.

باتفاق هؤلاء نأمن على الأمة من التفرق والشقاق مصداقا لقول الرسول عليه الصلاة والسلام : " لا تجتمع أمتي على ضلال " فيمكن القول أن مؤسسات المجتمع إذن تجسيد حقيقي لإجماع الأمة ووسيلة للتعبيرعن الرأي العام . 

مؤسسات المجتمع في الخبرة والممارسة الإسلامية 

إن التاريخ العربي والإسلامي مليء بالنماذج والمؤسسات المجتمعية التي كان لها دور مجتمعي وحضاري هام مثل المساجد والتي كانت تعتبر مراكز فكرية وثقافية واجتماعية وليست فقط مجرد مكان للصلاة والشعائر، يذكر د. مصطفى السباعي رحمه الله أن المؤسسات المجتمعية في المجتمع الإسلامي بلغت ذروة السمو الإنساني سواء في في عصور القوة أو الإ نحطاط، والتي لم تبلغها المؤسسات في المجتمع الغربي، مرجعا ذلك لثلاث أسباب رئيسية :

1- الإخلاص : حيث أن الناس كانوا ينشئون هذه المؤسسات لله تعالى، ليس لطلب الجاه أو الشهرة، مدللا على ذلك بأن صلاح الدين الأيوبي رحمه الله أنفق أمواله كلها على في تأسيس المؤسسات الخيرية في مصر والشام بدون ذكر اسمه عليها.

2- عمومية النفع : لم تقتصر مؤسسات المجتمع الإسلامي على تقديم خدماتها للمسلمين فقط، بل لكل إنسان على الإطلاق .

3- إقامة مؤسسات متخصصة ومتنوعة في مجال التكافل الإجتماعي لم يعرفها الغرب حتى اليوم .

ومصداقا للنقطة الثالثة، نذكر مجموعة من الأمثلة للتأكيد على حيوية وقوة المجتمع الإسلامي، منها :

التكايا، والبيوت الخاصة للفقراء لمن لا يجد السكن، وبيوت للحجاج، وأماكن المربطة على الثغور للمجاهدين، ومؤسسات لشراء أكفان الموتى وتجهيزهم، ومؤسسات للّقطاء واليتامى ورعايتهم، ومؤسسات لتحسين أحوال المساجين ورفع مستواهم وتغذيتهم، ومؤسسات لإمداد العميان بمن يقودهم ويخدمهم، ومؤسسات لتزويج الشباب والفتيات، ومؤسسات لإمداد الامهات بالحليب والسكر، ومن أطرف المؤسسات الخيرية وقف الصحون للأولاد الذين يكسرون الصحون وهم في طريقهم إلى البيت، فيأتون إلى هذه المؤسسة ليأخذوا صحون جديدة بدل المكسورة، ثم يعودون إلى أهاليهم وكأنهم لم يصنعوا شيئا !! 

هذه التخصصية والتنوع في تقديم الخدمات تساعد في رفع مستوى الإنتاجية والابتكار لدى أفراد المجتمع، إضافةً إلى أن أحكام الإسلام تستطيع إضافة الكثير للمجتمع المدني لتجعله أكثر تكافلا وتراحما وأوسع وأرحب أفقا، أي أن تجعله أكثر "إنسانية" 

الأوقاف وتنمية المجتمع 

لا يمكننا الحديث عن فاعلية المجتمع المدني ومؤسساته في التراث الإسلامي دون الحديث عن الأوقاف ومؤسساتها، بل ينظر البعض للوقف اليوم بصيغته الإسلامية كأداة فعالة في النهوض والتقدم والتنمية، بالرغم من انحسار أدواره على دور العبادة والعمل الإغاثي.

 إن الفكرة التي قام عليها الوقف هي " الصدقة الجارية " أي أننا نتحدث عن بعد تنموي مستدام وشامل لكل أنواع البر وكل فئات المجتمع حتى غير المسلمين كما أسلفنا، وعن نظرة تتطلع دائما للمستقبل من خلال المحافظة على اصول الوقف وتنميتها، وعن تحويل المبادرات الفردية إلى مؤسسات مستدامة.

إننا بحاجة اليوم لعلاقة تكاملية بين مؤسسات الزكاة ومؤسسات المجتمع المدني والأوقاف لتوحيد الجهود في إطار تكاملي يضمن تحسين سبل الرعاية لأفراد المجتمع، وأن يكون الوقف – كما كان سابقا – تحت إشراف المجتمع وليس الدولة حتى يعود لفعاليته كما كان . 

لماذا تضخّمت الدولة في أذهاننا على حساب المجتمع ؟ 

مما لا شك فيه أنه لا نهضة بدون دولة، وأنها مرحلة مهمة جدا في مسارنا الحضاري بما تمتلكه من السلطات والقدرات والإمكانيات، إلا أنه لا يمكن لأي فكرة حضارية أو نهضوية أن تنتقل للدولة إلا عبر المجتمع، فالمجتمع بمجموع حركته (علاقاته وقيمه وأفكاره ومشاريعه) هو من يهيّء لإقامة الحضارة، وفي ذلك يقول مالك بن نبي : " أمام كل مجتمع غاية، فهو يندفع في تقدمه إما إلى الحضارة وإما إلى الانهيار. وفي مقابل ذلك نجد أنه حينما تنعدم الحركة، فإن الجماعة الإنسانية تفقد تاريخها: إذ تصبح ولا غاية لها."

وبالعودة للسؤال الرئيسي، يقول د. أحمد الريسوني : " وإذا كانت الكتابات في السياسة الشرعية قديما وحديثا والدراسات السياسية الدستورية اليوم قد ركزت على الدولة ومؤسساتها، ووظائفها وصلاحياتها، وأبرزت -بما فيه الكفاية وأكثر- مدى أهمية الدولة وضرورتها فإنها – بحكم كونها تعكس الواقع المعيش – أهملت دور الأمة وموقعها ومكانتها، وصلاحيتها ووظائفها، مما عزز الواقع المعيش أكثر فأكثر " 

إن بعض النماذج التاريخية للدولة (السلطوية/ الثيوقراطية/ الحاكمية) جميعها تهمش دور الأمة المركزي في الحكم 

بل إن التناصح والتوجيه الأخلاقي وتطبيق الشريعة كلها يجب أن تكون اليوم من خلال المجتمع، لصعوبة إمكانية تحقيقها من خلال الدولة، مع وجود بيئة صالحة للحوار والتفاوض والنقاش والتدافع بين وجهات النظر، حيث تصبح الدولة انعكاس أمين لرغبة الأغلبية .

إن المجتمع ليس مصطلح عابر أو دخيل في تاريخنا وثقافتنا إنما هو أصيل حتى في الخطاب القرآني، " ولكل أمة أجل فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون ".

" كل أمة تدعى إلى كتابها " فالآية توحي – كما يقول د. محمد أمزيان – بأن المجتمعات لها صحف أعمال، وكل مجتمع يدعى إلى كتابه وليس ذلك كما يقول الشيخ مرتضى المطهري إلا من جهة أن المجتمعات تعد من الموجودات الحية الشاعرة القابلة للتكليف أو الخطاب . 

 إن مفتاح تقدم الدول اليوم في ظل تعقد الواقع يقوم على المؤسسات المتخصصة وليس على العشيرة أو الطائفة، والمجتمع هو بمؤسساته القادرة على نقل أي فكرة إلى حيز التنفيذ والتفعيل ضمن إطار الدولة .