واقع القيم في عالمنا العربي والإسلامي واقعٌ مأزومٌ صدّر أوبئةً مجتمعيّة كثيرةَ العدوى، سريعة الانتشار، نعيشها في أصغر وحدة اجتماعيّة إلى أكبرها، في بيوتنا الكوكبيّة كما في الأسواق السائلة، في أماكن العمل إلى سائر مساحات الوطن!
ليس عنّا بخافٍ ذاكَ المشهد الذي يمدّ فيه الأب يده مُلوحًا من نافذةِ سيارته ليُلقيّ لفائف السجائر، وما تفرّق من بقايا وأدران بمنُتهى الزهو وكامل الثقَة، قد يكون هذا من ترفِ القول أن نستدّل به في واقعٍ متخلّفٍ تشهد تفاصيله الكُبرى ما هُو أشدّ خطرًا.
تتسم الظواهر الأخلاقيّة بالتلاشي وقابلية الاضمحلال في عصر السيولة، نتحدّث عن خيريّة مجتمعاتنا كيف تُطعَن بسلوكاتٍ شتّى ،كتزايد ظاهرة التفكك الأسري وهشاشة الروابط، الإحصائيات العالميّة مؤشرٌ هامٌ يؤكد سنةً بعد سنة على تزايد حالات الطلاق في الوطن العربي.
لنراجع إحصائيات مؤشر الجريمة أيضًا، قد نجد النسب منخفضةً مقارنةً بدول العالم إلّا أنّ هذا لا يُعبر بكُل أسفٍ عن أمّة الخيريّة، ناهيك عن تعطيل العقول الشابّة وتخديرها، إذ يزداد إنتاج واستهلاك المخدرات دون رقابةٍ مجتمعيّة ولا رسمية ويكفي غياب الإحصاءات الدقيقة عن أعداد المدمنين وكمّ الإنتاج كدليلٍ على تمام الرضا!
في مشهدٍ آخر، نجد من الجرائم الأكثر شيوعًا (الفساد المالي) وأكل أموالِ النّاس بالباطل، ليزداد الثري صاحب السلطة ثراءً، ويزداد صاحبُ الحاجةِ حاجةً، ما أدى إلى تفكك الاقتصاد بُنيويًا في عدّة دول عربيّة، وعرقل سير قطار التنميّة الذي بالكاد يُقلع!
سجلت منظمة الشفافيّة الدولية في تقريرها عن مؤشر مدركات الفساد سنّة 2018 ازدحام ذيل القائمة بثمانية دولٍ عربيّة حازت على تقييم سلبي، انتشار الرشوة، الابتزاز، المحسوبيّة ونهب المال العام، وتطول قائمة المظاهر غير الأخلاقيّة التي تدل على انحراف بُوصلتنا عن قطب المكارم والقيم الحضارية!
وصولًا إلى القيم السياسيّة، ليست بأحسن حالٍ عمّ سبقها! لكن، على سبيل الاعتراف، من أكثر العلل فتكًا والتي تعاني منها أغلب أوطاننا التعفف الشعبي عن مُمارسة العمليّة السياسية، في شَقٍ جماعيّ لتأشيرة النهضة، لأنّ الممارسة الشعبيّة الواعيّة سدٌ منيعٌ يحول دُون تغوّل الساسة، وهيّ فرضٌ اجتماعيٌ ساقطٌ بالتقادمِ والتوارثِ بمبررات وهميّة، ومن مصاديق القول لمالك بن نبي:
"لا يجوز لنا أن نغفل الحقائق، فالحكومة مهما كانت ما هي إلّا آلة اجتماعية تتغيّر تبعًا للوسط الذي تعيش فيه وتتنوع معه، فإذا كان الوسط نظيفًا حرًا، فما تستطيع الحكومة أن تواجهه بما ليس فيه، وإذا الوسط كان متسمًا بالقابلية إلى الاستعمار فلابد من أن تكون حكومته استعماريّة" [1]
إذن، الاستبداد الذي يسود الكثير من أوطاننا ليس من بطش المستبدّ وجبروته -وإن كان ذلك عاملًا- إنّما هو باقٍ ويتمدّد لوجود نفسيّات ترضى بذلك، قيمة (المواطنة) كفيلةٌ بأن تزيل غُبن الاستبداد، حين يقوم الفرد دائبًا على وظائفه الاجتماعيّة، يكون جديرًا بأن تُحترم كرامتُه، وهُنا لا ننفي طبائع الاستبداد التي تعتبر خرقًا آخرًا يُوحي بطمس القيم الراشدة في الحُكم، أولها العدل الذي يعدّ أساسًا للعُمران!
مشاهدٌ تُثير الشجون، لم نُحصي منها إلّا النزر القليل جدًا، سعيًا منّا إلى لفت الانتباه ببراهين هي أقرب للمخيال العربي، بأنّ أمتنا تائهةٌ في غياهب التخلّف بمسلكٍ منحدرٍ سلوكيًا فلا تكاد تبصر أيّ الاتجاهات الحضاريّة ستسلك، إلى أين ستصل؟ متى؟ وكيف؟، بعد تلك النظرة الخاطفة، حريٌّ أن نُعرّج على مناظير هامّة لمفهوم أزمتنا هذه (انجذاذُ بُوصلة القيم).
القيم فلسفيًا هي "المعنى الخلقي الذي يستحق أن يتَطّلع إليه المرء بكليّته ويجتهد في الإتيان بأعماله على مُقتضاه، يجمع بين استحقاقين؛ التوجه إليه والتطبيق له" [2]
وأزمتنا في الجمع بين التوجه والتطبيق، إذ أنّ منظومتنا الإسلاميّة ثريةٌ بالقيم الحضارية المادية منها والروحيّة، لا نُعاني عوزًا في ذلك! لكن، التطبيق العملي ميدانٌ قلّ روادُه، في أحسن أحوالنا كثيرًا ما نتغنّى ببعض القيم ونحن عنها أبعد ما نكون، وفي أسوءها على الإطلاق حين يدوس بعضنا تلك المنظومة جهارًا نهارًا كتوجهٍ وكتطبيق.
في محاولة لتقديم حُكم منهجيّ، تُصنَف المُثل الأعلى إلى ثلاث قيمٍ أساسيّة: الخير، الحق والجمال، لو نقيس كلّ صنفٍ مرغوبٍ بما هو واقع، نكتشف عُمق الهُوة واتساعها! لعلَّ حاستنا الذوقيّة الزاحفة ليست بأقلّ من كوامن الخيريّة فينا ولا من صداح الحق الذي خفت ردحًا طويلًا! وترائي المشاهد الدالة هُنا أيسر على القارئ من أن نزيده عناءَ قراءتها.
لم تتمّكن الحضارة الغربية اليوم من الارتقاء المادي الحضاري، إلّا بتمَكّن القيم الماديّة في نفوس أفرادها، فنجد عندهم الرحمّة بضعيفهم (لا ضعيفنا!)، ونجد قيم العمل، الإتقان، الإحسان، الانضباط، والجمال، والكثير من القيم التي عزّزت من موقعها الحضاري في خارطة الإنسانيّة، وإن كان ارتقاءً قاصرًا لعدّة عوامل: تعدديّة القيم التي تفرض عدلًا على ربوعها، ولا ترعى ذمةً لمن هُم خارج دوائر حضارتها، إضافةً إلى تشبّع الحضارة بالماديّة المقيتة التي سُرعان ما تنفلت إذْ لم يشدّ عُقالها قيمٌ روحيّة إيمانيّة تُحقق للحضارة توازنها.
نحتاج تفعيل المنظومة القيميّة التي تمزج بين الماديّة والروحيّة، تكبح الفرد عن نزواته الدونيّة مواطنًا كان أو حاكمًا، وترعى الأسرةَ كأصغر وحدّة من فرطِ التجاذبات المتناطحة، تصنع على عينيْها حضارةً راقية تلتمس الخير في سعيها، وتلتزم بالحق الأبلج روحًا للقانون الأسمى، لتُشيّد جمالًا يشدّ الناظر إليهَا.
سؤال القيم اليوم سؤالٌ ذا امتداداتٍ مُتشعبةٍ في أمّتنا، ذلك أنّ المظاهر السلوكيّة ماثلةٌ أمامنا غير أنّا ما نقدر أن نحصيها كلّها ولا أن نعزل بعضها عن بعضٍ في تصنيفاتٍ هيّ أقرب إلى التنظيم من التجسيد الفعلّي.