إن ما منّ الله به تعالى على هذه الأمة الأمر الراشد، الذي حثّ فيه على التحصيل والتجديد، وإمعان البحث لاستخراج الرأي السديد، وهذا ما أنبت الحياة المنهجيّة التي تأصّلت فيهما معالم التفوق والترشيد.

ترتبط حياة الإنسان منذ عصورها الأولى بتشريعات مختلفة المصادر–شرعية ووضعية- تنظم مختلف جوانب حياته؛ وذلك من أجل العمل على تنميط العلاقات الإنسانية بما يكفل الخير للإنسان والإنسانية، ليتأتى مرتكز الاختلاف في هذه التشريعات مبنيا على القاعدة التي ترتكز عليها في فلسفتها ومقاصدها، وهو ما يستلزم استيعابا لمسألة النسبية والتناسب، وذلك على نحو يكفل تحقيق المستهدف والمقصود في تنظيم حياة الإنسان وحفظ مصالحه وعلاقاته. وبذلك فإن التشريعات التي تنظم حياة الإنسان وترعى حقوقه قد ارتبطت به ارتباط نشأة، وأخذت في التجدد بتجدد حياته، فهو ما زال يبحث عما يصلح من شأنه وينظم حياته ببصيرة ومن دون بصيرة.

إن المولى عز وجل الذي خلق مخلوقاته لم يتركهم دون تنظيم لعلاقاتهم، وإرساء لضوابـط حقوقهـم وممارســاتهم بما يحفـظ عليـهم إنسانيتهـم التي كرمهـم آدم على سائـر المخلوقـات؛ ومن أجـل ذلك أنـزل العديـد من الكتب التي قرر فيها التنظيمات التي تنظم حياة الإنسان حتى ختمها بخير تبيان، وهو القرآن الكريم الذي نسخ بها كل الشرائع التي قبله، وأنزله على خاتم رسله محمد (صلى الله عليه وسلم).

ومن المعروف أن النظام العالمي خلال الحقبة التي عقبت تفكك الاتحاد السوفيتي عرف تحولات بالغة، شغلت المجتمع الدولي ووضعت المفكرين والسياسيين أمام ظـــواهر ومفاهيم جديدة منها الأمن الإنساني، فبعد تطرقنا لظاهرة الإرهاب وتأثيرها على دول العالم أجمع، بدا لنا أن هذا التحدي قد يمس ويؤثر سلبا على كيان الدولة كوحدة رسمية في التحليل بالرغم من انعكاساته السلبية على الأفراد، بمعنى أنه ارتبط كتهديد لأمن الدولة القومي أكثر من أمن الأفراد، لذا سنحاول في هذا البحث التطرق لمتغير أو تهديد يمس أمن الأفراد مباشرة باعتبار الفرد مستوى للتحليل، ويتمثل هذا التهديد في مدى توفر مؤشرات ما عرف بـ"الحكم الراشد والتنمية المستدامة" داخل النظم السياسية ودخول العالم في عصر العولمة شاع داخل الأوساط الأكاديمية المهتمة بالشؤون الأمنية استخدام هذين المصطلحين، والتعامل معهما كمطلبين ضروريين يجب توافرهما داخل الدول لتحقيق أمن واستقرار الأفراد بالدرجة الأولى، وكذلك أمن الدولة وتماسكها داخليا. تماشيا مع المستجدات والتحولات التي عرفها النظام الدولي في هذه المرحلة.

ولذا فقد ارتبط تنظيم العلاقات في الحياة الإنسانية منذ نشأة التجمعات البشرية بقواعد تنظيمية من شأنها أن تكفل حماية للعلاقات، وتضع حدودا للحريات، وهي في الغالب تنظم بقواعد قانونية قررتها المدونات والتشريعات عبر التاريخ وما زالت، وإن اختلفت فيما بينها بالنسبة للمصدر الذي يقرر الحقوق ويضع حدودا لتنظيمها، وخلاف ما يتصل بذلك.

ومنذ نشأة هذه القواعد التي تُعنى بحقوق الإنسان التي قررتها المجتمعات من أجل حماية إنسانية الإنسان وكرامته من الانتهاك، وهي تبرز ما بين قيما أخلاقية ينبغي أن ينبع الالتزام بها من الداخل، وما بين قانون ملزم من شأن انتهاك قاعدته ترتيب تجريم لفعل الانتهاك، ومن ثم رتبت بعض التشريعات عقوبات من أجل حماية هذه القواعد التي تنظم حقوق الإنسان من الانتهاك، وذلك مع اختلاف المصادر والمقوّمات التي تقوم عليها هذه الحقوق.

وإذا كانت مقاصد الشريعة تتمثل فيما تقرر حمايته من الانتهاك وفق مراتبه ومستوياته، وأنه لأجل حماية هذه المقاصد قد حدد ونظّم التشريع الرباني هذه الحقوق التي ينبغي أن يتمتع بها الإنسان، فإن التشريعات الوضعية الأخرى التي تدّعي مصدريتها من ضمير الإنسان الأعمى، والذي ارتقى بإنسانيته من جانب، وانتهكها من جوانب أخرى، إذا كان ذلك فإن هذه العلاقة ما زالت تثير جدلية حمقاء عرجاء ليس من شأنها أن تتضارب مع مقاصد الشريعة العليا بسمو مصدرها وإجماع اجتهادات الفكر والفقه على تقريرها، وذلك استمدادا من النصوص والتشريعات في الكتاب والسنة، حيث ربط العلماء المعاصرين حقوق الإنسان بمقاصد الدين، فلا إقرار ولا تنظيم لها إلا بتشريع رب العالمين.

مشكلة الدراسة

نظرا لكون الحكم الراشد (الديمقراطي) حق من حقوق الإنسان وهي من الحقوق السياسية فإن السؤال الرئيسي والهام. ما هي العلاقة بين الحكم الراشد والتنمية الاقتصادية المستدامة؟ وإذا كانت الشعوب والحكومات تعترف بأن الشباب هم امل الامة والحاضر والمستقبل وعصب الأمة الإسلامية. 

السؤال هنا: كيف يكون هناك دور للحكم الراشد في تمكين الشباب في إدارة الحياة السياسية داخل أوطانهم؟ فإن الإشكالية تكمن عندما تقرر أطرافا فكرية صلاحية نظم دون أخرى من النظم الوضعية. 

وفي هذه الدراسة لا تتم مناقشة مدى صلاحية النظام الإسلامي من عدمه، فهو موضوع لا يقع محلا للنقاش، وما يتم تناوله يتصل بإبراز الجوانب الجدلية المثارة حول موضوع حقوق الإنسان، والشبهات المثارة المتمثلة بانتهاك هذه الحقوق في التشريعات الربانية؛ وذلك سعيا إلى إثبات عدم صلاحيتها لتنظيم حياة الإنسان، وهو ما ستتم معالجته كمشكلة للبحث في عدد محاور هذه الدراسة.

وتتلخص مشكلة الدراسة في الحاجة إلى دراسة علمية تحليلية تتناول نظرة الإسلام للتنمية الاقتصادية من خلال ما ورد في القرآن والسنة المطهرة من مفاهيم تعبر عن التنمية الاقتصادية من وجهة نظر شرعية. ومن خلال أفكار وآراء الفقهاء والمفكرين المسلمين ونظرتهم لمفهوم التنمية من منظور إسلامي. من أجل الوصول إلى القواعد الشرعية التي من خلالها يمكن الاجابة على، هل هنالك مفهوم إسلامي محدد للتنمية الاقتصادية؟ وهل للتنمية في الإسلام مبادئ تلتزم بها؟ وأهداف تسعى لتحقيقها؟ وهل هنالك خصائص تميزها عن الأفكار الوضعية السائدة؟