نستضيف في هذا الحوار د. بدران بن الحسن، أستاذ الفكر الإسلامي ومقارنة الأديان بكلية الدراسات الإسلامية، جامعة حمد بن خليفة في قطر، للحديث عن «ميلاد المجتمعات» في ضوء نظريّة مفكر الحضارة مالك بن نبي، في بسطٍ منهجيّ لمفهوم العلاقات الاجتماعيّة وتفسير حالاتها حسب دورة الحضارة.
تُطالعون في هذا الحوار:
-
العالم الرابع: ما أهميته في حركة التغيير؟ وما وظائف المُجتمع؟
-
كيف يضمن المجتمع حركته في بناء الحضارة؟ وما هي التحولات الكبرى التي تصيبه؟
-
كيف نهتم بتشخيص المرض الإجتماعي؟ وهل مازال العنصر الديني جزءًا من العلاج؟
-
هل اخْتزل الباحثون علم الاجتماع في عبقرية ابن خلدون؟
العالم الرابع: ما أهميته في حركة التغيير؟ وما وظائف المُجتمع؟
الشائع عن مفكر الحضارة أنّه قد أكد في العديد من منتجاته الفكريّة بأنّ صناعة التاريخ وتفاعل عناصر معادلة النهضّة، يرتبط بتأثير ثلاثة عوالم، ومن غير المُتعارف عند الكثيرين أنّه قد عزّز من هذه النظرية بطرحه لعَالَم رابع هو موضوع حوارنا، حيث يعتبر مالك بن نبي تَشَكُل هذا العالَم حدثًا تاريخيًا، ونقطة انطلاق لحركة التغيير.. ما هو العالم الرابع الذي نظّر له مالك؟ وما أهميته في فهم حركة المجتمع وبناء الحضارة؟
الإنسان يحدد الوجهة، بناء على إيمانه بفكرة معينة، ليستثمر الإمكانات الموجودة طبيعيا، ويحقق بها الأهداف التي صاغها بناء على رؤيته وفكرته ومشروعه، وهذا يتطلب الدخول في علاقة تكاملية إبداعية بين الإنسان والفكرة والإمكان (المادة)، بطريقة تجعل كل هذه العناصر الثلاثة تتجه إلى وجهة واحدة، فلا تتعارض. وهذا يتطلب نوعا من العلاقات الواعية فيما بينها، تسمى شبكة العلاقات الاجتماعية، منها ينطلق المجتمع ويشكل تركيبته المبدعة في صناعة مستقبله، ولقد كان لنا في رسول الله صلى الله عليه وسلم أسوة حسنة، إذ جمع بين الفكرة الإسلامية، وبين الإنسان المسلم، وبين إمكاناته المادية في ذلك الوقت، وانطلق بها على أساس "المؤاخاة" التي أسسها بين المسلمين، فكانت إيذانا بميلاد مجتمعنا الإسلامي الأول، الذي أنجز حضارته في التاريخ.
وهذا يتطلب منّا أن نفكر في توفير شروط ميلاده من جديد، على أساس فكرة المؤاخاة (شبكة العلاقات الاجتماعية) التي بدونها لن يحدث تفاعل إيجابي بين الإنسان المسلم اليوم وبين فكرته الإسلامية التي هي في حالة كمون، وبين واقعه وما حباه الله بإمكانات، لننهض من جديد ونحقق نهضتنا الحضارية الجديدة.
في هذا السياق نحاول أن نفهم "شبكة العلاقات الاجتماعية" التي قدمها مالك بن نبي، باعتبارها واحدا من مفاهيمه المركزية، وأداة تحليلية لفهم تشكل المجتمعات وحركتها، ومراحل المجتمع من حيث القوة والتماسك، ومن حيث الترهل والتفكك.
وهو أحد المفاهيم الأساس التي طورها مالك بن نبي رحمه الله وهو يبني منظوره الحضاري، مفهوم شبكة العلاقات الاجتماعية. هذا المفهوم الذي يتصف بإحتوائه على معنى مميز وروابط قوية والذي يوضح مدى إدراك بن نبي لطبيعة المجتمع وحيويته من خلال المنظور الإجتماعي-الثقافي والتاريخي.
ذلك أن حركة المجتمع في التاريخ لا يمكن أن تنطلق بوجود عالم الأشخاص وعالم الأفكار وعالم الأشياء فقط، بل بوجود شبكة العلاقات الاجتماعية أيضا، التي هي "المجموع الكلي للعلاقات الإجتماعية الضرورية" كما يذكر بن نبي في كتابه "ميلاد مجتمع"، التي تجعل تلك العوامل في حالة ديناميكية بفعل معامل الفكرة الدينية. فتحول التدين فعلاً في التاريخ ينشيء المجتمع والأمة والحضارة.
يقول مالك بن نبي عليه رحمة الله في كتابه (ميلاد مجتمع):
"وإذا أردنا تعبيراً أدق فإنا نقول: إن صناعة التاريخ تتم تبعاً لتأثير طوائف اجتماعية ثلاث: تأثير عالم الأشخاص، تأثير عالم الأفكار، وتأثير عالم الأشياء.
لكن هذه العوالم الثلاثة لا تعمل متفرقة، بل تتوافق في عمل مشترك تأتي صورته طبقاً لنماذج إيديولوجية/فكرية من (عالم الأفكار)، يتم تنفيذها بوسائل من (عالم الأشياء)، من أجل غاية يحددها (عالم الأشخاص).
فالعمل التاريخي بالضرورة من صنع الأشخاص والأفكار والأشياء جميعاً، ومعنى هذا أنه لا يمكن أن يتم عمل تاريخي إذا لم تتوافر صلات ضرورية داخل هذه العوالم الثلاثة لتربط أجزاءها في نطاقها الخاص وبين هذه العوالم، لتشكل كيانها العام، من أجل عمل مشترك.
وكما أن وحدة هذا العمل التاريخي ضرورة، فإن توافق هذه الوحدة مع الغاية منها-وهي التي تتجسم في صورة (حضارة) - يعد ضرورة أيضاً. وهذا الشرط يستلزم كنتيجة منطقية وجود (عالم) رابع، هو مجموع العلاقات الاجتماعية الضرورية أو ما نطلق عليه (شبكة العلاقات الاجتماعية).
ولقد أشرنا فيما مضى إلى أن المجتمع ليس مجرد كمية من الأفراد، وإنما هو اشتراك هؤلاء الأفراد في اتجاه واحد، من أجل القيام بوظيفة معينة ذات غاية، ونضيف الآن أن (عمل) المجتمع ليس مجرد اتفاق (عفوي) بين الأشخاص والأفكار والأشياء، بل هو تركيب هذه العوالم الاجتماعية الثلاثة، التركيب الذي يحقق معه ناتجُ هذا التركيب في اتجاهه وفي مداه (تغييرَ) وجوه الحياة، أو بمعنى أصح: تطور هذا المجتمع".
وبعبارة أخرى: وبالاعتماد على المناقشة السابقة، تدل العلاقات الجدلية بين العوالم الثلاث على وجود ما أطلق عليه ابن نبي (شبكة العلاقات الإجتماعية) التي تُعرّف على أنها "مجموع العلاقات الاجتماعية الضرورية" (ميلاد/ 25) أي؛ المجموع الكلي للعلاقات الإجتماعية الضرورية.
وبعبارة أخرى، يوفر الحد الأدنى لمجموعة العلاقات الضرورية للارتباط الداخلي في مكونات كل عالم من ناحية، والروابط الخارجية بين العوالم الثلاثة الضرورية من ناحية أخرى، وذلك لتشكيلها جميعاً في مجموعة متكاملة من العلاقات. وهكذا، فإنه يمكن تحقيق الإرتباط الثنائي للأفعال المتحدة بين هذه العوالم في المجتمع من أجل إقامة حضارة.
فشبكة العلاقات الاجتماعية هي حجر الأساس في المجتمع، لأن المجتمع ليس مجرد مجموعة من الأفراد لديهم علاقات متزامنة، ولكنها علاقات داخلية وخارجية بين العوالم الثلاثة. وبعبارة أخرى، فإن المجتمع في جوهره ليس سوى شبكة علاقات اجتماعية.
أيضًا، عند تعريف المجتمع تجاوز مالك التعريفات اللغوية، لأنّه حسب ما يرى لا تُقدم تفسيرا وظيفيا للدور المنوط بالمجتمع..فكيف فرق مالك بين التعريف الوظيفي للمجتمع وبين تعريف شبكة العلاقات الاجتماعية؟
في البداية، من الجدير بالذكر أن ابن نبي كان يرى أن التعريف التقليدي والاجتماعي للمجتمع لا يتناسب مع منهجه لإعادة بناء الحضارة الإسلامية. لذلك، خلُص أن هذا التعريف هو شرط منهجي لتحديد المصطلحات التي ينبغي استخدامها -ولا سيما مصطلح (المجتمع)- في نفس الوقت الذي نحاول فيه التعامل مع المفاهيم النظرية التي تهتم بالعوامل التاريخية التي تعتمد عليها نشأة المجتمع.
في هذا الصدد، قدّم ابن نبي بعض التحفّظات المنهجية على المفاهيم الاجتماعية السائدة في المجتمع قبل تعريف مفهومه للمجتمع. ويؤكد أن العلوم الإجتماعية الحديثة -التي يشكل علم الإجتماع جزءاً منها- قد تطورت وتشكلت داخل السياق التاريخي والحضاري الغربي، وبالتالي فهي مصبوغة بالخبرة المحددة للمجتمعات الغربية. ولذلك، تستمد العلوم الإجتماعية بشكل عام، وعلم الإجتماع بشكل خاص، مفاهيمها وتصنيفاتها الرئيسية من الأسس الثقافية والفلسفية لتلك التجربة. علاوةً على ذلك، للقضايا والظواهر الإجتماعية تاريخها الخاص ودورات التطور المختلفة لها بما يتماشى مع السياق الثقافي والحضاري الذي ظهرت فيه.
لقد كان بن نبي، وهو يقوم بتحديد مفهوم المجتمع، ومفهوم شبكة العلاقات الاجتماعية، مهتم بشكل أساس بكيفية إعادة بناء المجتمع الإسلامي وإحياء ثقافته وتطهيره من العناصر السلبية الموروثة من عصر التخلف ومن التشوهات التي عانى منها في ظل الاستعمار الغربي.
لذلك أكد على ضرورة ما أسماه بـ(علم اجتماع الإستقلال)، حيث أن مهمة علم الإجتماع الجديد هذه هي المساهمة في إعادة تشكيل شبكة علاقاتنا الإجتماعية، بالإضافة إلى تشكيل تركيب جديد من الإنسان والتراب والوقت حتى يتسنى للمجتمع الإسلامي البدء بعمليته الحضارية. ونقطة الإنطلاق لعلم الإجتماع الجديد هي إعادة تعريف مصطلح المجتمع.
في هذا السياق اعتبر ابن نبي أن التعريفات التقليدية للمجتمع هي مجرد تعريفات وصفية وسطحية فشلت في الإجابة على سؤالين أساسيين:
أولاً، ما هي الوظيفة التاريخية التي تحققها هذه المجموعة من الأفراد؟
ثانياً، ما هي طبيعة التنظيم الداخلي والآلية التي تمكّن المجتمع من تنفيذ تلك المهمة التاريخية؟
ولهذا ناقش بن نبي في بداية (نشأة المجتمع) تنوع الظاهرة الإجتماعية التي يمكن أن يُطبّق عليها مصطلح "المجتمع".
- أولاً، لفت بن نبي الإنتباه إلى الإختلاف الجوهري بين المجتمع الطبيعي والمجتمع التاريخي، ففي حين أن المجتمع الطبيعي لم يغير من خصائصه بأي شكل ملموس منذ نشأته، فقد حوّل الثاني ميزاته الأساسية وفقاً للقوانين التي تحكم تطوره. وهذا يعني أنه في حين أن المجتمع الطبيعي هو مجتمع ثابت، فإن المجتمع التاريخي متحرك حيث يغير أفكاره وحالته الثقافية والحضارية بإستمرار.
- ثانياً، وبالنظر إلى مفهوم المجتمع التاريخي أخذ بن نبي بعين الإعتبار حيويته. وبالتالي، استنتج أن المجتمع التاريخي مجتمع حيوي حيث يخضع لقوانين التغيير، لذلك، فإنه يعدل معالمه ومراحله. ومع ذلك، فإن هذا النوع- المجتمع التاريخي- يختلف من حيث تكوينه وبنيته.
- ثالثاً، إعتبر بن نبي أيضاً أن المجتمع التاريخي قد يظهر إلى الوجود بطريقتين مختلفتين:
(أ) قد يتكون في البداية من عناصر جديدة، أي عناصر لم تشهد أي تحول تاريخي مسبق. وبهذه الطريقة تشكلت المجتمعات التاريخية الأولى خلال الثورة الزراعية في العصر الحجري الجديد.
(ب) وقد يُتشكل أيضاً بعناصر تركها مجتمع أو مجتمعات سابقة. وفي هذا السياق، يمكن تشكيل المجتمع من خلال اقتراض عناصر من مجتمع مفكك، أو الهجرة مثل المجتمع الأمريكي الحالي الذي اقترض عناصره من مجتمع متحضر-المجتمع الأوروبي- الذي كان في حالة من التوسع.
- رابعاً، كما ذكر بن نبي، بغض النظر عن نشأته أو بنيته فإن ظهور المجتمع التاريخي ليس محض الصدفة، بل نتيجة عملية تحول مستمرة يسهم فيها كل من المجتمعات المدينة والدائنة. وتحدث هذه العملية وفقاً لثلاثة عوامل:
- المصادر التاريخية لعملية التغير المستمر.
- العناصر التي تنتقل من مرحلتها ما قبل الإجتماعية إلى مرحلة إجتماعية جديدة، وذلك تحت تأثير عملية التغير المذكورة أعلاه.
- القوانين والقواعد العامة التي تحكم عملية التغير.
- خامساً، تشير النقطة الأولى- المذكورة سابقاً- عند دراستها إلى أن المجتمع التاريخي يخضع أيضاً لدرجات من التباين والتي تتعلق بالظروف التاريخية لنشأته. وبعبارة أخرى، يتعلق الاختلاف التاريخي بنشوء المجتمع البشري. وبالتالي، هناك نوعان من المجتمعات التاريخية:
- النوع الجغرافي للمجتمع: وينشأ استجابة للتحدي الذي تفرضه الظروف الطبيعية لبيئته. حيث ينتمي المجتمع الأمريكي الحالي إلى هذا النوع لأنه ظهر نتيجة للهجرة الأوروبية والتي كان على الناس الـتأقلم فيها مع الظروف الطبيعية للقارة الجديدة.
- المجتمع الفكري (الأيديولوجي) الذي يظهر استجابة لنداء مُثُل معينة. وينتمي إلى هذا النوع المجتمع الإسلامي والمجتمع الأوروبي الأول (المسيحية الغربية)، إضافة إلى المجتمع السوفياتي السابق.
- سادساً، فيما يتعلق ببنية المجتمع التاريخي، أضاف بن نبي أن هناك أيضاً تبايناً ينبع من بنية المجتمع ذاتها. وفي هذا السياق، ميّز بين المجتمعات التي تعتمد بنيتها على طبقات عديدة وبين المجتمعات التي ترتكز على طبقة واحدة.
بالنسبة لبن نبي، ينتمي المجتمع الإسلامي إلى نموذج مجتمع الطبقة الواحدة. بمعنى أن بنيته تتخذ شكلاً متجانساً يتناسب بشكل أو بآخر مع حديث النبي صلى الله عليه وسلم حيث يقول: "المؤمن للمؤمن كالبنيان المرصوص يشد بعضه بعضاً" في الواقع، يقدم هذا الحديث صورة دقيقة للمجتمع الإسلامي في زمن النبي صلى الله عليه وسلم.
- سابعاً، على الرغم من وجود اختلافات تاريخية وبنائية في المجتمع البشري، إلا أنه يوجد هناك عدد من الخصائص المشتركة بين جميع الأنواع المذكورة أعلاه؛ فالمجتمع- أياً كان نموذجه التاريخي أو البنائي- ليس مجرد مجموعة أشخاص تدعوهم غريزة الجماعة إلى أن يتواجدوا في إطار إجتماعي معين، هذه الغريزة ليست سبباً في إنشاء المجتمع، إذ يضم المجتمع أكثر من مجرد مجموعة من الأفراد يمنحونه صورته أو شكله، إنه يتضمن عددًا من الأسس الثابتة التي يدين بها المجتمع واستمراريته وهويته بشكل مستقل عن أعضائه.
وبتجاوز التعريف الوصفي والسطحي لمصطلح "المجتمع"، يؤكد بن نبي أيضاً أن تلك الأسس الثابتة توفر للمجتمع خصائصه المحددة التي تضمن استمراريته، وتحافظ على هويته ليؤدي وظيفته في التاريخ. وبالتالي تشكّل تلك الأسس الثابتة جوهر المجتمع لأنها تحدّد عمر المجتمع واستقراره عبر الزمن وتمكّنه من مواجهة جميع ظروف تاريخه. وهذا الجوهر هو شبكة العلاقات الاجتماعية. فشبكة العلاقات الاجتماعية تشكل جوهر المجتمع.
وأخيراً،فإن جوهر المجتمع هذا هو شبكة علاقاته الإجتماعية التي تقوم بوظيفة ثنائية؛
- حيث أنها تربط أعضاء المجتمع معاً.
- توجّه الأنشطة المختلفة نحو تحقيق وظيفة مشتركة، ألا وهي القيام بالمهمة المحددة لذلك المجتمع.
هذا هو جوهر المجتمع والمكانة البالغة الأهمية لشبكة العلاقات الاجتماعية في نشأة مجتمع تاريخي، وبالتالي، يمكن اعتبارها شرطاً مسبقاً للعملية برمتها. فبناء شبكة العلاقات الإجتماعية -حتى في مرحلتها الأولية- هي أهم مؤشر على نشأة مجتمع في التاريخ.
والخلاصة: إن شبكة العلاقات الاجتماعية هي المجموع الكلي للعلاقات بين العوالم الثلاث وداخلها. كما أنها شرط مسبق لنشأة المجتمع بشكل عام والمجتمع التاريخي بحد ذاته.
لذلك، تمنح شبكة العلاقات الاجتماعية عالم الأشخاص دوره الجوهري وتماسكه، وتعطي عالم الأفكار كفاءته ودقته وثراءه، في حين تمنح عالم الأشياء معناه وفائدته وقيمته الحقيقية.
كيف يضمن المجتمع حركته في بناء الحضارة؟ وما هي التحولات الكبرى التي تصيبه؟
من الأقوال التي اشتهرت كثيرا لمالك بن نبي قوله: "لا يُقاس غنى المجتمع بكميّة ما يملك من أشياء بل بمقدار ما فيه من أفكار"، وفي الحقيقة أنّ كتاب ميلاد مجتمع أين نجد هذه المقولة نجد استدراكا لها وإضافة جوهرية بأن ثروة أي مجتمع فيما يملك من أفكار، إضافةً إلى قوة شبكة علاقاته الاجتماعية. كيف يُحافظ المجتمع على شبكة علاقاته حتى يضمن استمرارية وظيفته وحركته في بناء الحضارة؟
يشير الاقتباس الذي ذكرتموه إلى أن الأفكار هي الثروة الحقيقية للمجتمع وثرائه. ولكن لا يكفي أن يمتلك المجتمع ثروة الأفكار، بل يجب أن يسيطر عليها أيضاً، فعدم القدرة على التحكم بهذه الأفكار يُفقدها خصائصها التوجيهية، وبالتالي، لن يتمكن المجتمع من إعادة توليد أي عملية تحضّر.
وكما أشار بن نبي، فإنه إذا كان المجتمع يمر في ظروف صعبة ومعاكسة كما في حالة الفيضان أو الحرب، والتي قد تدمّر عالم الأشياء كلياً أو تسبب فقدان السيطرة عليه بشكل مؤقت، ستكون الكارثة أكثر تدميراً إذا ما فقد المجتمع السيطرة على عالم أفكاره في الوقت ذاته. فإن تمكّن المجتمع من الحفاظ على أفكاره، فهو في الواقع حفظ كل شيء كونه سيكون قادراً على إعادة ابناء عالم الأشياء.
وبالتالي، يقوم عالم الأفكار بدور حامي المجتمع، حيث يمتلك علاقة قوية مع شبكة العلاقات الاجتماعية. ويمكن فهم ذلك من إصرار ابن نبي على سيطرة المجتمع على عالم الأفكار، فإن كان المجتمع غنياً بالأفكار وما زال يسيطر عليها ويوجهها، ستُمكّن هذه الأفكار المجتمع من استعادة خصائصه الديناميكية في أوقات الشدة والمحن وفقدان عالم الأشياء.
وفي هذا السياق، استخدم بن نبي التاريخ لشرح النقطة المذكورة أعلاه.
فخلال الحرب العالمية الثانية مثلاً، واجهت ألمانيا ظروفاً صعبة، وكذلك روسيا ولكن بدرجة أقل، حيث شهد المجتمعان في هذه الظروف، وبخاصة ألمانيا، تدمير الحرب لعالم الأشياء. ولكنهم تمكّنوا من إعادة ابناء كل شيء في فترة قصيرة من الزمن بفضل مخزون عالم أفكارهم.
ولكن مع ذلك، تعد مهمة إعادة البناء عملا يقوم به المجتمع، أي من المستحيل تحقيق ذلك دون وجود شبكة علاقات اجتماعية. وهذا من شأنه أن يربط أعضاء المجتمع ببعضهم البعض، ويوّجه الأنشطة المختلفة نحو إنجاز وظيفة مشتركة، ألا وهي الرسالة والمهمة المحددة للمجتمع. لذا لا يعمل عالم الأفكار بشكل منفصل، فذلك ليس كافياً.
ويشير ابن نبي هنا أيضاً إلى تجربة المجتمع الإسلامي في مثالين مختلفين:
- المثال الأول: عندما دخل المجتمع الإسلامي تاريخ العالم في القرن السابع الميلادي، كان عالم أفكاره لا يزال في مهده ما كان غامضاً مقارنة بالمجتمعات المتحضّرة التي غزاها المجتمع الإسلامي وهزمها في مصر وبلاد فارس وبلاد ما بين النهرين.
- المثال الثاني: بعد ستة قرون عندما بدأ (المجتمع الإسلامي) يتدهور ويتراجع، كان يحتوي على أغنى مكتبات العالم في ذلك الوقت. ومع ذلك، انهار تحت ضربات هذه الدول الجديدة كإسبانيا والتي كان عالم أفكارها ضعيفاً نسبياً. وهكذا، لم تساعد تلك المكتبات المجتمع على تجنب الهزيمة.
ومن الأمثلة السابقة من تاريخ المجتمع الإسلامي نستنتج أن عالم الأفكار وحده لا يمكن أن يبرر تطوّر الحضارة أو انحطاطها، بل إن العمل المنسجم الذي يدمج هذه الأفكار مع شبكة العلاقات الاجتماعية هو المسؤول عن ازدهار الحضارة أو انحطاطها.
وفي هذا السياق، يؤكد بن نبي على ما يلي:
فاعلية (الأفكار) تخضع إذن لشبكة العلاقات، أي إننا لا يمكن أن نتصور عملاً متجانساً من الأشخاص والأفكار والأشياء دون هذه العلاقات الضرورية. وكلما كانت شبكة العلاقات أوثق، كان العمل فعالاً مؤثراً. وعليه، فإذا كانت ثروة مجتمع معين يتوقف تقديرها على كمية أفكاره من ناحية، فإنها مرتبطة بأهمية شبكة علاقاته من ناحية أخرى.
يشير هذا الاقتباس إلى ملاحظة مهمة تتعلق بتضامن وثبات شبكة العلاقات الاجتماعية، فعندما يكون المجتمع في مرحلة تطوّره وفعاليته، تكون شبكة العلاقات الاجتماعية في أقوى حالاتها. بمعنى آخر، يحدث ذلك عندما يكون المجتمع في مرحلة تحضّره مثل المجتمع الإسلامي خلال فترة المدينة، والمجتمع المسيحي خلال فترة الكهوف الرومانية. وتصل العلاقات الاجتماعية في المجتمع في هذه المرحلة إلى أعلى درجات التكامل والانسجام، كما تصل القوة الأخلاقية والشفافية إلى أعلى مستوياتها. ولكن عندما تفسد شبكة العلاقات الاجتماعية وتنحط، تبدأ الحضارة بالتراجع والتفكك.
ما هي التحولات أو الحالات التي تمر بها شبكة العلاقات الاجتماعية حسب دورة الحضارة؟ وكيف يُمكننا تفسيرها في كلّ حالة؟
إن شبكة العلاقات الاجتماعية تمر في ثلاث حالات خلال مرحلة التطوّر التاريخي للمجتمع، ألا وهي حالة التضامن وحالة الإرتخاء وحالة التفكك، إذا صح التعبير، ولكل حالة ميزاتها الخاصة، حيث تعكس حالة التضامن والثبات فاعلية الشبكة وحيوتها، وهي تشير إلى المرحلة المتحضّرة للمجتمع، في حين تشير حالة الإرتخاء إلى أن شبكة العلاقات الاجتماعية لم تعد قادرة على الحفاظ على أي عمل جماعي فعّال، وبالتالي تمهد الطريق للحالة الأخيرة ألا وهي حالة التفكك والتي تشير إلى مرحلة ما بعد الحضارة.
لذلك، فإن دراسة حالات شبكة العلاقات الاجتماعية هو في جوهره دراسة لتطوّر المجتمع وأدائه، وسير المجتمع في عمليته الحضارية يتم تسجيله نوعياً وكمياً في شبكة علاقاته الاجتماعية.
وبناءً على ذلك، تعد حالة شبكة العلاقات الاجتماعية مؤشراً على مراحل المجتمع في مسار تاريخه وعلى المرحلة الزمنية التي يمر بها المجتمع من الناحية النفسية والاجتماعية لتطوّره.
ويمكن التعبير عن عملية التطوّر بطريقتين مختلفتين:
- كمياً، من خلال المعادلة التي تمثّل عدد العلاقات الموجودة في شبكة العلاقات الاجتماعية،
- نوعياً، من خلال المعادلة التي تمثّل الناحية النفسية والزمنية، أو بعبارة أخرى فعالية هذه الشبكة.
أ. حالة التضامن/التماسك
تشير إلى أن المجتمع قد وصل إلى ذروة تطوره. وهذه هي الحالة التي ذكرها النبي صلى الله عليه وسلم في حديثه: "المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضاً". والمجتمع يمر في مرحلة التحضّر وفي المرحلة الروحية حيث يترابط كل أعضاء المجتمع مع بعضهم البعض. لذلك، يكون المجتمع في حالة من التماسك والانسجام.
وعلى الصعيد التاريخي، يشير بن نبي إلى تجربة المجتمع الإسلامي في المدينة والذي يعتبر نموذجاً لمجتمع متماسك، حيث كان كل فرد يترابط بجميع أفراد المجتمع عن طريق العلاقات الشخصية الودية. وعلى الرغم من أن عوالم ذلك المجتمع كانت في مراحل التكوين الأولى، إلا أن شبكة علاقاتها الاجتماعية تشكلت في وقت مبكر، أي من الأيام الأولى من هجرة النبي من مكة إلى المدينة.
ب. حالة الإرتخاء
يمكن ملاحظة علامات الارتخاء الأولى في شبكة العلاقات الاجتماعية التي تؤدي إلى تفكك المجتمع، والتي تكون عملية تدريجية.
قبل أن يتفكك المجتمع كلياً، تتسلل الأمراض إلى الجسم الاجتماعي على شكل تشققات وتمزقات في شبكة العلاقات الاجتماعية نتيجة للأسباب الكمية والنوعية المذكورة أعلاه، وقد تستمر هذه الحالة المرضية لفترة طويلة أو قصيرة قبل أن تتفكك شبكة العلاقات كلياً، وتعد هذه عملية تفكك بطيئة كونها تتسلل ببطء إلى الجسم الاجتماعي. ولكن جميع أسباب التفكك تكمن حصرياً في شبكة العلاقات الاجتماعية.
ويُشار إلى حالة الإرتخاء لما يبدأ المجتمع يمر في حالة من المتاعب. وزادت التمزقات والأمراض في المجتمع. كم يشهد عدد العلاقات الاجتماعية انخفاضاً مستمراً، ينهار المجتمع بين القوى المتضادة فيه. لذلك، تحدث هذه الحالة بين حالة التضامن وحالة التفكك. وإذا تمكّن المجتمع من مواجهة مشاكله وتعزيز شبكة علاقاته الاجتماعية، سيواصل عملية تحضّره، وإن لم يتمكن من مواجهة مشاكله، فسوف يتابع مساره نحو عملية الانحطاط، والتي هي عملية التفكك والتراجع.
ج. حالة التفكك:
عندما يتفكك المجتمع كلياً، تكون شبكة العلاقات الاجتماعية قد انحلت لدرجة أنها أصبحت فيها غير قادرة على تلبية متطلبات أي نشاط مشترك، وهو ما يصبح مستحيلاً في نهاية المطاف.
وهنا، يسود الاضطراب والفوضى في المجتمع، حيث كانت هذه حالة المجتمع الإسلامي خلال عصر الولاة الضعاف (في الأندلس). ففي ذلك العصر، كانت الشبكة في المجتمع مفككة تماماً، وكان المجتمع المسلم غير قادر على القيام بأي عمل جماعي.
إنّ هذا الوضع هو ما أشار إليه النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: "يوشك أن تداعى الأمم عليكم كما تداعى الأكلة إلى قصعتها، قالوا: أو من قلة نحن يومئذ يا رسول الله؟ - قال: لا .. بل أنتم كثير، ولكنكم غثاء كغثاء السيل، ولينزعن الله من قلوب أعدائكم المهابة منكم، وليقذفن في قلوبكم الوهن، قيل وما الوهن يارسول الله؟ قال: حب الدنيا وكراهية الموت".
في الواقع، أن الحالة التي ذكرها الحديث ليست شيئا خاصاً بالمجتمع الإسلامي، بل هي حالة كل مجتمع عندما تصل شبكة علاقاته الاجتماعية إلى حالة التفكك. إذ أن الغرور والأنانية في هذه الحالة يطغى على الضمير والمصلحة المشتركة، وبالتالي يدخل المجتمع بما يسمى المأساة الاجتماعية.
تتوافق هذه الحالة مع مرحلة الأشياء، حيث يكون المجتمع في مرحلة ما بعد الحضارة ولا يبقى الإنسان متكاملاً، بل يصبح إنساناً فاسداً متحللا غير قادر على الدخول في أي تفاعل ديناميكي مع العناصر الأخرى.
ولذلك نقول أن شبكة العلاقات الاجتماعية تعد أداة هامة جداً لدراسة مسار ومصير المجتمع في طريق الحضارة. ومن الواضح أن حالات التضامن والارتخاء والتفكك يمكن أن تكون مؤشراً لتحديد مراحل تطوّر الحضارة والمجتمع.
كيف نهتم بتشخيص المرض الإجتماعي؟ وهل مازال العنصر الديني جزءًا من العلاج؟
يربط مالك بن نبي بين تفكك العلاقات الاجتماعية وحتميّة هلاك المُجتمع، لكن هذا التفكك يبدأ مما يُسميه بالمرض الاجتماعي.في رأيكم كيف نهتم أكثر بتناول مشكلات المجتمع الواقعية وتشخيص أمراضه؟
أشرنا في السؤال السابق، إلى أهمية رصد التحولات التي تحدث في شبكة العلاقات الاجتماعية، لمعرفة المرحلة التي فيها المجتمع إن في حالة تحضر أو في حالة تحلل، أو في حالة تفكك نهائي، ودراسة ذلك في المستوى الكيفي وفي المستوى الكمي كما يقول مالك بن نبي.
وهذا يستدعي من خبراء المجتمع إلى الانتباه إلى الأمراض التي تصيب المجتمع، وكيف تعمل على إنهاكه بمرور الزمن، حتى توقف حركة تحضره، ثم تفككه وغيابه عن مسرح صناعة الحضارة، إن لم يتمكن من تدارك ذلك الخلل.
ويمكن معرفة المرض الاجتماعي بملاحظة مسار المجتمع، فإذا صار عاجزا عن الإنجاز الحضاري والإبداع، فإنّ معنى ذلك أن شبكة علاقاته الاجتماعية أصابها الارتخاء، "فتصبح عاجزة عن القيام بالنشاط المشترك بصورة فعالة.. وأن المجتمع مريض، وأنه ماض إلى نهايته… أما إذا تفككت الشبكة نهائياً، فذلك إيذان بهلاك المجتمع، وحينئذ لا يبقى منه غير ذكرى مدفونة في كتب التاريخ".
والمرض الاجتماعي قد يصيب المجتمع بالرغم من أنه يكون متخما "بالأشخاص والأفكار والأشياء كما كانت حال المجتمع الإسلامي في الشرق، في نهاية العصر العباسي، وفي الغرب، في نهاية عصر الموحدين.
وربما كانت هذه الحالة من التحلل والتمزق في المجتمع الإسلامي -حين أصبح عاجزاً عن أي نشاط مشترك- هي التي أشار إليها قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم في حديث (يوشك أن تداعى الأمم عليكم كما تداعى الأكلة إلى قصعتها)" الذي ذكرناه سابقا.
ويؤكد لنا بن نبي بقوله "ومع ذلك فقبل أن يتحلل المجتمع تحللاً كلياً، يحتل المرض جسده الاجتماعي في هيئة انفصالات في شبكته الاجتماعية، للأسباب التي ذكرناها كماً وكيفاً. وهذه الحالة المرضية قد تستمر قليلاً أو كثيراً، قبل أن تبلغ نهايتها في صورة انحلال تام. وتلك هي مرحلة التحلل البطيء الذي يسري في الجسد الاجتماعي".
بمعنى أن استشراء المرض وانتشاره في جسد المجتمع قد يأخذ أجيالاً قبل ان يفتك بشبكة العلاقات الاجتماعية، ويؤدي إلى تفكك المجتمع أو تعطل حركته الحضارية.
والمرض في شبكة العلاقات الاجتماعية يكون بما يصيب العلاقات بين الأفراد، ويتجسد فيما "يصيب (الأنا) عند الفرد من (تضخم) ينتهي إلى تحلل الجسد الاجتماعي لصالح الفردية، عندما يختفي (الشخص) أو خاصة عندما يسترد (الفرد) استقلاله وسلطته في داخل الجسد الاجتماعي".
فالعلاقات الاجتماعية تكون فاسدة عندما تصاب الذوات بالتضخم فيصبح العمل الجماعي المشترك صعباً أو مستحيلاً، إذ يدور النقاش حينئذ لا لإيجاد حلول للمشكلات، بل للعثور على أدلة وبراهين… تناولها يصبح فرصة لتورم (الذات) وانتفاشها، وحينئذ يكون حلها مستحيلاً، لا لفقر في الأفكار أو في الأشياء، ولكن لأن شبكة العلاقات لم تعد أمورها تجري على طبيعتها".
ولما ينتشر المرض وتتمزق العلاقات الاجتماعية وتصبح عاجزة عن أي نشاط مشترك بفعل تضخم الأنا، حينها يتوجه الفكر إلى مناقشات غير واقعية، وغير مهتمة بحلول للواقع، بل بقضايا خيالية محضة.
وفي هذا السياق يذكرنا بن نبي بوضعية الأنا الفردية في مرحلتين تاريخيتين من مجتمعنا الإسلامي، بقوله: "بوسعنا أن نتخيل ما كان يمكن أن يحدث- في مجتمع مريض- لو أن خليفة من طراز عمر بن الخطاب أراد أن يعزل رجلاً كخالد بن الوليد من قيادة جيش الشام!! إن محاولة كهذه كانت كفيلة بزلزلة العالم الإسلامي لو أنها حدثت بعد ذلك بقرنين أو ثلاثة قرون فحسب. ولكن (الأنا) الإسلامية كانت في العهد الأول سليمة سوية، فكان (فعل) عمر دون عقدة، وكان (رد فعل) خالد دون عقدة أيضاً. لأن علاقاتهما كانت علاقات سوية منزهة".
فالمرض يستفحل في المجتمع لما "تظهر فيه العقد النفسية على صفحة (الأنا)" حتى يصير العمل الجماعي صعبا أو مستحيلا. ويمكن إسقاط ذلك على واقع مجتمعاتنا الاسلامية اليوم، حيث كثر الجدل والانتصار للأنا بدل التعاون والتكامل والدخول في عمل جماعي ينقذ المجتمع ويوحد طاقاته نحو هدف واحد مشترك.
وهذا المرض الاجتماعي للأنا، له جوانب متعددة؛ اقتصادية وفنية وسياسية ..ألخ. وتتجلى الأمراض كلها في عدم فاعلية شبكة العلاقات الاجتماعية للمجتمع. وإذا لم ننتبه إلى هذا الجانب النفسي أو نغفله "فإن حكمنا يكون على ظواهر الأشياء لا على جواهرها".
هذا ما يحدث في أمتنا منذ عقود إن لم تكن منذ قرون، لأننا انشغلنا بمعالجة مظاهر المرض، ولن ننشغل بحل جوهره وعلاجه في أصله.
بالحديث عن بناء الحضارة، كثيرًا ما نجدّ اليوم أصواتًا تُنادي لاستنساخ تجارب حضاريّة بعينها، والنظر في شروط قيامها ومحاولة استجلابها وتطبيقها في الدول الإسلاميّة، دون مراعاة الخصوصيات وتهيئة البيئة كما ينبغي.. هل توافقون مالك بن نبي في رفضه للحلول المستعارة التي يرى أنها تفقد فاعليتها بمجرد انفصالها عن إطارها الاجتماعي. ما هي المبررات؟ أو المحددات؟
في تصوري المتواضع، أوافق تماما الأستاذ مالك بن نبي في ذلك، وبخاصة في ما ذهب إليه من أن الأزمة التي تعيشها أمتنا ومجتمعاتنا في جوهرها أزمة حضارية، ولن نتمكن من القدرة على حلها إلا إذا أمسكنا بقوانينها، ونظرنا إليها بعين التحليل، وبحثنا عن سنة الله فيها. كما أن الحضارة تقوم على قانون البناء لا على التكديس، فلكي نبني حضارة لا يكون ذلك بتكديس منتجاتها، وإنما بأن نحل مشكلاتها الأساسية.
أي المشكلات المتعلقة بالإنسان والتراب والوقت، وبشبكة العلاقات الاجتماعية، وحينها نخطو خطواتنا الأولى في بناء نهضتنا الحضارية. فحينما تحل المشاكل الثلاث حلاً علميًا، ببناء الإنسان المتكامل والاعتناء بالتراب(الإمكانات الطبيعية)، والزمن، لتتفاعل معًا ضمن ما توفره الفكرة الدينية المركِّبة للقيم الاجتماعية من شرارة روحية، فقد تم حل مشكلة الحضارة، التي هي الإطار الذي فيه تتم للفرد سعادته.
وبخاصة عنصر الإنسان، فإننا بحاجة إلى العناية بفكر الإنسان(ثقافته)، والعناية بتوجيه عمله ليحقق الفعالية القصوى، والعناية بماله ليدخل في استثمار اجتماعي منتِج. فالمجتمع الذي يتمكن من بناء عالم ثقافي منسجم مع سنن الآفاق والأنفس والهداية، ويحسن استثمار إمكاناته البشرية والمادية على ضوء ذلك، يستطيع ان ينجز نهضته الحضارية، التي لا يمكن التعويل في تحقيقها على تكديس منتجات أنتجها غيرنا.
وهذا لا يقتضي الاستغناء عن منتجات الحضارة المعاصرة، ولكن لا ينبغي أن نتعامل معها تعامل الزبون أو التاجر الذي يشتري الجاهز، بل نتعامل معها تعامل المتعلم الذي يتعلم منها ما يستطيع أن يحقق به وجوده الحضاري الفعال.
وحتى نحقق الفعالية الحضارية، لا بد أن نختار لنا نموذج المتفرد. فكل حضارة يتكون لها نموذجها ومثلها الذي تجعله نصب عينيها، ســواء كان هذا النموذج مستمدًا من الحاضر أو الماضي أو كليهما، أو شيئًا آخر، ولكن لا بد من نموذج ومثال يحتذى. واختيار النموذج يحدد المنهج إلى حد ما، فهناك ارتباط بين النموذج والمنهج، في إطاره تتحقق صور التنظيم والديناميكا؛ أي الفعالية.
وغياب الفعالية في المجتمع الإسلامي يعزوه ابن نبي رحمه الله إلى أن العالم الإسلامي لم يختر حتى الآن نموذجه، الذي يعطيه تحديدًا لمنهجه، وبقيت النهضة تنمو تحت تأثير نموذج غامض لم تخــتره، بل فُـرض عليها تلقائــيًا من أذواق القوم.
وما يبدو أنه اختيار للنموذج الغربي في العالم الإسلامي، هو في حقيقته من قبيل (وضع الثور قبل المحراث)، وتكديس لمنتجات الحضارة الغربية، وهذا التكديس قد تم في تنكر كامل تقريبًا للنموذج ولفضائله الواقعية ولقيمه العامة، وكان انجرارًا وتقليدًا للجانب السافل منه.
من هنا يمكن أن نؤكد أن الفعالية من وجهة اجتماعية (سوسيولوجية)، تنتج من خلال التركيب التاريخي للعناصر الأولية للحضارة، والتي هي الإنسان والوقت والتراب، على ضوء هداية منهج مكيف طبقًا للنموذج الذي اختاره المجتمع.
فالفعالية في جوهرها منهج فكري، بمعنى أنها "مسألة أفكار ومناهج وليست مسألة وسائل"، كما اعتقد العالم الإسلامي حين اتجه إلى البحث عن الوسائل المادية، بينما الأمر يتعلق بنمط الثقافة وما تحدده من مناهج، وما توفره من أفكار وجو فكري، يفعِّل الأداء الاجتماعي للفرد والمجموع.
ولهذا فابن نبي رحمه الله حين يتحدث عن النموذج والمنهج، فهو في الحقيقة يتحدث عن ترجمتهما في صورة مشروع ثقافي، يكتل الجهود، ويشكل دستور الحياة، من خلال ما تحويه الثقافة من عناصر الفكر والأخلاق والعمل والجمال، وحينما ينعدم الإطار الثقافي بعناصره هذه، فإن الأفكار تتجه إلى الدوران حول التقليد، وتفقد اتصالها بنموذجها الثقافي الذي تكونت فيه أصالة، ويضمن لها الدور الفعال في التاريخ، وتتحول إلى معوقات إن لم تكن أمراضًا تقضي على بوادر النمو.
ولهذا فالتقليد والتكديس والاعتماد على منتجات حضارة غيرنا، انتحار، وتبعية وتعميق للتخلف، ولو امتلأت مجتمعاتنا بمظاهر الحضارة.
ربط مالك بن نبي شبكة العلاقات الاجتماعية بالكثير من المجالات النفسيّة، الجغرافية، الأخلاقية والتربوية، لا يفوتنا الحديث عن أهم عنصر يتجدّد اليوم طرحه بزوايا نظر مُختلفة نوعا ما، وهو العنصر الديني..ما هو دور العنصر الديني في تشكيل شبكة العلاقات وتقويتها؟ وما هي رؤيتكم للانتقادات التي تُوجه اليوم لهذا العنصر بالتحديد؟ بألا علاقة بين بناء المجتمعات وبُعدها الديني ما توفرت قوانين ودساتير العقد الاجتماعي.
فيما يتعلق بالدين وصلته بشبكة العلاقات الاجتماعية، ومدى الحاجة إليه أم لا، ينبغي أن ننظر إلى الدين ذاته ما هو من الناحية الوجودية، ثم كيف يضع الخميرة الأخلاقية التي على أساسها تتأسس العلاقات الاجتماعية.
فإننا حينما نتأمل القرآن كما يقول مالك بن نبي "يبدو الدين ظاهرة كونية تحكم فكر الإنسان وحضارته، كما تحكم الجاذبيةُ المادةَ، وتتحكم في تطورها. والدين على هذا يبدو وكأنه مطبوع في النظام الكوني، قانونًا خاصًا بالفكر، الذي يطوف في مدارات مختلفة، من الإسلام الموحِّد إلى أحط الوثنيات البدائية".
فهو قانون من قوانين الله عز وجل التي فُطرت عليها النفس الإنسانية، وهو"فضلاً عن أنه يغذي الجذور النفسية العامة، فإنه يتدخل مباشرة في العناصر الشخصية التي تكوِّن الأنا الواعية في الفرد، وفي تنظيم الطاقة الحيوية التي تصنعها الغرائز في خدمة هذا الأنا".
والتاريخ يشهد أن الدين ثابت من ثوابت الشخصية الإنسانية، ليس هذا فحسب، بل إن الدين كان من وراء كل المنجزات البشرية.
يقول ابن نبي: "كلما أوغل المرء في الماضي التاريخي، في الأحقاب الزاهرة لحضارته، أو المراحل البدائية، وجد سطورًا من الفكرة الدينية. ولقد أظهر علم الآثار دائمًا -من بين الأطلال التي كشف عنها- بقايا آثار خصصها الإنسان القديم لشعائره الدينية، أيًا كانت تلك الشعائر".
ليس هذا فحسب، بل إن الحضارات ما أشرقت إلا من أمثال الكعبة أو معبد سليمان، ومن هناك كانت تشرق هذه الحضارات لكي تنير العالم. ولهذا يقرر أن "الدين الذي هو التعبير التاريخي والاجتماعي عن هذه التجارب المتكررة خلال القرون، يعد في منطق الطبيعة أساس جميع التغيرات الإنسانية الكبرى، وإذًا فلن نستطيع أن نتناول الواقع الإنساني من زاوية المادة فحسب".
وفيما يتعلق بشبكة العلاقات الاجتماعية، فإن الدين الذي غايته أن يربط الأرض بالسماء، فإنه حين ينشئ الشبكة الروحية التي تربط الفرد والمجتمع بالله، فإنه في الوقت نفسه يبني شبكة العلاقات الاجتماعية التي تتيح لهذا المجتمع أن يضطلع بمهمته الأرضية، وأن يؤدي نشاطه المشترك، وهو بذلك يربط أهداف السماء بضرورات الأرض.. فهذا القانون الذي بينته الآية (وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون)(الذاريات:56)، لم يرد أن يفصل الناس عن الأرض، ولكن أراد أن يفتح لهم طريقًا أعظم خيرًا ليضطلعوا بعملهم الأرضي.
فالدين يقوم بوظيفة الربط بالله عن طريق هذا الوضع الإلهي، كما أن له أن يفتح آفاقًا أوسع للإنسان حينما يربطه بأبعاد السماء، ويرفع بصره إلى ما بعد حياته الأرضية. فهناك غايتان للدين؛ ربط الصلة بالله، وبناء شبكة العلاقات الاجتماعية التي تدخل بالمجتمع دائرة الحضارة.
وبما أن الديـن سنة مرتبطة بالوجود الإنساني كما سلف، وهو سنة مفتوحة، فإن الفكرة الدينية تبقى تعمل، "وتقوم بدورها الاجتماعي ما بقيت متمسكة بقيمتها الغيبية... أي بقدر ما تكون معبرة عن نظرتنا إلى ما بعد الأشياء الأرضية"، وعندما تفقد هذه القيمة الغيبية، فإنها تترك مكانها، أو تعمل بواسطة بديلاتها اللادينية نفسها، وهــذا ما حدث في الغرب، عندما كانت المسيحية لا تملك بعدًا غيبيًا متماسكًا، فإنها بقيت إطارًا أو بنية تحتية أنتجت الماركسية، والليبرالية وغيرها من البدائل المادية للمسيحية، التي هي في حقيقتها دين بمفهومها العام بما تقدمه من تفسير للرؤية الكونية، وبما تقـدمه من وعود، وبما قامت به من ربط ودفع نفسي لمعتنقيها. فالمادية إذًا مفهومية (أيديولوجيا) دينية في حقيقتها حينما تطرح نفسها بديلاً للدين.
فالدين سنة فطر الله الانسان عليها، والدين وحده هو المركب الحقيقي للقيم الحضارية، وهو يعطي شرارة الانطلاق لتدخل الحضارة في التاريخ، وتتحقق في عالم الإنجاز.
هل اخْتزل الدارسون علم الاجتماع في عبقرية ابن خلدون؟
لماذا عندما يبحث معظم علماء الاجتماع العرب في علم الاجتماع العربي لم يرجعوا نشأة هذا العلم إلى أسبابه، وعوامله التاريخية الاجتماعية الوضعية كما فعلوا عند بحث "نشأة علم الاجتماع الغربي الحديث"، وإنما اكتفوا بالقول الجازم بأنّ "العبقرية الخلدونية" الفردية وحدها منفصلة عن الواقع هي التي أنشأت هذا العلم الاجتماعي المهم؟ فلو قارنا مثلًا مع كانط، لم يرجعوا كل شيء له بل ذكروا مجموعة عوامل وأسباب، وهو نفسه ذكر بعضها.
في الحقيقة، إن التأريخ لنشأة علم الاجتماع في العالم العربي يحتاج إلى توسيع الأفق، وإلى نوع من الموضوعية في تناوله، والخروج من هيمنة المدارس الحداثية التي أرخت له.
فعلم الاجتماع باعتباره علما بهذا الاسم فهو حديث النشأة مع العصر الحديث، وبخاصة مع أوغست كونت الذي سماه "الفيزياء الاجتماعية" سعيا إلى تناول الظواهر الاجتماعية والعلاقات الاجتماعية والمؤسسات الاجتماعية بمنهج يقترب من منهج العلوم الفيزيائية في زمانه، لأنّ في القرن التاسع عشر كان منهج العلوم الطبيعية والفيزيائية نموذجا للدقة والمنهجية ولاستعمال المنهج التجريبي.
لكن علم الاجتماع باعتباره حقلا علميا وموضوعا ومسائل ومناهج حقل قديم ساهمت فيه عقول علمية من حضارات مختلفة، لكن الإضافة النوعية الإسلامية كانت مع ابن خلدون مؤسس علم العمران، والواضع الحقيقي لأسس الدراسة الاجتماعية العلمية للمجتمع ولطبائع العمران.
انظر إلى ابن خلدون ماذا يقول عن العلم الذي أسسه والكتاب الذي ألفه: "غرض هذا الكتاب الأول من تأليفنا، وكأن هذا علم مستقل بنفسه فإنه ذو موضوع وهو العمران البشري والاجتماع الإنساني، وذو مسائل وهي بيان ما يلحقه من العوارض والأحوال لذاته واحدة بعد أخرى، وهذا شأن كل علم من العلوم وضعياً كان أو عقلياً، واعلم أن الكلام في هذا الغرض مستحدث الصنعة، غريب النزعة، غزير الفائدة، أعثر عليه البحث وأدى إليه الغوص".
ويؤكد ابن خلدون أن موضوع العلم الذي أسسه «علم مستنبط النشأة»، وأنه كتب ما كتبه في هذا الصدد من غير أن يستند إلى قول أحد. فقد أدرك بوضوح وضع أسس علم جديد سيشهد توسعاً فيما بعد شأنه في ذلك شأن جميع العلوم التي تبدأ مختصرة ومجملة، ثم تتوسع وتتقدم بالتدريج، بسبب التحاق وانضمام المسائل الجديدة إليها شيئاً فشيئاً،
وقد صح ما تنبأ به ابن خلدون في هذا المضمار، فالمسائل التي عالجها في مقدمته، غدت فيما بعد موضوع اهتمام المفكرين والعلماء، وتكون عنها علمان هامان، هما علم التاريخ وعلم الاجتماع.
ونرجع إلى سؤالكم، لماذا اختزاله في ابن خلدون؟ الحقيقة ليس هو اختزال، بقدر ما هو رجوع إلى المؤسس الأول للعلم.
فإذا كان أرسطو وضع المنطق، والشافعي وضع علم الأصول، والشاطبي وضع علم المقاصد، وماركس وضع المادية الجدلية وكونت وضع علم الاجتماع الحديث فإن ابن خلدون واضع علم العمران؛ الذي هو علم الاجتماع الحديث، مضافا إليه الجوانب الإبداعية الأخرى في العلم التي أهملها علم الاجتماع الحديث بفعل نظرته الاختزالية للظاهرة الاجتماعية.
وهذا لا يقتضي أن قبل أولئك العلماء لم يتناول غيرهم ممن جاء قبلهم تلك العلوم أو بعضا منها، لكنهم يرجع إليهم فضل التأسيس الرسمي للعلم. والله أعلم.