جلست قبل أن يرحل الشهر أفكر في الحصاد وفي استشراف الأثر والمنطق الذي يمكن استصحابه منه لبقية أيام العام، وجدت أن رمضان هو شهر الجماعة بامتياز، كما أن الحج هو بؤرة اجتماع الأمة حول رمزية الكعبة التي تتعدد مستوياتها، وعلى الرغم من أن المرء في رمضان يكثر من الطاعات الفردية، بدءً من الصوم الذي وصفه الله بأنه له وحده وهو الذي يجزي به، مرورا بالصدقات وفعل الخيرات وإيتاء الزكاة في هذا الشهر الفضيل الذي يجزي الله به عن النافلة كالفريضة ويضاعف ثواب الفريضة كما يشاء، وصولا إلى صلاة القيام (التراویح)، وقراءة القرآن الذي يحرص المسلم على أن ينهي بها ختم الكتاب في هذا الشهر، وختامًا بإخراج زكاة الفطر وصلاة العيد.

كل هذه المحطات في مسار الشهر بأزمنته المتراكبة ودلالاته الوجودية تدور حول مركز هو فكرة الجماعة، فالصوم يروض الجسد الفردي كي يتواصل مع الجسد الجماعي بدرجة أعلى وأعمق، والعطاء المادي من صدقة وزكاة وإطعام يجعل الجماعة معبر التكفير عن الذنوب وجبر التقصير في الصوم لعذر مقبول والتقرب لله برحمة خلقه والعطف على الضعفاء والفقراء المساكين فيما وراء الحق الواجب لهم في المال، وصلاة القيام هي تواصي بالحق والصبر، وتحلق حول مأدبة القرآن واصطفاف لتلاوته وحرص على ارتياد المساجد كي يتعلق قلب المؤمن بمساحات العبادة بعيدة عن مساحات اللهو والدنيا، كي يتعلم كيف يستثمر الوقت في التطلع إلى الغيب، فإذا غادرنا الشهر جبر الله النفوس بفرحة عيد، وترفق بالنفس بتأقيت ينهي الشهر كي لا تكل من العبادة، وتبقى الجماعة محورية، زكاة الفطر إستمرار للعطاء، وصلاة العيد تلاحم للجموع في ساحات المساجد وفي الخلاء تحت سماء تظل الجميع في مساواة أمام الله كأسنان المشط، يبقى الدرس هو ما نصطحبه معنا لبقية العام، وما نتعلمه من رمضان لإثراء المجتمع ومساحات المجال العام.

والدرس هو الجماعة: كيف نبنيها على رابطة إيمانية تحقق الأخوة بين أفرادها على ميثاق (العبدية / التعبدية) لله، وكيف يكون هذا الميثاق منصة لإكرام الخلق على قاعدة البشرية - مسلمون وغير مسلمين- بعد أن أدّبنا رمضان وعلمنا التواضع لله رکوعًا وسجودًا ورحمة بالناس، عطاء وتوددًا، ورفقة وتجردًا، فالأخلاق التي يبثها رمضان في المجال العام لا يمكن ولا يستقيم ولا ينبغي أن تكون حكرا على جماعة من دون أخرى، وفضاءات الأخلاق الدينية هي دعائم وأسس الفضائل الاجتماعية والثقافة السياسية، ويكون من أعظم دروس رمضان أن نعيد البعد الإنساني إلى الفضاء العام بألا نكون قد أهدرنا رمضان في خيانة بغيضة لقيمه ودروسه، لذا فإنه: «من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه». الناس بعد رمضان صنفان: الأول يقول كما قال أحد الشعراء: «رمضان ولَّی هاتها يا ساقي»، أي عودة إلى المعاصي، والآخر يقول:

رمضان غادرنا لكنه ترك لنا ينابيع وسواقي، أي استمرار للمغزی الإنساني والأخلاقي والمدني والاجتماعي والاقتصادي والسياسي بل والكوني في رمضان، فنحن في رمضان نستعيد موضعنا على خريطة الكون وعوالمه الإنسانية والطبيعية بل أزمنته الدنيوية في تقاطعها مع الأبعاد الغيبية والأخروية.

ويحدث للمرء في الغالب ارتباك عاطفي وفكري في عيد الفطر، ففي رمضان تسود حالة من انتعاش الروح بالعبادة، وتواصل الأرحام والأواصر بالتلاقي في دعوات الإفطار، وترويض الجسد بالصوم والنفس بالتقوى والمراقبة والمحاسبة، ويأنس الوجود بهذه الحالة حتى يكاد يعتادها، لكن لأنه لا رهبانية في الإسلام، فإن رمضان أشبه بحالة استثنائية ندخلها لنستعيد كل عام هذا السمو الروحي والتجرد الأخلاقي والتواصل العاطفي والاجتماعي، أملا في أن نرتقي مع كل رمضان، فإن شغلتنا الدنيا بعده نظل نستصحب فلسفته في بقية الشهور.

فإن أوشك رصيدنا على النفاذ جاء رمضان الذي بعده ليلبي أشواق الروح ويعيد شحذ همة الطاعة وصقل الروح وشد ما ارتخي من علاقات الناس بالنسيان والانشغال، وليجدد مواسم الخير والإحسان بكل معانيه وتجلياته، في العيد يسود مناخ عام من البهجة ، وهذا رائع، فهذا مقصد العبد، أن يخفف الله به عنا وأن يفرح الناس ويستعيد الجسد طاقته لخدمة حركة الحياة بعد دروس رمضان، ويتم الترويح عن النفس. لكن الناس عادة يحتفلون بالعيد بقوة، ويخرجون من رمضان باندفاع، يندفعون إلى الشوارع والأماكن العامة، ويندفعون إلى تعويض الجسد عن الصوم بكعك العيد، ويندفعون في الترويح والسهر ويبالغون في الضجيج، وهو ما يدخلهم بعد أيام في حالة من الغربة والحنين الفوري إلى رمضان مرة أخرى، ويصبح انتظار رمضان الذي يليه هو الصبر الحقيقي الممتد عبر العام.