القوارض صنف من الحيوانات التي على قدر التصاقها بالبشر، على قدر محاربتهم لها، لإفسادها معيشتهم وعتوها فسادا في ممتلكاتهم. فما اجتمعوا في مكان إلا وكان وجهتها ومستقرها. وكأن تفريق المجتمع البشري همها وغايتها. وهذا إن كان مبالغة ومجازا في وصف غاية هذه القوارض الحيوانية فهو حقيقة وواقع في وصف القوارض البشرية.

ولكن أمن البشر قوارض؟ أيكون قصد الإنسان محاربة ما فطر عليه؟ أليس هو ذاك الكائن الاجتماعي بطبعه؟

لقد ورد وصف هذا النوع من القوارض عند مالك بن نبي حين قال: "هؤلاء الأساتذة المتساهلون في الحضارة –يقصد الذين يدعون إلى تحرير غرائزنا زاعمين أنهم يحضروننا- هم في الواقع شر أعداء التقدم، إنهم قوارض، يقرضون جوهر الحضارة ذاته، كما تقرض الفئران كومة من القمح، لتحيله غير صالح لشيء."[1]

إن قوام أي حضارة، وتقدم أي مجتمع هو تلك العلاقات الاجتماعية داخله. ومتى تلاشت هذه العلاقات وتبددت لم تقم لهذه الحضارة قائمة. على أننا يجب أن نصحح مفهوم الحضارة أولا، فالحضارة هي الإنسان، لا ما نراه من تطاول البنيان.

ولا زال هذا الإنسان موضوع علوم غربية تحاول فهم هذا الكائن وتحليل علاقاته، تلك هي العلوم الإنسانية. وما سبقنا الغرب لها إلا من جهة تخصيصها بالبحث، أما عندنا أهل الإسلام فكل ما يتعلق بالإنسان مبثوث في ثنايا كتاب "لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ"[2].

فإذا كانت العلوم الإنسانية عبارة عن نظريات واجتهادات تخضع للتجريب، فعندنا في ديننا قطعيات ويقينيات تصلح للتطبيق وتجعلنا أحق بإنشاء علوم الإنسان من غيرنا. وبالتالي تجعلنا أحق وأجدر بالتحضر من غيرنا، والماضي شاهد على زعمنا. وأما إن كنا قد تأخرنا فلأسباب نخص منها في هذا المقال إلفنا عيش القوارض بيننا، البشرية أعني لا الحيوانية. أولئك الذين قصدوا أس الحضارة "الإنسان" فأرادوا أن يقطعوا كل علاقاته، والتي سموها "قيودا"، معتبرين أنفسهم دعاة الحرية، مدركين أن قوام حضارته هو تلك العلاقات. ولذلك عرف ديورانت الحضارة بقوله: الحضارة نظام اجتماعي يعين الإنسان على الزيادة من إنتاجه الثقافي.[3] فقالوا موهمين النصح له: أشبع رغباتك، وأطلق العنان لغرائزك، وإلا تحولت إلى مجموع عقد نفسية تقف حاجزا بينك وبين تقدمك وتحضرك، وإذا أردت دليلا على ذلك فأمامك الغرب المتقدم المتحضر... وهلم جرا وسحبا لحجج واهية خادعة لضعاف النفوس، الذين كان أول اتصالهم بثقافتهم أن عابوها وسفهوها دون أن يعرفوها ويسبروا أعماقها.

هَمُّ هؤلاء هو أن يجعلوا هذه الأمة لا في عير ولا في نفير، فلا هي تتقدم ولا هي تحافظ على ما ميزها، وما يحسدها عليه غيرها من الأمم التي وصف الله تعالى داءها "حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ"[4]، وشرح لنا خطتها "لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا"[5]، وجلى لنا غايتها "حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ"[6].

فهؤلاء القوارض هم أخطر معول يهدم ما بقي من الأمة، وحسبك من الشر أنها تعيث فيها فسادا وتلقى في سبيل تحقيق ذلك حماية ووقاية داخليا وخارجيا. 

فلم تعد هذه القوارض ترضى بالغيران وثقوب الحيطان، بل ارتقت المنابر ونظمت المؤتمرات واللقاءات وأسست الجمعيات. 

ومن لطف الله بنا أن جعل سيماهم في أسماء جمعياتهم فلا تكاد تجد عنوانا يضم "بلا حدود" إلا وتعرفهم بسيماهم يدَّعُون نقاشا علميا، ومنفتحا لكن مع غير أهل الإسلام.

وليس الغرض أن نعمل أنفسنا في الوصف، ولكن الغاية الوصول للخلاص من مثل هؤلاء، ولا مخرج إلا بمبيد أو سم يقضي على هذه القوارض وفراخها. ومع الأسف عندنا ولكن ما زلنا عاجزين عن استعماله أو لعله يحال بيننا وبينه. في اعتقادي أن خير الدواء هو هذا الذكر المحكم الحكيم، أن نتدبره، أن نثوره وقبل ذلك أن نعتقد أنه هو مصدر معرفتنا لا جزءًا منها. فلا يكون ذكر الآيات استشهادا وتحسينا، ولكن كما يجعلون أقوال سلفهم حقائق علمية، ننطلق نحن من آيات ربانية لا شك عندنا في صدقها وعلميتها، ثم نحسن استنباط ما يوقف زحف هذه القوارض وتكاثرها.

فإن قالوا حرية قلنا يقول ربنا: " قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ"[7] فكلنا بشر لا سلطة لأحد على أحد.

وإن قالوا حق الاختلاف وقبول الآخر قلنا جعله ربنا سنة في خلقه: " وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ"[8] ولا يأتوننا بشبهة أو ادعاء إلا جئناهم من عند ربنا بالحق وأحسن تفسيرا.

فقط واجبنا اليوم أن نضع كتاب ربنا في مكانه الحق الجدير به. أن يكون رأس المعرفة ومصدرها، أن يكون معتقدنا أن فيه النجاة، ليس فقط لأمتنا بل للإنسان كل الإنسان، لأن الرب "رب العالمين الرحمن الرحيم" والرسول صلى الله عليه وسلم "رحمة للعالمين"، ومن تمام هذه الرحمة أن نوقف هذه القوارض البشرية، فإما أن تعود لأصل خلقتها وإما أن تموت بسمها، فما دامت تتحرك بيننا فلن نزال نبني وهي تهدم ونصلح وهي تفسد قارة بذلك أعين حسادنا ومخالفينا.