منذ أن وضع العالم الأمريكي "آدم سميث" كتابه "ثروة الأمم" وعلم الاقتصاد في تطور متسارع بفعل تسارع الأنشطة الاقتصادية للإنسان، وهذا العلم هو علم اجتماعي في المقام الأول إذ أنه معني بدراسة الاجتماع البشري، وقد تداخلت مفاهيم هذا العلم مع مجالات تخصصية أخرى فولدت علوماً مستقلة، وهذا هو شأن العلم حين يتسع ويتراكم، فقد تأثر الاقتصاد بالسياسة وأثر فيها فظهر الاقتصاد السياسي، وتزايد تأثير الأصول غير المادية في إنتاج القيمة الاقتصادية للمنظمات والمجتمعات والدول، فتعاظم تأثير المعلوماتية والمعرفة على رأس المال في الشركات الحديثة، وهذا استدعى ظهور علم جديد يدعى باقتصاد المعرفة، أو ما يسميه البعض باقتصاد ما بعد الصناعي.

وقد شهد هذا الاقتصاد ظهور عديد من المؤشرات التي يمكن من خلالها قياس أثره وبيان آثاره في الاقتصاد العالمي بشكل عام، ومن هذه المؤشرات: نفقات البحث والتطوير، وحقوق الملكية الفكرية، وميزان المدفوعات التكنولوجي، ورأس المال البشري، وبشكل عام فالتنافس الكبير الحاصل على المعرفة جعل اقتصاد المعرفة من أهم طرائق تحسين القدرة التنافسية عند الشركات والدول.

وهذا التغير الكبير في المفاهيم الإدارية حصل بفعل التطورات والتحولات الكبيرة في الاقتصاد العالمي بفعل السوق المفتوحة والتجارة الحرة، وظهور التكنولوجيا الحديثة التي قادت تحولات جذرية في حياتنا، فبعد أن كانت عناصر الإنتاج عند الاقتصاديين التقليديين تتمثل في: الموارد الطبيعية، والقوى العاملة، ورأس المال المنتج، أصبحت التكنولوجيا والمعرفة العلمية من أهم عوامل الإنتاج في الاقتصاد المعاصر، فأصبح رأس المال غير الملموس من أهم المهمات في الاقتصاد المعاصر فهو أولى بالتقدم من رأس المال ذاته.

ورأس المال غير الملموس تعددت آراء العلماء والباحثين في تصنيفه غير أن ما يهمنا أنه يشمل رأس المال البشري كما يشمل أيضاً رأس المال الهيكلي ورأس المال الاجتماعي، وهذا المفهوم قد اعتنت به منظمات الأعمال بشكل كبير جداً، بل إن البنك الدولي قدم مشروعاً خاصاً برأس المال البشري –كما سيأتي معنا بيانه-.

وهذا التوجه العالمي نحو الاستثمار في رأس المال البشري له امتداد تاريخي كبير عند علماء الاقتصاد، فإن كانت نظريات النمو الكلاسيكية اعتبرت أن الإنفاق على الصحة والتعليم مقيد بتراكم رأس المال المنتج إلا أن كثيرا من رواد علم الاقتصاد أشاروا إلى أهمية رأس المال البشري والأهمية البالغة للاستثمار فيه.

 فقد أشار مؤسس علم الاقتصاد "آدم سميث" إلى أهمية المهارات الإنسانية كمحدد لثروة الفرد والمجتمع، وقد ظهر مصطلح رأس المال البشري، ونظرية الاستثمار البشري على يد مجموعة من الاقتصاديين وأهمهم: "تيودور شولز" (Theodore shultz) و"قاري بيكر" (Gary becker) اللذان حصلا على جائزة نوبل بفعل إسهاماتهما النظرية الكبيرة في هذا المجال.

فـ"شولتز" اهتم بجانب التعليم والمعرفة كاستثمار ضروري لتنمية الموارد البشرية، إذ يعد أحد أشكال رأس المال، طالما حقق خدمة ذات قيمة اقتصادية، وقد انطلق "شولتز" في بناء مفهوم رأس المال البشري من ثلاث فروض أساسية؛ وهي:

  • النمو الاقتصادي الذي لا يفسر بزيادة المدخلات المادية، يرجع إلى زيادة تراكم رأس المال البشري.
  • يمكن تفسير الاختلاف في الإيرادات وفقاً للاختلاف في رأس المال البشري المستثمر في الأفراد.
  • يمكن تحقيق العدالة في الدخل من خلال زيادة نسبة رأس المال البشري إلى رأس المال التقليدي.

في حين اهتم "بيكر" بتطوير هذا المفهوم من خلال التركيز على الأنشطة المؤثرة في الدخل المادي وغير المادي، من خلال زيادة الموارد في رأس المال البشري، حيث اهتم بدراسة الأشكال المختلفة لهذا الاستثمار من تعليم وتدريب، واعتبار التدريب الأكثر فاعلية، وقد وضع كتاباً نشره عام 1964م، بعنوان (رأس المال البشري)، واعتبره وسيلة من وسائل الإنتاج الطبيعية كالمعامل والمكائن. [1]

ويعرّف برنامج الأمم المتحدة الإنمائي رأس المال البشري بأنه: "كل ما يزيد من إنتاجية العمال والموظفين من خلال المهارات المعرفية والتقنية التي يكتسبونها من خلال العلم والخبرة" [1]، وحديثنا هنا ينصب على موضوع رأس المال البشري، الذي يعد مفهوماً إدارياً حديثاً ظهر بفعل التطورات الاقتصادية التي أدت إلى تنامي الاهتمام بالموارد البشرية، وظهور اقتصاد المعرفة، فقد اعتبرت عديد من المؤسسات الحديثة رأس المال البشري نشاطاً استثمارياً لها، تحقق من خلاله أداءً عالياً يضمن لها القدرة على المنافسة بكفاءة وفاعلية.

وحين الحديث عن رأس المال البشري فكأننا نستصحب نظرة مسبقة مفادها أن العنصر البشري في المؤسسات الحديثة لم يعد مساهماً في الإنتاج فقط، يدار من خلال مجموعة من الإجراءات والسياسات والنظم، بل هو استثمار بحد ذاته توظف له المؤسسات أفضل الطرائق والسبل لتفعيله وتعزيز دوره في سبيل خلق تنمية مستدامة، وتوليد مزايا تنافسية سواءً في السلع أو الخدمات، ونحوها. 

ويجب أن نأخذ بعين الاعتبار أنّ رأس المال البشري، لا ينحصر في إدارة المعرفة للمنظمات والمؤسسات، بل هو مفهوم يعبر إلى الاقتصاد الكلي، ومن هنا كان منطلق البنك الدولي في وضع مشروع رأس المال البشري لتقييم الاقتصاد الكلي المستقبلي لدول العالم، والاهتمام العالمي برأس المال البشري في تزايد مطرد فقد جاء في تقرير التنمية في العالم لعام 2019م، الصادر عن البنك الدولي أنّ الحكومة ينبغي عليها وضع ثلاثة حلول لبناء فرص وظيفية وزيادة الإنتاجية وتحسين الخدمات العامة، وهي: 

  • الاستثمار في رأس المال البشري وخاصة في الفئات المحرومة، والتعليم في مرحلة الطفولة المبكرة لتنمية المهارات الجديدة التي يزداد الطلب عليها في سوق العمل، مثل المهارات الإدراكية والسلوكية الاجتماعية عالية الترتيب.
  • تعزيز الحماية الاجتماعية لضمان التغطية الشاملة والحماية التي لا تعتمد بشكل كامل على العمالة الرسمية بأجر.
  • زيادة تعبئة الإيرادات من خلال تحديث النظم الضريبية عند الحاجة، لإتاحة مساحة في الموازنة لتمويل تنمية رأس المال البشري والحماية الاجتماعية.[2] 

ولتقدير رأس المال البشري (غير الملموس) تستند بعض التقارير إلى آلية الفرق ما بين إجمالي الثروة -التي تقدر بما يعادل القيمة الحالية للاستهلاك المستقبلي- والمخزونات المنتجة والطبيعية الأخرى، كتقرير البنك الدولي (أين تكمن ثروة الأمم)، وقد جاء في هذا التقرير الصادر عام 2005م تأكيد كبير على أنّ الشكل الطاغي لثروات الأمم هو رأس المال البشري، إذ يميل نصيب رأس المال المادي من إجمالي الثروة إلى الانخفاض مع الدخل، فالدول الغنية ليست كذلك إلا بفضل مهارات شعوبها وخبراتها، وجودة المؤسسات التي تدعم نشاطاتها الاقتصادية.

والاستثمارات الموظفة في رأس المال البشري تعد من أهم عوامل الاستدامة في أي بلد يحرص على المنافسة والبقاء وذلك يقاس بالنفقات التعليمية، ولإيضاح أهمية رأس المال البشري، فقد جاء في تقرير البنك الدولي لتقدير ثروة الأمم عام 2000م، أثر عوامل الإنتاج في تكوين الثروة للفرد، فعلى مستوى العالم بلغ تأثير رأس المال غير الملموس بنسبة 78%، في حين بلغت نسبة تأثير رأس المال الطبيعي 4%، ونسبة تأثير رأس المال المنتج 18%، والمقصود هنا برأس المال غير الملموس (العمالة الخام -غير المؤهلة-، ورأس المال البشري، ورأس المال الاجتماعي، وعناصر أخرى من بينها نوعية المؤسسات)، ولا يخفى حين نتأمل في هذه الأقسام مركزية رأس المال البشري فيها وأنه الأصل فيها، وأن هذا التفصيل ليس ذا أهمية كبيرة تستوجب الفصل والتمايز بينها، وهذا يعكس لنا حجم تأثير رأس المال البشري في تكوين ثروة الأمم.

ما هي المؤشرات التي تقاس بها وضعية رأس المال البشري؟ 

وقبل أن نستطرد في بيان مشروع رأس المال البشري الذي وضعه البنك الدولي، فلا بد أن نشير إلى أن ثمة مؤشرات مهمة لقياس وضع رأس المال البشري، يتغير استخدامها ويتفاوت بتفاوت البلدان والمؤسسات، ومن أهم هذه المقاييس:

  1. قياس معدل الأمية.
  2. مؤشر معدلات الالتحاق بالمدارس.
  3. الرقم القياسي للتعليم (الذي يشمل معدلات الالتحاق بالمراحل الابتدائية والثانوية والجامعية ومعدل معرفة القراءة والكتابة).
  4. هيكل الإنفاق على التعليم (مؤشر حصة الفرد في الإنفاق على التعليم).
  5. مؤشر التنمية البشرية لبرنامج الأمم المتحدة الإنمائي، فمنذ العام 1990م ظهرت تقارير التنمية البشرية العالمية التابعة لبرنامج الأمم المتحدة الإنمائي(UNDP) التي أصبحت تقيس التنمية الإنسانية بمؤشر التنمية البشرية (Human Development Index)) (HDI))، وهذا المؤشر مبني على أربعة متغيرات، وهي:
  • متوسط العمر المتوقع عند الميلاد؛ وهذا يعكس القدرة على عيش حياة مديدة وصحية.
  • متوسط سنوات الدراسة والعدد المتوقع لها، وهذا يعكس القدرة على اكتساب المعرفة.
  • معرفة القراءة والكتابة بين البالغين.
  • معدلات الالتحاق بالمؤسسات التعليمية.
  • نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي؛ وهذا يعكس القدرة على تحقيق مستوى معيشي لائق.

وهذا التقرير يتضمن أيضاً أدلة مركبة أخرى، إذ تعدل قيمة دليل التنمية البشرية بعامل عدم المساواة، وتقارن قيمة الدليل حسب متغير الجنس بين الذكور والإناث، ودليل الفوارق بين الجنسين يركز على تمكين المرأة، ودليل الفقر المتعدد الأبعاد يقيس أبعاد الفقر التي لا صلة لها بالدخل.[3]

مؤشر رأس المال البشري الصادر عن مشروع رأس المال البشري، وميزة هذا المؤشر أنه مقياس من أهم مقاييس التنمية الإنسانية، فهو مقياس للاستثمار في البشر، مقياس نقيم من خلاله عالم الغد وطموحات المستقبل، وإنتاج الجيل القادم، ومن خلاله نتنبأ بمستقبل الدول، هو أن نبذل في سبيل الصحة والتعليم، وألا نعدّ ذلك إنفاقاً، بل استثماراً. 

  • مقياس يقيم حالة الدول ويقيم استثمارها في مواطنيها باعتبارهم بشراً فحسب، فهو المحرك الشامل للنمو إذ يحسن الأداء ويزيد الفاعلية في الخدمات والسلع وإيجاد أفضل الفرص، وخلاصة القول أنه: محصلة صحة السكان ومهاراتهم ومعارفهم وخبراتهم وعاداتهم، ودور ذلك في تعزيز النمو الاقتصادي.

إطلاق مشروع رأس المال البشري 

وقد أعلنت مجموعة البنك الدولي إطلاق مشروع رأس المال البشري في عام 2017، ويعتمد هذا المشروع على ثلاث ركائز أساسية، وهي:

  • مؤشر رأس المال البشري؛ والذي صمم لتحديد مقدار رأس المال البشري الذي من المتوقع أن يحصله طفل ولد اليوم حين يصل الثامنة عشر من عمره، وقد أطلق هذا المؤشر في أكتوبر/تشرين الأول 2018 خلال الاجتماعات السنوية التي عُقدت في بالي، إندونيسيا.
  • توسيع نطاق القياس والبحث؛ إذ يهدف هذا البرنامج المتوسط الأجل من البيانات والعمل التحليلي إلى تحسين قياس مجموعة واسعة من نواتج رأس المال البشري، وتحسين فهم تكوين رأس المال البشري وربطه بتدابير السياسات على مستوى كل بلد.[4]
  • مشاركة البلدان؛ حيث تدعم مجموعة البنك الدولي إلى جانب شركاء التنمية الحكومات في تحديد أولوياتها الوطنية لتنمية رأس المال البشري، وتنفيذ السياسات التي تعالج الحواجز التي تمنع البلدان من تحقيق أهدافها، وفي قمة بالي بإندونيسيا طرح وزراء من نحو 30 بلدًا رائدًا أفكارا مبتكرة حول كيفية تسريع الاستثمارات، وقد ازداد عدد البلدان التي تشارك بنشاط في المشروع إلى أكثر من 40 بلدا حتى أوائل 2019م[6]

فمؤشر رأس المال البشري الذي أطلق في قمة "رأس المال البشري" التي حضرها الآلاف في بالي في 11 أكتوبر/تشرين الأول 2018، يعد أهم ركائز هذا المشروع، ومن خلاله بإمكاننا أن نحدد كمياً مقدار مساهمة الصحة والتعليم في مستوى الإنتاجية المتوقع أن يحققه الجيل القادم من الأيدي العاملة، ويمكن للبلدان الاستعانة بهذا المؤشر لتقييم مقدار الدخل الذي تخسره بسبب الفجوات في رأس المال البشري، والسرعة التي يمكنها بها تحويل هذه الخسائر إلى مكاسب إذا ما تحركت على الفور.[7] 

فإن كان 56% من الأطفال الذين يولدون اليوم في مختلف أنحاء العالم سيخسرون أكثر من نصف دخلهم المحتمل مدى الحياة لأن الحكومات وغيرها من الأطراف المعنية لا تضع حالياً استثمارات فعالة لضمان وجود مواطنين أصحاء متعلمين ويتمتعون بالمرونة مهيئين للعمل في المستقبل، فيمكننا القول أن السؤال الإشكالي الذي ينطلق منه هذا المؤشر، هو: ما هو رأس المال البشري المتوقع أن يحصّله طفل مولود اليوم عند بلوغه 18 عامًا، وذلك في ضوء مخاطر سوء ظروف الرعاية الصحية والتعليم السائدة في البلد الذي يعيش فيه؟، [8] ومؤشر رأس المال هذا يعتمد على ثلاثة معايير أساسية، وهي:

  • معدل البقاء على قيد الحياة (هل الأطفال المولدون اليوم سيبقون أحياء حتى سن الالتحاق بالمدرسة).
  • الدراسة: ويشمل مقدار التعليم على أساس عدد سنوات الدراسة المتوقع أن يكون قضاها الطفل حين يبلغ الثامنة عشر من العمر نظراً للنمط السائد في معدلات الالتحاق، وجودة التعليم. (كم سيكمل الأطفال من المراحل التعليمية؟ وما هو قدر التعليم الذي سيتلقونه؟).
  • الصحة: وذلك من خلال معدل بقاء البالغين على قيد الحياة، والنمو الصحي للأطفال من خلال استخدام معدلات التقزم (هل سينهون دراستهم وهم بصحة جيدة ومستعدون لمواصلة التعلم أو العمل؟). 

فهذا المؤشر يعطي الأولوية للاستثمار في السنوات الأولى، إذ هو أساس رأس المال البشري، فيمكن القول من خلال ذلك أن الاستثمار في السنوات الأولى من العمر من أهم دعائم التنمية الاقتصادية، وذلك بفعل تأثير التغذية والتحفيز المبكر على نمو العقل وإنتاجية البالغين بعد ذلك، ومن مؤشرات ذلك أن تقديرات البنك الدولي تشير إلى أن نصيب الفرد من إجمالي الناتج المحلي كان سيزيد الآن في الظروف العادية في أي بلد بواقع 7% لو كان قضي على تقزم الأطفال حين كان عمال اليوم في سن الطفولة.[9]

وخلاصة القول بعد الاستعراض السابق للاهتمام الدولي برأس المال البشري، ودوره البارز في التنمية الاقتصادية، ينبغي على الدول العربية الاهتمام برأس المال هذا، إن أرادت نمواً وازدهاراً، وقد جاء في تقرير المعرفة العربي 2014م: "الدول العربية مطالبة ببذل مزيد من الجهد لتبني سياسات واستراتيجيات فعالة وتنفيذها، لإكساب الأجيال القادمة المعرفة ومعالجة جوانب القصور في التعليم وتشغيل الشباب وتمكين المرأة من المشاركة الاقتصادية والسياسية، لتكوين رأس مال بشري قادر على المساهمة في بناء مجتمع المعرفة والعمل لامتلاك بنى مؤسسية فعالة، وبلورة إرادة سياسية لإنتاج المعرفة". [10]