القرآن هو كلام الله المنزه المنزل على سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم خاتم الأنبياء والمرسلين، نُزّل لِيحيا بفحواه الإنسان حياة وفق مراد الله عز وجل، وليحصل ذلك وجب استعمال أهم أداة معرفية وهي: التدبر والتعمق والتفكر في معانيه بصفة عامة ومفرداته بصفة خاصة، عندما ننظر للقرآن بعينٍ متدبرة متأملة نجد أنه تكلم عن الإنسان من عدة زوايا ،ومن بين هذه الزوايا الاستخلاف، والكرامة، والشكلنة، والنشأة.

كرامة الاستخلاف

الاستخلاف في حد ذاته كرامة، خلق الإنسان وكرمه بأن جعله خليفة له على ما في الفسيح، وأي فضل ومكانة فوق أن تُستخلف على صنع الله، وأن تُطالب بحسن الاستخلاف، إذ يقول الله من هذا الباب في سورة البقرة (إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً)، أي مخلوقٌ أنت حتى يجعلك خالق الكون أنت لا غيرك خليفة له في أرضه وما يحيط بها؟! أي مخلوق أنت حتى تؤمر بعمارة أرض الله أنت لا غيرك؟! (هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا) [هود/61] 

أي مخلوق أنت أن تؤمَرَ ملائكة تسبح وتقدس للرب أن تسجد لك، ولم تقم بعدُ حتى بفعل يذكرَ أو يُخلد؟! هل تشعر حقاً أيها الإنسان المعظم بعظمة المكانة؟ هل في معاملاتنا البينية نستحضر تلك المكانة، وذلك القدر والدور المناط بنا؟ وهل نستحضرها فعلا في معركة ترويض الطبيعة؟ أم في أعمالنا اليومية؟ لو نفعل لن يكون حالنا كما هو الآن، حتى في عيشنا نتوسل، أو نمدّ ما في الجيب من أجل أن نقتات من عرق جبين الآخر!! لكن هي دعوة لنستحضر مكانتنا من جديد ونتيقن أن أحوالنا ستتغير للأحسن، وستعلو راية المجد والكرامة خفاقة.

الكرامة الذاتية

 الكرامة مصدر كَرُمَ، فالله عز وجل بلسان القرآن خلق كائنات عدة، منها الإنسان لكنه حباه وكرّمه على غيره ممن خلقَ، يكفيه تكريما، وفضلا أن روحه نفخة من روح الله؛ أي تكريمٍ وأي تعظيمٍ فوق هذا؟ وأي ذات هاته معززة مكرمة من فوق سبع سموات؟ كما أنّه ومن باب الكرامة الذاتية ظفر بما لم يظفر به غيره وهو قول المولى عزّ وجلّ في حقه:(وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ) [الإسراء/70]، وكفى بالله شهيدا أن يشهد المولى عز وجل بكرامتك، أو بعد هذا تُهان النفس الإنسانية؟ إن كلمة الله هي العليَا، وهي التكريم لبني الإنسان.

 أوَ بعد كلمة الله يَستعبد بعضنا بعضا، ويحتقر بعضنا بعضا، وينتقص بعضنا من بعضٍ، ويُفرق بيننا على أي أساس! وتوضع الأقفال على بيوت بعضنا، وتكمم أفواه بعضنا، وتقنن حياتهنّ، ويهان الإنسان، ويشرد ويفقر، كلا والله ما نحن ببشر لو رضينا بذلك.

الإنسان مكانة عالية ودور جليلٌ، وعز، وشرف، وروح سامية لا ينظر إليها ولا تعامل إلا بتلك المكانة السامية، التي مُكنت منها من رب كريم عزيز.

التكريم الشكلي (الجسدي)

 كرّمهُ سبحانه وتعالى من كلّ النواحي؛ حتى الناحية المظهرية فأنتَ عندما تنظر إلى بنيان إنسان بتمعن وتدبر، ستشعر بعظمة الخالق يقول تعالى: (لَقَدْ خَلَقْنَا الإنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ) [التين/4] 

خَلقه فزيّنه وجعل زينته زينة لكل قلب شواف للجمال وما يتصل، تتمعن فتندهش وتتحير حيرة الاستكشاف والاستدلال على أن تصوير الإنسان كاشف لجلال المصور، واستدلال قاطع على أن من خَلقَ عظيمٌ جليلٌ منفردٌ بيده ملكوت كل شيء.

هذا التكريم الشكلي ألا يُلجلج في ذهنك أفكاراً ملوَّنة توحي بأُخرى ملوِّنة! أم أن الأذهان صلدة، والقلوب موحشة؟ أليس لهذا التكريم الظاهر قهرٌ موجّه لإحساس رفيعٍ رافع، أو للمسٍ بديع باعث للبدّع البهيّ، أم لإشراقٍ في النفس يشعشعُ الأمل والغبطة والتوقان في أنفس البنيان المرصوص؟ فإن لم يكن، فالخوف كل الخوف من أن تكون ميت الإحساس والذوق الأصيل، لكن بما أنك إنسان فلا خوفٌ ولا وجلٌ بل سرورٌ وبشرى ملازمة؛ لأنّك أهل لها منذ النشأة الأولى بكن الخالقة، والبشرى في الأمر بأن الفقدان والموت الجمالي مكتسبٌ عرضيٌّ لا أصيلٌ، فالأصيل لا يكون إلا جميلا سرمدي، وبذلك يكمن العلاج وينبع مما وهبك الخالق من وسائل وأدواتٍ لا تكون إلا لك، تستطيع أن تعبر بها سراب القبح لتصل لحقيقة الكون وكُنهه؛ أنه صنعٌ جميلٌ لجميلٍ لا يقبلُ إلا جميلا طيبا.

من نفحات التكريم أن لا يعلو إنسان على إنسان، ولوْ زاره شيطانه وفكّر بذلك لذكّرهُ الذكّر الخالد بأصله من طين؛ لذلك في عالم الإنسان لا تفاضل ولا تحيز ولا أنواع راقية وأخرى دونية، الكل لآدم وآدم من تراب.

تكريم النشأة

 من كرم الله للإنسان أن خلقه من أصل واحد، من نفس واحدة وفي ذلك حِكم بالغة، فلا فرق بين أبيض وأسود، ولا عربي ولا عجمي، ولا أصفر ولا أحمر، ولا المرأة ولا الرجل، ولا الغني ولا الفقير، ولا الشرقي ولا الغربي، ولا الكبير ولا الصغير، كلنا لأصل واحد صلصال، يقول عزّ وجلّ: (هُوَ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن طِينٍ) [الأنعام/ 2]، (وَهُوَ الَّذِي أَنشَأَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ) [الأنعام/98] (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ مِن صَلْصَالٍ مِّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ) [الحجر/26]، وإن كان هناك ميزان للتفاضل فهو التقوى لا غير، كلمة فضفاضة جامعة ينطوي تحتها كل ما هو مساهمٌ في عمران المجتمع والأرض.

من نفحات التكريم أن لا يعلو إنسان على إنسان، ولوْ زاره شيطانه وفكّر بذلك لذكّرهُ الذكّرالخالد بأصله من طين؛ لذلك في عالم الإنسان لا تفاضل ولا تحيز ولا أنواع راقية وأخرى دونية، الكل لآدم وآدم من تراب.

ومن تكريم النشأة الواحدة ندرك أننا في علاقاتنا البينية يجب كسر كل جسور التعالي والتطاول، وإدراك أننا من بنية واحدة، ولا مفر من تبادل الاحترام والتعظيم من باب الأصل الواحد، ولأن هذا الإنسانَ في النهاية مهما كان لونه، وشكله، وجنسه ودرجة عقله وخُلقه مكرم في ذاته من خالقه فكيف لا يكرمه من هو من نوعه وأصله؟! التكريم عامل بعث للتعاضد المجتمعي والإنساني، وعامل بعث للتفاهم والتواصل والتناغم والتبادل، فكيف لا نُفعل هذا العامل المهم لتمد جسور التواصل العطائية بكل أنواعها الخيرية؟!