جرى على ألسنة الكثير من الناس إن جائحة كورونا ستقلب الموازين رأسا على عقب؛ وان عالم ما بعد كورونا لن يكون حتما مثلما كان قبل كورونا. والحقيقة أن هذا القول فيه قدر من الصحة، ولكنه لا يخلو من المبالغة في ذات الوقت. ذلك أن كورونا شأنها في ذلك شأن طواعين وجوائح وكوارث طبيعية أخرى ضربت البشرية قديما وحديثا ستمر آجلا أم عاجلا، ولن تكون نهاية التاريخ أو بدايته، ولكنها بكل تأكيد ستترك ندوبا نفسية وآثار سياسية واقتصادية واجتماعية واسعة النطاق داخل الدول وفيما بينها، وفي نظام العلاقات الدولية.
التقدم العلمي، وتشابك مراكز الأبحاث في مختلف دول العالم وشعور الجميع بالخطر الماحق الذي يتهدد حياة البشر، سيساهم كل ذلك بشكل أو بآخر في تسريع الخطى نحو اكتشاف لقاح فعال لهذا الوباء، ولكن قبل الوصول إلى ذلك المبتغى، الكثير من المياه ستجري داخل المجتمعات والدول.
المؤكد أن العالم مقبل على تحولات كبرى ومخاضات عسيرة، ستختلط فيها الأزمات الاقتصادية بالمطالب السياسية والاجتماعية، والصراعات الدولية بالنزعات الشعبوية ومطالب التحرر بالإرهاب والأزمات الاقتصادية والسياسية وغيرها.
يتوجب لفت الانتباه هنا إلى أن التحولات السياسية سواء أكانت محلية أم دولية لا تولد بين عشية أو ضحاها، كما إنها لا تسير وفق وتيرة خطية ومنتظمة، ذلك أن عالم السياسة كما يذكّرنا الفيلسوف الألماني والحقوقي كارل شميت لا يخلو من العرضي والطارئ، وهذا ما يدفعه إلى الامتناع عن التنبؤ الحسابي الدقيق. إذ لا أحد كان يتوقع أن يشهد العالم هذه الجائحة بمثل هذه السرعة، أو تغلق الدول مطاراتها وموانئها ومصانعها وتخلي مدنها بالكامل تقريبا..
كما أن الحروب تلعب دورا حاسما في هز وتيرة الجمود داخل المجتمعات وبين الأمم، أو هي أداة التاريخ غير الواعية على ما يقول ماركس، فإن الكوارث الطبيعية والبيولوجية من طواعين وأوبئة وجوائح شأنها في ذلك شأن الأزمات الاقتصادية والسياسية وغيرها، تلعب دورا مهما، وأحيانا حاسما، في هز الجمود وتحريك التوازنات داخل الدول وفيما بينها.
وقد غدا معهودا اليوم استعارة لغة الحرب عند الحديث عن أزمة كورونا من قبيل. نحن في حرب، ونحن في مواجهة مع العدو، مع استحضار مقولتي النصر والهزيمة.
ولكنّ الواضح أن كورونا قد شكلت قاموسها الاصطلاحي الخاص الذي دخل الحقل العام وكل البيوتات تقريبا، من قبيل التباعد الاجتماعي، الاحتكاك البدني الاجتماعي، الحجر الصحي، العزل الذاتي، الحجر الذاتي، تسطيح الخط البياني flattering the curve ، وهذا يعني إنها ظاهرة قوية فرضت نفسها على الساسة والمثقفين وعامة الناس على السواء. ويكفي أن يلاحظ المرء حجم التغطيات الإعلامية التي تستأثر بها كورونا في وسائل الإعلام اليومية، وما يقال في مجالس الناس وبيوتهم حتى يدرك هذا الأمر.
المؤكد هنا أن الدول التي تبدي نجاعة في إدارة أزمتها وتظهر قدرة على تحمل الخسائر البشرية والمادية، ستخرج أقوى. وفي الحد الأدنى ستصعد درجات في سلم التنافسية الدولية، مقابل ذلك فإن الدول التي لم تنجح في السيطرة على الأزمة، أو لم تقو على تحمل تبعات وارتدادات هذه الجائحة، ستخرج ضعيفة أو أكثر ضعفا وهشاشة. هذا الأمر أشبه ما يكون بحرب ستخرج منها جيوش منتصرة وأكثر قوة ومناعة، وأخرى مهزومة، أو في الحد الأدنى مثخنة ومنهكة. والحقيقة أن عالم السياسة ليس بعيدا عن عالم الحروب والجيوش، وفعلا كورونا هي أشبه ما يكون بحرب ساخنة وشرسة ، ولكن من دون جيوش مرئية أو عدو واضح الوجه والمعالم، ومن دون أسلحة خفيفة أو ثقيلة، ولكنها تظل في نهاية المطاف سلاحا بيولوجيا مجهريا متحركا، ولكنها أكثر خطورة وفتكا من الأسلحة النارية.
الآثار النفسية والفلسفية
ترسّخت قناعة عامة أن عصرنا الراهن قد طرد شبح الأوبئة والجوائح والأمراض المعدية والعاهات المهلكة إلى غير رجعة، وأن تقدم نطاق العلوم والبحوث الطبية التي دخلت الطور الجيني قد جعل ذلك من قصص الماضي البعيد. ولعل اخر هذه الأوبئة التي مازالت تحتفظ بها ذاكرة الأجيال نقلا عن الآباء والأجداد هي ما عرف بالأنفلونزا الأسبانية (رغم إنها كانت أوروبية بامتياز) سنة 1918/1919.
التصور السائد في الأدبيات الأنوارية والتي مازالت حاضرة بقوة إلى يومنا هذا، هو أن الحداثة بما هي ترشيد عقلاني مستمر واعتماد مطرد على المعرفة العلمية ستحرر الإنسان من القيود وتجعله منه سيدا على نفسه ومالكا للطبيعة بتعبير ديكارت، وأن هذا الإنسان كلما صعد في سلم التعقل، كلما تحرر من آفة الخوف ونزع عنه حجاب الجهل، وفكك القيود التي تكبح جماح حريته وفعله.
فإذا كان عالم الإنسان القديم على ما يقول الأنواريون مليء بما يعتبره أسرارا ملغزة، وتغشى كيانه مشاعر الرهبة والخوف من الطبيعة، فإن عالم الإنسان الحديث بلا أسرار ولا أعماق ، لأنه بكل بساطة عالم فيزيائي خالص كتب بلغة رياضة على حد تعبير لايبنيتز.
رسخت التقاليد الأنوارية الكثير من اليقينيات الفكرية التي كانت عبارة عن لاهوت معلمن، ومن ذلك الشعور المتعاظم بمركزية الإنسان مسنودا بفلسفة التقدم، باعتبار أن تاريخ البشرية هو تاريخ صعود الوعي الإنساني نحو الأفضل والأحسن على طريقة كوندورسي ومن بعده هيجل القرن التاسع عشر.
صحيح أن فلسفة الحداثة الواثقة من نفسها قد فقدت الكثير من صلابتها وبريقها لصالح نزعة تفكيكية وعدمية، منذ أن وجه لها فردريك نيتشة مطرقته الحديدية، ولكن هذه النزعة بقيت أقرب ما يكون إلى تيارات الاحتجاج السائدة في أروقة الجامعات وأوساط النخبة ولم تتحول إلى وعي جمعي، وقد بقيت السياسات العامة التي يقودها رجال الدولة وقادة الجيوش والأجهزة وبيروقراطيتها تستند إلى الترشيد العقلاني وفق الحسابات الكمية المنضبطة، أي وفق منطق الدولة الترشيدي.
كما إن أزمة كورونا قد أعادت شبح الخوف والشعور بعدم اليقين مجددا، حيث يقف الإنسان عاجزا أمام آفة المرض وأن أقصى ما يمكن أن يفعله في مواجه ذلك، هو التخفى في البيوت هربا. العلوم الطبية وقفت إلى حدّ الآن على الأقل، عاجزة عن مواجهة هذا الوباء الشرس، والجميع يترقب في اللقاح المخلص، والجميع يتقصى أخبار الأدوية والأمصال التي دخلت الاختبار.
يضاف إلى كل ذلك إن هذا الوباء الشرس قد أقحم فكرة الموت مجددا في قلب المجتمعات الغربية، إذ بات من المألوف أن يرى الناس عشرات صناديق الموتى تشق قلب المدن الأوروبية باتجاه المقابر، ومن دون طقوس جنائزية، وأحيانا من غير قداس أو باقات زهور أو ملابس حزن سوداء.
كل ما في المدنية الحديثة بصخبها وضجيجها ومعاملاتها المالية وأسواقها وبورصاتها وأضوائها الساطعة توحي بالحياة، وكأنها صنعت لإثبات الانتصار الأزلي على الموت، بيد أن كوفيد 19 قد أدخل إليها رائحة الموت من غير سابق إنذار. قلّ وندر أن تجد عائلة في أوروبا وأمريكا ليس لها قريب أو جار أو أحد متساكني نفس العمارة لم يصب بكوفيد 19.
بين الاقتصاد والإنسان
طغى على الساحة السياسية وفي كبريات العواصم الغربية ضرب من الجدل في كيفية التعاطي مع موضوع هذه الجائحة الفجئية، وكيفية التوقي منها. فقد عمل ترامب على التهوين من شأن ما اسماه الفيروس الصيني، زاعما أن من يروجون لهذا الخطر يقعون في التهويل، وهم يقصدون من وراء ذلك التقليل من حظوظه في الفوز الانتخابي، ويسعون إلى ضرب الاقتصاد الأمريكي المنتعش في مقتل. أما رئيس الوزراء البريطاني بوريس جونسون فقد تبنى في البداية مع ما أسماه بمناعة القطيع، قبل أن يضطر بعد ذلك للتراجع أمام انتشار العدوى على نطاق واسع.
الجدل الذي يدور هنا، لا يتعلق بمجرد خلاف سياسي أو علمي في كيفية التعاطي مع هذه الجائحة العالمية، بقدر ما يتعلق بالفلسفة العامة التي تقف خلف هذا النقاش السياسي والأخلاقي مؤداه iنا: هل باتت الأولوية للاقتصاد والمنافع أم للإنسان أولا وآخرا؟
هذا لا يعني أن الموقف الذي تبناه ترامب كان مؤسّسا فكريا وفلسفيا، بقدر ما كان الرجل يعبر بالسجية، يعبر عن منزع رجل أعمال براغماتي وسياسي مكيافيلي تشبع بالقيم النفعية Utilitarianism من قلب المنافسة الاقتصادية والصراع السياسي في الحلبة الأمريكية. وفي هذه الدوامة الساخنة فان مسالة القيم أو مكانة الإنسان والحياة والموت لا قيمة لها أمام حسابات الربح والخسارة والأرقام والمضاربات المالية والبيانات الاقتصادية الباردة.
أما نظرية مناعة القطيع التي روج لها رئيس الوزراء البريطاني بوريس جونسون في البداية والتي اضطر إلى سحبها لاحقا، فهي نظرية مستوحاة من الأنفلونزا الاسبانية التي اجتاحت أوروبا سنتي 1918-1919.هذه الرؤية تعبر عن الاتجاه اليميني لجونسون والمحيطين به من المحافظين والتي تعطي الأولوية المطلقة للسوق وحركة الاقتصاد وتبادل الأموال على أرواح البشر.
ملخص هذه الرؤية التي روج لها جونسون أن أجسام المواطنين تكتسب بعامل الوقت نوعا من المناعة الذاتية في مواجهة الأمراض والأوبئة ، مع قبول حقيقة مرة ولكنها ضرورية، وهي تلف نسبة من الأرواح البشرية من بين جمهرة "القطيع" لا تتوفر على المناعة المطلوبة،مقابل ضمان حركة السوق واستمرار عجلة الاقتصاد. ولذلك لم يتردد بوريس جونسون في صدم الرأي العام البريطاني بالقول إن الكثير منكم سيفقدون أبناء وأقارب، ولكن لسوء الحظ أن جنسون نفسه آلت به عدوى كورونا إلى مركز العناية المركزة ووقف على حافة الموت.
والحقيقة أن هذه النظرية المنحدرة من الذرائعية الانجلوساكسونية، لم تكن تمتلك مقومات الصمود أمام الرأي العام البريطاني والغربي عامة، لسبب بسيط هو أن ما كان مقبولا شعبيا قبل قرن أو قرنين من الزمن، مع الأنفلونزا الاسبانية وما قبلها، لم يعد مقبولا اليوم. فمع تقدم الطب الحديث والرعاية الصحية وتقدم معدلات الحياة، وصعود ما يسمى بمجتمع المتعة والتمركز حول الجسد، ليس من اليسير على الشعوب التعايش مع مشهد الموت "الموسع" الناتج عن الأوبئة والجوائح المهلكة. كما أنه من العسير ابتلاع نظرية الانتقاء الطبيعي والبقاء للأصلح الداروينية، لسبب بسيط هو إن كل فرد في هذه الحالة سيرى نفسه معنيا بلعبة الانتقاء السلبي وخطر الموت الذي يتهدده قبل غيره..
من المؤكد هنا أن الكثير من النقاش سيجري في الأوساط الفكرية والإعلامية وحتى السياسية في الديمقراطيات الغربية، حول قضايا السوق والمنفعة ودور الدولة في القطاعات غير الربحية من تعليم وصحة وفي حماية الفئات الضعيفة وغيرها، وقبل ذلك حماية أرواح وأبدان المواطنين. المعادلة التي فرضتها كورونا وربما ستثير النقاش، وتوجه المسالك السياسية والاقتصادية لسنوات قادمة سهنا: هل الأولوية للإنسان وضمان صحته وتعليمه ورفاهه العام؟ أم الأولوية للأسواق والاستثمار والبورصات والبنوك؟
الواضح أن عقيدة السوق التي سادت خلال العشريتين الأخيرتين ستتراجع لصالح الدور الاجتماعي والتعديل للدولة، وأن اتساع الفوارق الاجتماعية وتوحش الرأسمالية وشدة نهمها سيفرض بالضرورة هذا التوجه.
من التعددية القطبية إلى التنافسية الحادة
لقد غدا مسلما به إننا نعيش واقع تعددية قطبية منذ سنوات، وحتى الأمريكان أنفسهم بدؤوا يسلمون بذلك، وما عادوا يشيعون مقولة أحادية الزعامة الأمريكية. أما نظرية نهاية التاريخ التي روج لها فوكوياما مع انقضاء الحرب الباردة، فقد اختفت أو كادت، من الأوساط الأكاديمية والسياسية الأمريكية، إن لم نقل إنها أصبحت تثير التندر.
المؤكد هنا أن كورونا سترسخ واقعا دوليا، هو أصلا بصدد التشكل، وتبلورت الكثير من ملامحه وشخوصه خلال العشريتين الأخيرتين على الأقل؛أعني بذلك رسوخ حالة التعددية القطبية، وأن كل ما سيفعله الكوفيد 19 لا يزيد عن تعميق واقع هذه التعددية القطبية، مع إعطاء مزيد من الفرص لصعود الصين وتراجع الولايات المتحدة الأمريكية.
بيد أن ذلك لا يعني بالضرورة أن الصين ستحل آليا محل الولايات المتحدة الأمريكية، بل الأرجح أن تظل أمريكا تتصدر الريادة العالمية لعقود قادمة من الزمن، بالنظر إلى مستوى انتشارها العسكري في المضايق والبحار واليابسة، وامتداد قواعدها العسكرية الضخمة، وتقدم جامعاتها ومراكز بحوثها مقارنة بالدول المنافسة، واعتماد الدولار عملة رئيسية في تبادل الطاقة والتجارة العالمية في إطار ما يعرف بنظام برنتن. بيد أنها ستلقى منافسة جدية من الصين، وبدرجة أقل من الروس وقوى أخرى صاعدة، مثل الهند والبرازيل وغيرهما.
الولايات المتحدة أنهكت نفسها بكثرة الحروب والتدخلات العسكرية المشطة. من حرب الخليج سنة 1990 إلى حرب يوغسلافيا سابقا سنة 1999ثم أفغانستان سنة 2001 إلى حرب العراق سنة2003 ، وأخيرا التدخلات الجزئية في سوريا والعراق مجددا، إلى الانتشار جنوب الصحراء عبر ذراع الافريكوم وغيره.
إن المفارقة العجيبة هنا، إذا استخدمنا مصطلح هيجل مكر التاريخ، فإن السنوات التي أعلنت فيها القوة الأمريكية تفوقها الكامل ودخول الأحادية القطبية من دون منازع، هي نفسها الفترة التي بدأت تتشكل فيها معالم التعددية القطبية.
فوتت الولايات المتحدة الأمريكية على نفسها فرصة تاريخية لتدارك الأخطاء الإستراتيجية القاتلة التي تورط فيها المحافظون الجدد، بكثرة حروبهم العبثية في الشرق الأوسط. إلا أن صعود ترامب إلى البيت الأبيض كان بمثابة العود على بدء. أي الرجوع إلى النقطة التي توقف عندها المحافظون الجدد. تهديد مستمر باستعمال القوة مع لغة استفزازية تتمثل في نقض للالتزامات والمواثيق الدولية، واستخفاف بالشركاء والحلفاء قبل الخصوم. وأضيف إلى ذلك أخيرا، مع أزمة كورونا قرصنة الأجهزة الصحية والكمامات الواقية عن الشركاء الأوروبيين والكنديين وغيرهم، بما هز من صورة الولايات المتحدة الأمريكية في العالم أكثر.
وفي الوقت الذي كانت الولايات المتحدة الأمريكية تغرق في حروب استنزاف عبثية في الشرق الأوسط، الذي لم يكن يمثل خطرا جديا من الناحية العسكرية، كان الصينيون منهمكين في تطوير اقتصادهم وقدراتهم التسليحية وتوسيع حضورهم التجاري العالمي في إفريقيا وآسيا ومختلف قارات العالم.
استفادت الصين من سياسة الانفتاح الخارجي التي دشنها الزعيم ، دينغ شياو بنغ، منذ نهاية السبعينات بعد عقود طويلة من العزلة، وقد سعت ضمن سياسة الانفتاح هذه الى اكتساب الخبرة التكنولوجية الغربية وحسن إدارة اقتصاد السوق والانفتاح على العالم الخارجي . كل ذلك كان ومازال يجري تحت عنوان اشتراكية بخصائص صينية: وهي في الحقيقية رأسمالية بخصائص صينية.
بل الأهم من ذلك إن الصين نجحت إلى حد كبير في توجيه مسار العولمة لصالحها بعدما تحولت إلى مصنع كبير للعالم، إلى الحد الذي بات من الصعب الاستغناء عن السوق الصينية وصناعتها الضخمة في إطار ما بات يعرف بسلاسل التزود Chaines supply
كانت هناك حسابات وتكتيكات متناقضة بين الغرب والصين. كان الغرب يراهن على احتواء الصين والاستفادة من ضخامة سوقها عبر التخفيف من صلابتها الأيديولوجية، وإدماجها تدريجيا في النظام الرأسمالي العالمي، وكان الغرب مسلحا هنا بخبرته السابقة في التعامل مع المنظومة الشيوعية في الاتحاد السوفياتي، ونظريات العلوم الاجتماعية والسياسية بحتمياتها التاريخية، التي تبشر بأن النظام الشيوعي لن يصمد كثيرا أمام منطق الرأسمالية الكاسح، وفق مقولة ماركس في البيان الشيوعي في معرض حديثه عن طبيعة النظام الرأسمالي: " كل ما هو صلب يتبخر في الهواء، وكل ما هو مقدس يتحول إلى علماني مدنس."
أما الصين على الجهة الأخرى، فكانت تراهن على غلبة الروح الصينية في نهاية المطاف: أي طول النفس والقدرة على استيعاب كل ما هو خارجي وبعيد، وصهره داخل الوعاء الصيني الواسع، مستعينة في ذلك بخبرتها التاريخية في التحصّن والدفاع. وفي الأخير نجحت الصين في احتواء الغرب واستيعابه، مستفيدة من ضخامتها الديمغرافية ومن حصانتها الثقافية واللغوية، بدل أن يتم احتواؤها واستيعابها في المنظومة الليبرالية، والأمور كما يقال بخواتمها.
يبدو أن الغرب هنا أمام خيارين أحلاهما مر، فأما أن يعترف بواقع التوازنات الدولية الجديدة وإعادة ترتيب الوضع الدولي على ضوء صعود الصين، مثلما فعل مع الاتحاد السوفييتي في قمة يالطا سنة 45 التي جمعت روزفلت وتشرشل وستالين. أو أن يدخل في مواجهة إستراتيجية مع الصين، ومثل هذه المواجهة ستكون كلفتها كبيرة جدا على الاستقرار العالمي ومصالح الغرب نفسه قبل غيره.
ما هو مؤكد هنا إن دخول الولايات المتحدة الأمريكية في صراع استراتيجي حاد مع الصين من شأنه أن يلحق ضررا بالغا بمستوى العيش والرفاه الأمريكيين، بحكم إن اقتصادها بات يعتمد إلى حد كبير على شبكات التزود من الصين وصناعتها الضخمة التي لا يمكن الاستغناء عنها.وقد بينت جائحة كورونا نفسها حاجة أمريكا إلى الصين في مجال التجهيزات الصحية والأدوات الواقية البسيطة وغيرها.
ما هو واضح إلى حد الآن، إن الولايات المتحدة الأمريكية مازالت تزاوج بين سياسة الاحتواء والمواجهة من دون أن تحسم أمرها بصورة واضحة ونهائية. فرغم الإجراءات الحمائية التي انتهجها ترامب، واللغة العدائية التي يتحدث بها، إلا أن المؤسسة العسكرية والسياسية الأمريكية مازالت حذرة من الإقدام على مواجهة شاملة مع الصين لأنها تدرك جيدا حجم المخاطرة والمجازفة التي تتبع مثل هذا القرار.
وإن كان من الواضح إلى حد الآن، وجود محاولات مستمرة لتطويق الصين في البحر الجنوبي وما بعده، عبر انتشار عسكري واسع النطاق في المحيطين الهندي والهادي مع تسليح تايوان واليابان وكوريا الجنوبية.
وقد سبق لأوباما أن دشن سياسة الانسحاب من الشرق الأوسط، بغرض التفرغ لمواجهة الخطر الصيني، في محاولة منه لتدارك ما يعتبره أخطاء إستراتيجية وقع فيها بوش الابن، وبموازاة ذلك تسعى أمريكا إلى إحداث توازن مع الصين من خلال دعم الهند عسكريا واقتصاديا باتجاه أن تكون "مصنعا" أرخص، وأكثر تنافسية من الصين.
مقابل ذلك تعمل الصين من جهتها على تطويق هذا الطوق من خلال توسيع انتشارها العسكري في بحر الجنوب الصيني، وبناء الموانئ وعقد الاتفاقيات التجارية مع الدول المجاورة والقريبة من حدودها البحرية، ثم عقد تحالفت تكتيكية مع الروس والباكستانيين والإيرانيين ومحاولة تجميد مناطق الصراع وبؤر التوتر ما أمكن.
والأهم من كل ذلك إن الصين بدأت تكتسب ثقة ثقافية متزايدة في نفسها وفِي دورها العالمي . إذ تبدو النخبة الصينية اليوم أكثر اقتناعا بالدور العالمي للصين، وهي تسير بخطى حثيثة نحو ترجمة هذا التوجه عبر المشروع الضخم لطريق الحزام والحرير الذي يربط الصين بمختلف قارات العالم،ويتيح لها التزود بالطاقة وفتح الأسواق وتصدير البضائع.
الرؤية الصينية واضحة هنا وتقوم على مراحل متدرجة: بناء الداخل الصيني أولا من خلال الارتفاع بقدراتها العسكرية والاقتصادية، ثم حماية حدودها ومصالحها في بحر الصين وجنوب شرق آسيا، ثم التمدد خارجيا عبر التجارة والاستثمار في البنية التحتية والصناعة وغيرها.
بل إن الصين أضحت تنافس الولايات المتحدة الأمريكية جديا في مجال الابتكار العلمي، إذ لأول مرة تتقدم على الولايات المتحدة الأمريكية هذه السنة، كما انتزعت السبق في مجال التواصل الرقمي من الجيل الخامس 5G.
يتبين من خلال قراءة الأرقام والمعطيات أن النصيب الأكبر من الثروة يتجه بصورة تصاعدية من الشمال، أي من الولايات المتحدة الأمريكية و كبريات العواصم الأوروبية، نحو المجال الآسيوي، وخصوصا الصين.
صعد اقتصاد الصين من 4% من الناتج الإجمالي العالمي في عام 2000 ، أي بقيمة 1.2 تريليون دولار، إلى ما قيمته 12.3 تريليون دولار سنة 2018، لتشكل نسبتها 15% من الاقتصاد العالمي، وبذلك قفزت من المرتبة السادسة عالميا إلى المرتبة الثانية.
تجاوز الناتج إجمالي المحلي الصيني 6.5 تريليون دولار أمريكي في النصف الأول من سنة 2019.ونما اقتصادها بنسبة 6.2% في الربع الثاني 2019 مقارنة بـ6.4% في الربع الأول من ذات العام على أساس سنوي، بينما نما بنسبة 6.3% في النصف الأول من 2019.
وتعتبر الصين أكبر مستورد للنفط الخام في العالم بنحو 10 ملايين برميل يوميا، وثاني أكبر مستهلك له بواقع 12.5 مليون برميل يوميا، أي بنسبة 14% من حجم الطلب العالمي على النفط يوميا، وثاني أكبر اقتصاد في العالم بعد الولايات المتحدة.
ووفقا للتقديرات، فإن اقتصاد الصين سيتفوق على نظيره الأمريكي من حيث حصته من الناتج المحلي الإجمالي، بحلول عام 2029 بقيمة ناتج محلي تبلغ 25.6 تريليون دولار، مقابل 24.5 تريليون دولار للولايات المتحدة.
رغم إن كوفيد 19 ولد في الصين ومنها تسرب إلى مختلف قارات العالم، إلا أنها أبدت قدرة كبيرة في السيطرة على هذا الوباء بمزيج مركب من قوة الموارد البشرية والمالية الضخمة، ومن نزعة تحكية صارمة عبر تدخل أجهزة الدولة واستخدام ذراعها السياسي القوي الحزب الشيوعي الصيني. لا يمكن أن نجزم إن الصين قد تخطت الأزمة بصورة كاملة، ولكن المؤكد أنها قطعت أشواطا مهمة في السيطرة على الوباء والتقليص من انتشاره، والاهم من كل ذلك إنها صنعت صورة عن نفسها في العالم، بأنها الدولة القوية الحازمة والقادرة على تخطي الأزمات، بل أكثر من ذلك بدأت تتحرك الآلة الصينية في الخارج لتفعيل قوتها الناعمة من خلال إرسال الفرق الطبية والأدوية والكمامات والأجهزة الصحية وغيرها للدول الإفريقية والعربية، وحتى لبعض الدول الأوروبية نفسها.
ستعاني الولايات المتحدة الأمريكية من مخلفات اقتصادية ثقيلة الوطأة في مرحلة ما بعد كورونا وليس من اليسير تجاوزها في سنوات قليلة، وقد صار مألوفا جدا أن يتحدث الخبراء عن أزمة أشد ضراوة من أزمة 1929 التي ضربت الاقتصاد الأمريكي وبقيت تداعياتها قائمة على امتداد ثلاثينات القرن الماضي.
خلال أسبوعين فقط من بداية الأزمة خسرت أمريكا عشرة مليون وظيفة. ومنذ الأسابيع الأولى خسر الاقتصاد الأمريكي مع يربو على 800 مليار دولار، وصناعة السفر والفنادق وحدها خسرت 355 مليار دولار، ويأتي ذلك وسط أجواء من الاستقطاب الداخلي يعكس انقساما مجتمعيا حادا عمل ترامب وفريقه اليميني على دفعه إلى الحد الأقصى.
كل ذلك يعني أن الصين ستتقدم على صعيد التنافسية الاقتصادية أكثر، جنبا إلى جنب مع تعزيز حضورها الدولي وسيكون ذلك بكل تأكيد على حساب موقع الولايات المتحدة الأمريكية في الساحة الدولية.
روسيا
نجحت روسيا في حقبة بوتين في استعادة جزء من مواقعها المفقودة في الساحة الدولية بعد حالة الاضطراب التي عاشتها في حقبة يلتسن، بدءا من حزامها المباشر من الدول التابعة أو القريبة من الاتحاد السوفييتي، في آسيا الوسطى والبلقان وفضاء أراسيا، ولعل التعبير الأكثر دلالة على صعود روسيا هو استعادة القرم وعودة نفوذها إلى جورجيا وشرق أوكرانيا، وبناء توازن ردعي مع الحلف الأطلسي على حدودها من جهة أوروبا الشرقيةْ. يضاف إلى ذلك العودة القوية لمنطقة الشرق الأوسط من خلال التواجد العسكري المباشر في سوريا، وإعادة تفعيل قاعدتها العسكرية في طرطوس، ثم التواجد المتخفي في الساحة الليبية عبر مرتزقة فاغنر التي وضعت على ذمة حفتر، وبناء تحالف قوي مع إيران إلى جانب علاقتها التاريخية بالجزائر، وتوثيق العلاقة بمصر وحتى بعض دول الخليج.
هناك الكثير ممن يشككون في قدرة روسيا على فرض نفسها قوة منافسة بصورة جدية، بالنظر إلى ضعف إمكانياتها الاقتصادية والديمغرافية مقارنة بالاتحاد السوفييتي سابقا، ثم مقارنة بالولايات المتحدة الأمريكية أو الاتحاد الأوروبي، ولكن يبدو لي أنه من الخطأ قراءة وضع روسيا من الزاوية المالية والاقتصادية.
فقد جرت العادة أن تنتزع روسيا موقعها في الساحة الدولية، ومنذ ستالين في الحرب العالمية الثانية، بقوة السلاح وصناعتها العسكرية الضخمة. وفعلا فإن روسيا تعد اليوم منافسا جديا للولايات المتحدة الأمريكية على صفقات التسلح ومناطق النفوذ في أكثر من موقع، ويتحرك الروس هنا بنوع من الأريحية وفق ما يمليه جنرالات الحرب من دون خشية ضغط رأي عام في الداخل أو منظمات حقوقية ومدنية، خلافا للأمريكان والأوروبيين الذين يجدون أنفسهم أحيانا كثيرة في مواجهة رأي عام غاضب وضاغط كما جرى عند معارضة حرب العراق سنة 2003 وقبل ذلك حرب فيتنام في ستينات القرن الماضي.
ففي الوقت الذي انجرف الأمريكان نحو إنفاق عسكري هائل، خيّر الروس هذه المرة مبدأ: سلاح أكثر نجاعة وأقل كلفة، أي المنافسة بعقلانية من دون تكرار أخطاء الحرب الباردة التي استنزفتهم بسباق تسلح غير متكافئ مع الغرب.
صمم بوتين من وقع الشعور بالإهانات التي وجهه الغرب لروسيا بعد سقوط الاتحاد السوفييتي وخبرته في جهاز الدولة أن ينتزع موقعا قويا لروسيا عبر إحياء الصناعة العسكرية وبحوث الفضاء وإعادة بناء الجيش، مع استغلال مواطن الأخطاء والعثرات التي يقع فيها الغرب، وفعلا تمكن الروس خلال العشرية الأخيرة خصوصا من إثبات أنفسهم، قوة فاعلة ولا يمكن جاوزهم في الوضع الدولي.
ما يحرك الروس هنا، عاملان اثنان أولا إعادة مسك ما أمكن من الفضاء السوفييتي السابق، وخصوصا دول الجوار التي تدخل ضمن دائرة الأمن القومي الروسي، ثم بناء خليط من التحالفات مع حكومات وجماعات بهدف إعادة التموقع أو مواجهة الغرب وإرباكه.
في الخلاصة نحن نسير باتجاه وضع دولي معقد تتداخل فيه خطوط الصراع مع التوافقات المؤقتة والمتقلبة. الولايات المتحدة الأمريكية حليف قوي لأوروبا ولكنها تتصارع معها في ملفات كثيرة تحت المظلة العسكرية للحلف الأطلسي. تركيا حليف تقليدي للأمريكان ولكنهم لا يتورعون في نفس الوقت عن محاصرتها شرق الفرات في سوريا عبر الجماعات الكردية المتحالفة معهم. وروسيا بدورها لديها ما يشبه التحالف مع إيران ولكنها تتنافس معها في السيطرة على سوريا. تركيا وإيران تتنافسان على خط الطاقة وقيادة المجال الإسلامي ولكنهما تلتقيان في مواجهة العقوبات الأمريكية ويتجهان إلى تطوير علاقتهما التجارية.
المؤكد أن مرحلة ما بعد كورونا سترسخ أكثر واقع التنافسية الدولية وتقلب الصراعات والتحالفات، وتجعله أكثر وضوحا وجلاء. والأرجح أننا سنشهد حرب تموقع باردة وساخنة في السنوات القادمة في مختلف الساحات العالمية. كما ان التقارب الروسي الصيني، رغم التنافس القائم، من شأنه ان يكبح القوة الأمريكية ويضعف من مكانتها الدولية المتراجعة أصلا.
اهتزاز العولمة
وجهت جائحة كورونا ضربة قوية للعولمة، التي تعاني أصلا من كدمات سابقة وجهها لها ترامب بسبب حروبه التجارية وإجراءات الحماية التي فرضها على الدول .
نحن نعيش عصرا معولما بأتمّ معنى الكلمة حيث تترابط مختلف قارات العالم عبر شبكة معقدة من المعاملات المالية والسلعية و البورصات والأسواق والشركات والاتصال اللوجستي الرقمي، وعليه فإن أي هزة تقع في أي بلد من البلدان، إلا وتكون لها ارتدادات واضحة في مختلف الأسواق العالمية.
العولمة من نفسها تواجه صعوبات جمة قبل كورونا، ومن ذلك الحرب التجارية وإجراءات الحماية التي فرضها ترامب على الصين، بل فرضها على دول تصنف في دائرة الحليفة مثل كندا ودول الاتحاد الأوروبي والمكسيك وغيرها.
ومن سخرية الأقدار أن البلد الذي كان يبشر بفضائل العولمة ويعمل على توسيع شبكاتها، هو أول من يبادر بخوض المعركة ضدها، ولا يتردد في خرق قوانينها.
ترامب وفريقه اليميني يرى العولمة في صورتها الراهنة، تعبير عن تهاون الليبراليين، وعلامة على سذاجتهم السياسية في التعامل في إدارة الوضع الدولي منذ كلينتون وانتهاء بأوباما. وهكذا وضع ترامب على عاتقه وقف هذا المسار، وإن اقتضى الأمر ضرب اتفاقيات التجارة الحرة، ومجمل الالتزامات الدولية عرض الحائط ،ما دامت تتعارض مع المصلحة الأمريكية العليا. وذلك تحت شعار أمريكا أولا America First.
الواضح اليوم أن كورونا تحولت من فيروس بيولوجي قاتل إلى فيروس سياسي اقتصادي لا يقل فتكا، حيث اضطرت الدول الكبرى إلى فرض الحجر الصحي وعزل المدن وإغلاق الحدود، وإيقاف الرحلات الجوية والبحرية مع ما تبع ذلك من تعطل الأسواق والمعاملات المالية والبنكية وتدفق البضائع وحركة البشر.
المؤكد هنا أن عالم ما بعد كورونا سيكون أكثر انغلاقا وحماية واقل انفتاحا، ولكن هذا لا يعني أنه سيكون خارج نطاق حركة العولمة بإطلاق، الأرجح أننا نحن نسير باتجاه عولمة أكثر تنافسية وتعددية ستكون الصين إحدى محركاتها الرئيسية، ولن تكون فيها الولايات المتحدة الأمريكية إلا لاعبا من بين لاعبين آخرين لا غير.
العولمة ستظل موجودة معنا إلى وقت طويل، لأن تطور وسائل النقل وتقنيات التواصل الحديثة وتداخل المصالح بين الشعوب والدول يفرض ذلك بالضرورة، ولكنها ستظل موضع صراع وتجاذب حول من يتحكم في وجهتها ومن يستفيد أكثر من ثمارها؟ ولذلك الأرجح أن تسير العولمة في خطين مترابطين، خط يدفع باتجاه الانفتاح والتواصل والإقرار بالتعددية الثقافية والعرقية، وآخر يدفع باتجاه الانغلاق والتعصب وصراعات الهوية.
لكن العولمة في صورتها الأمريكية ليست مسارا حتميا وتصاعديا على طريقة القصص الرومانسية السعيدة، بل شأنها في ذلك شأن الظواهر السياسية والاجتماعية الكبرى قابلة للارتداد والتقدم والتراجع.
ظلت العولمة مسكونة منذ نشأتها بضرب من التناقض الداخلي، بين خط عولمة الأسواق والبضائع العابرة للحدود والثقافات، وبين صعود مطالب الهويات الدينية والقومية والنزعات الإثنية وحتى القبلية الضيقة وغيرها.
تصور الليبراليون الجدد إن ذلك مجرد حالة عارضة لن تصمد كثيرا أمام الصوت الباطني للتاريخ الذي يدفع نحو ليبرالية السياسة والاقتصاد باتجاه النموذج الأمريكي الأمثل، ولكن تبين إن الهويات الدينية والقومية والصراعات العمودية لن تختفي اليوم أو غدا، بل شهد عصر العولمة أكثر الصراعات الاثنية والدينية دموية.
الخلاصة، إن مسار العولمة لن تنتهي مع كوفيد 19، ولكنها ربما تأخذ وجهة مغايرة، غير تلك التي خططت لها إدارة كلنتون. كان من المنتظر أن تكون هذه العولمة جسرا لامتداد الشركات والمؤسسات الأمريكية وتوسع اذرعها المالية والتقنية في مختلف أطراف المعمورة، فإذا بها تصبح حركة هجرة للشركات والرأسمال الأمريكي نحو الخارج، وكانت الصين أول المستفيدين من ذلك.
أوروبا العليلة
أبرزت أزمة كورونا الوضع القلق داخل الفضاء الأوروبي، وحالة التجاذب الحاصل بين معطى الدولة القومية والانتماء القاري الأوسع، ورغم كل الجهود التي بذلت على امتداد العقود الأخيرة في ترسيخ عوامل الوحدة الأوروبية، وبناء مخيال أوروبي مشترك من خلال مناهج التعليم وتشبيك الجامعات ومراكز البحوث وربط الأسواق وتشبيك المنافع وغيرها، إلا أن التجربة العملية بينت رسوخ معطى الدولة القومية الأوروبية وتقدمه على الانتماء إلى بروكسيل. الأمم الأوروبية هي في الحقيقة منتج تاريخ من الحروب والصراعات والتحالفات منذ ولادة الدولة القومية سنة 1648، وقد تشكلت حولها ذاكرة جماعية ومشاعر موحدة، حيث يشد الجميع برباط سحري وغامض من دون أن يعرف بغضهم البعض أصلا،وذلك في إطار ما اسماه بنديكت اندرسون الجماعة المتخيلة.
في حين أن الرابطة الأوروبية تظل غامضة ومجردة، ولم تترسخ في أعماق نفوس الأوروبيين، وقد زادتها الأزمات الاقتصادية ومناكفات النخب الأوروبية وصعود التيارات الشعبوية ضعفا على ضعفها. الرابطة الأوروبية لا يحركها نشيد "وطني" ولا ملاحم وبطولات ولا شهداء أو أضرحة جنود مجهولين.
ما زال الاتحاد الأوروبي يعاني من مخلفات بريكست بعد أن حسم الإنجليز أمرهم باتجاه مغادرة الاتحاد مع صعود الجناح المناهض للاندماج الأوروبي بقيادة بوريس جنسون. ولم تستفق بروكسيل من صدمة بريكست حتى داهمتها أزمة كورونا، وما رافقها من إعادة غلق الحدود الفاصلة وتجميد العمل باتفاقية شنغن، وتعطيل حركة البضائع والبشر، بالتزامن مع صعود التيارات اليمينية المعادية للرابطة الأوروبية.
وما هو أكثر خطورة من هذه الأزمة، هو اهتزاز ثقة الرأي العام الأوروبي في جدوى الاتحاد، بحكم وجود انطباع عام بغياب روح التضامن وعدم فاعلية بروكسيل، حيث تركت دول الاتحاد الأكثر تضررا تواجه تبعات الجائحة لوحدها. فقد تكرر مشهد إنزال علم الاتحاد في أكثر من عاصمة أوروبية، ويأتي ذلك متزامنا مع صعود موجة شعبوية معادية للهجرة والملونين، وما تراه السلطة التدخلية لبروكسيل.
من الواضح أن مخلفات كورونا ستكون متنوعة الأوجه، متعددة الأبعاد، ومن ذلك:
- إننا سنكون إزاء أوروبا أكثر قلقا وأقل اندماجا، أوروبا مشحونة بالأزمات الاقتصادية والنزعات الشعبوية والانعزالية، وسيتغذى ذلك أكثر بالأزمات الاقتصادية وصعود المشاعر القومية والتيارات اليمينية.
- دول الضفة الجنوبية للاتحاد وفي مقدمة ذلك ايطاليا واسبانيا والى حد ما فرنسا، ستخرج منهكة من هذه الأزمة أكثر من غيرها، وهي التي تعاني أصلا من مخلفات الأزمة الاقتصادية لسنة 2008. ولا يستبعد أن تتجه دول مثل إيطاليا واسبانيا واليونان إلى الانسحاب من الاتحاد، ردا على ما تعتبره تجاهل بروكسيل وأنانية ألمانيا الثرية والقوية.إذ المؤكد هنا سنشهد صعود النزعات القومية غلبة الاعتبارات الوطنية المحلية على حساب الاعتبارات الأوروبية الأوسع.
بروز الدولة
أظهرت أزمة كورونا الحاجة الماسة لتدخل الدولة سواء لفرض العزل ومراقبة المرضى والتشخيص الصحي الموسع، أو من خلال عودتها القوية للقطاع الصحي، ومن ذلك بناء المستشفيات العمومية وتجهيزها وتسخير أجهزة الأمن والجيش لأداء هذه المهمة، أو في ضخ الأموال لدعم الشركات وفي إسناد الفئات المتضررة من الأزمة.
حينما تتعلق المسالة بالحياة والموت تكتسب الدولة مشروعية التدخل بما في ذلك في خواص الحياة الشخصية، سواء كان ذلك بطريقة ناعمة أو مغلظة.
نحن هنا إزاء معادلة هوبزية (نسبة إلى الفيلسوف الإنجليزي هوبز) يضطر إزاءها الجميع التسليم بمشروعية القوة العلوية والقاهرة للدولة التي يسميها الدولة التنين (لفايتن). كل ذلك يجري من موقع شعور الجميع بالخطر، وأن البديل عن ذلك سيكون سيئا ومدمرا للجميع.
في حالة هوبز، البديل عن عدم تسليم الناس ما بأيديهم من أدوات القوة والعنف لصالح الكيان العلوي للدولة، هو قتال الكل ضدّ الكل. وفي الحالة الراهنة البديل عن عدم تدخل الدولة هو الفتك بأرواح الجميع وتفشي الوباء القاتل.
الدول السلطوية أو شبه السلطوية لم تجد صعوبة تذكر في تنفيذ هذه السياسة بطريقة فجة وسريعة، أما الديمقراطيات وأشباه الديمقراطيات فيتم ذلك بطريقة ناعمة ولكنها صارمة أيضا أحيانا. لقد رأى العالم مشهد رجال الجيش والأمن الهنود وهم يجلدون ظهور الناس لفرض الحجز الصحي،بما يطرح سؤالا مهما حول حدود تدخل الدولة وضوابطها باسم الخير العام، وما هي ضمانات عدم تماديها غدا في استخدام هذه الأساليب التدخلية التي تهدد الحياة الشخصية والمدنية؟
في فترة الأزمات يعود الناس إلى أكثر شيء ثباتا وصلابة في دواخلهم أو فيما حولهم، ويبدو أنه لا يوجد في عصرنا الراهن ما هو أكثر صلابة وقوة من الدولة القومية.
تعود الناس قبل ذلك الركون إلى رحمهم الطبيعي القريب، من العائلة الممتدة إلى القبيلة أو المحلة والجماعة الاثنية والطائفية، وبما أن الحداثة قد فككت هذه الروابط أصلا أو في الحد الأدنى أضعفتها إلى حد كبير، فقد بقي الركن الأشد صلابة وسط هذه السيولة العامة هو كيان الدولة.
البعض يتحدث عن عودة الدولة مع كورونا وكأنها كانت غائبة قبل ذلك، واكتشف الناس الدولة فجأة مع هذه الجائحة، بينما الدولة مرافقة لنا من المهد إلى اللحد، منذ شهادة الميلاد إلى شهادة الوفاة، حاضرة في سن القوانين وفي منازعات الجار مع جاره، وفي الطرقات والمعاملات وفي كل شيء. ولعلها اليوم ماثلة أمامنا بشكل أكثر مرئية وكثافة أكثر مما تعودنا عليه في الأوضاع العادية. ولعل هذا يذكرنا بمقولة كارل شميت بان الدولة لا تكتسب مشروعيتها كدولة إلا إذا أثبتت إنها قادرة على تنظيم ما هو طارئ واستثنائي.
الأرجح أننا في السنوات القادمة سنشهد مزيدا من التوجه نحو المركزية والدولنة في مقابل ما عرف في نظرية الليبراليين الأمريكان بالحد الأدنى من الدولة (Robert Nozick).
المؤكد أن الدولة ستضطر للرجوع لبعض المساحات التي انسحبت منها بتخطيط وتدبير سابقين لصالح الشركات الخاصة في أجواء النيوليبرالية. وهذا الأمر ليس جديدا، ففي أجواء الأزمة الاقتصادية لسنة 2008 تدخلت الدولة بقوة لضخ الأموال وفرض القيود على البنوك التي شارفت على الانهيار، وجرت معها الوضع الاقتصادي ككل للتدحرج. وهذا الأمر يتناقض في الصميم مع أساس النظام الليبرالي القائم على اشتغال السوق وفق آلياته الذاتية ومن دون تدخل الدولة، في إطار ما أسماه آدم سميث باليد الخفية للسوق.
الحقيقة إن الدولة لم تغب أصلا حتى يقال أنها عادت، ولكن الأصح أنها بصدد إعادة الانتشار. بدأت الدولة في الولايات المتحدة الأمريكية وأوروبا تنسحب من مجالات كثيرة كانت تعد اختصاصا حصريا لها، في التعليم والصحة وحتى في مجال الأمن والسجون والرعاية الاجتماعية وغيرها على أساس إن ما يسمى بالتدبير الحر من طرف المؤسسات الخاصة أقل كلفة وأكثر نجاعة. مقابل ذلك امتدت الأعين البصيرة والأيدي الطويلة للدولة في مختلف مناحي النسيج المجتمعي التي ظلت تتوسع أكثر مع تطور تقنيات الرقابة والرصد الإلكتروني وآليات التعرف على الوجه والبصمة. ومنذ أحداث الحادي عشر من سبتمبر تعقدت أكثر آليات الرقابة والتجسس على المواطنين وأطلقت أيدي الأجهزة الإستخباراتية والأمنية دون حسيب أو رقي باسم مقاومة الخطر الإرهابي.
وخلال اتساع جائحة كورونا استخدمت الصين ما يعرف بقاعدة البيانات الكبرى Big Data والتي تتيح لها مراقبة حركة كل مواطن وأوضاعه الصحية، وكل معاملاته المالية والإدارية. كما أن الإدارة الأمريكية لم تتردد في طلب الشركات الأمريكية المتخصصة، تزويدها بقاعدة بيانات المواطنين بغرض ضبط مواقع مستخدمي الهواتف النقالة والأجهزة الالكترونية ومجال حركتهم، ومدى التزامهم بالحجر الصحي، ومن بين هذه الشركات Facebook وGoogle وTwitter وUber وApple وIBM، بل أصبح ما يعرف بالذكاء الاصطناعي بمثابة عين وبصر الدولة الذي لا ينام ويحصي أدق دقائق الأمور. يضاف إلى ذلك استدعاء الجيوش والأجهزة الأمنية في اغلب دول العالم، بما في ذلك الديمقراطيات العريقة، سواء لفرض العزل في البيوت أو في إسناد الطواقم الصحية وبناء المستشفيات والمراكز الصحية
طبعا الدولة تقوم بهذه الإجراءات لان مصلحة الناس وحماية الحياة تقتضي ذلك، ولكن ليس من المؤكد إن هذا الإخطبوط الرقابي سيتوارى أو يعود إلى حجمه المطلوب فيما بعد.
الأرجح أن يكون هذا الأمر موضع تدافع بين قوى الضبط والرقابة من جهة، وهيئات الدفاع عن الحريات المدنية والشخصية من جهة أخرى في الديمقراطيات العريقة، بيد أن الأمر سيكون أشد خطورة، وأكثر ضراوة في دول تعاني أصلا من تضخم أجهزتها العسكرية والأمنية كما هو الأمر في بعض دول إفريقيا والمنطقة العربية وأمريكا اللاتينية.
الدولة ليست قوة خيرة، وإن كانت تقوم بوظائف نبيلة وخيرة، بل هي شريرة سياسيا بطبعها، أي هي تميل من داخلها إلى التمدد والاستحواذ، ما لم تجد قوى كابحة ورادعة لها، على النحو الذي يقول ابن خلدون من أن الملك يميل للانفراد.
والحقيقة أن مساحة التمييز بين الدول التحكمية والدول الديمقراطية آخذة في التقلص بصورة متزايدة، مع غلبة توجهات الهندسة الاجتماعية والسياسية التي تجعل من المجتمع والأفراد بمثابة عجينة طيعة أمام تخطيط الدولة وتدبيرها "العقلاني".
فما تقوم به الدول الشمولية بطريقة فظة وظاهرة للعيان تقوم به الديمقراطيات بقفازات ناعمة وأساليب لينة في ظاهرها على الأقل.
الأرجح أن الدولة وتحت ضغط كوفيد 19 ستتجه أكثر نحو العودة لبعض المساحات التي انسحبت منها في أجواء الموجة النيوليبرالية، مثل التعليم والصحة والخدمات العامة، ولا يمكن إلا أن تعتبر ذلك خطأ تصحيحيا بعد حالة التوحش الرأسمالي التي جعلت الناس تحت رحمة السوق الرأسمالية ومنطق الربح. وهذا الأمر سيعيد الجدل مجددا حول مقولات العدالة الاجتماعية التي أدت تختفي لصالح مقولات حرية الفرد، وحرية السوق.
الضغط الشيوعي ساهم في التخفيف من غلواء النظام الرأسمالي وفرض دور تعديليّ للدولة عبر نظام الحماية من البطالة وجرايات الشيخوخة، والمساعدات الاجتماعية للفقراء والفئات الضعيفة، ولكن بعد سقوط المنظومة الشيوعية توحشت الليبرالية الجديدة، ولم تعد في حاجة إلى إرخاء الحبل، أو إعطاء التنازلات للعمال والفئات الضعيفة، بل أصبح النظام الاقتصادي في خدمة الأثرياء وكبريات الشركات.
وفي هذه الأجواء سنشهد تراجع السردية الديمقراطية في الساحة الدولية، بزعم أن النظام التدخلي على الطريقة الصينية أكثر تفوقا ونجاعة من النظام الليبرالي الديمقراطي، بدليل أن الصين تغلبت على جائحة كورونا من خلال استخدام أذرع الدولة والحزب الشيوعي الصيني لفرض روح الانضباط، في مقابل ذلك بقيت الديمقراطيات الغربية تتخبط في حمى كورونا لأنها تفتقد مبدأي النجاعة والفاعلية . طبعا هذه المقارنة ستطرب لها الكثير من الحكومات والأنظمة، خصوصا في الرقعة العربية والإفريقية.
الحقيقة أن هذه الرواية التقابلية بين نجاح التحكمية وفشل الديمقراطية لا تخلو من المغالطة. أولا، لأن هناك دول ديمقراطية كانت أكثر نجاحا وأشد نجاعة من الصين في مواجهة جائحة كورونا مثل ألمانيا واليابان وكوريا الجنوبية وسنغافورة وتايوان وغيرها.
النجاح والفشل لا يمكن إرجاعهما بالضرورة إلى عامل واحد، بقدر ما يعود الأمر إلى معطيات كثيرة ومتنوعة، من بينها الموارد المالية والبشرية وكيفية التحكم فيها.
ايطاليا فشلت إلى حد ما في مواجهة كورونا ليس لأنها ديمقراطية، بل لأنها ما زالت تعاني من مخلفات الأزمة الاقتصادية لسنة 2008، وكان من نتائج ذلك تراجع استثمار الدولة في القطاع الصحي والتعليمي ومجمل الخدمات العامة، يضاف إلى ذلك ارتفاع معدلات السن وغلبة التهرّم السكاني ، ثم عدم اتخاذ الحكومة لإجراءات التوقي بالسرعة المطلوبة.
القطاع الصحي
أظهرت أزمة كورونا خللا هائلا ظل يكبر مثل كرة الثلج ويتفاقم سنة بعد أخرى، يتعلق بالإهمال الواسع الذي لقيه القطاع الصحي العام. وإذا كان الأمر مبررا في الدول الفقيرة بقلة الموارد المالية والبشرية، فإنه في الدول الكبرى والغنية كان حصيلة خيارات منهجية مدبرة ومخطط لها، بسبب سياسة الخوصصة وإدخال ثقافة الربح وقيم السوق في مجال الرعاية الصحية وحياة البشر. في الولايات المتحدة الأمريكية النظام الصحي يعتمد إلى حد كبير على شركات التأمين الخاصة، وحينما جاء أوباما وأقدم على خطوة جريئة باتجاه منح بطاقات العلاج العمومي للفقراء، شنت عليه قوى اليمين وشبكاتها الإعلامية المتنفذة حملة لا نهاية لها، وكان من أولى القرارات التي اتخذها ترامب بعد دخول البيت الأبيض إلغاء الإجراءات الصحية التي أدخلها اوباما.
كشفت أزمة كورونا الوجه المخيف للولايات المتحدة الأمريكية، ومن ذلك هشاشة منظومتها الصحية وعجز مستشفياتها عن توفير الحد الأدنى من التجهيزات الصحية، بما في ذلك أدوات الوقاية للطواقم الصحية من أطباء وممرضين.
إنه لمشهد سريالي فعلا أن يشاهد العالم بعض الممرضات في أثرى البلدان، وأكثرها قوة، وهن يرتدين أكياسا بلاستيكية، ويشتكين من عدم وجود بدلات صحية وأدوات واقية من الفيروس.
طبعا هذا الأمر لا يعود إلى قلة إمكانيات أو شح موارد ، بل نتيجة خيارات سياسية واقتصادية غير متكافئة تعطي الأولوية القصوى لصناعة السلاح وكبار الشركات على حساب رفاه المواطن وصحته العامة.
نظام السوق يهدف إلى الربح بدرجة أولى، وقد أثر ذلك فعلا في التطور غير المتكافئ حتى داخل صناعة الأدوية واللقاحات نفسها، قبل أن نتحدث هنا عن أسبقية صناعة السلاح أو النفط مثلا. الاستثمار الرأسمالي يركز على الأدوية واللقاحات الأكثر استخداما وذات العائد المالي السريع.
ولم يكن يخطر ببال شركات الأدوية واللقاحات مثلا أن يجتاح العالم مثل هذا الوباء الخاطف والسريع، ولذلك اتجهت العناية إلى صناعة أدوية ولقاحات كان يبدو إنها ستكون أكثر طلبا وربحية . وهذا الأمر يبين تهافت تلك المقولة التي يبشر بها الليبراليون والتي مفادها أن مصلحة الأفراد تؤول في نهاية المطاف إلى مصلحة المجموع. إذ الواقع يبرز أن مصلحة جنرال موتورز أو جنرال إلكتريك ليست بالضرورة مصلحة عموم الأمريكيين، قبل أن نتحدث عن مصلحة العالم.
بينت جائحة كورونا الطابع الاستراتيجي لقطاع الصحة، ولذلك اضطرت الدول الى ضخ الأموال على عجل لبناء وتجهيز المستشفيات، بل تم تسخير الجيوش ومختلف أجهزة الدولة لمعاضدة القطاع الصحي العمومي. وقد كان أداء الدول الغربية نفسها متفاوتا على هذا الصعيد، فبينما أظهرت ألمانيا والبلدان الاسكندينافية وتركيا جاهزية قوية في مواجهة الجائحة بدت الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا ودول جنوب أوروبا مرتبكة و متخبطة.
لعل أكثر العناصر الإيجابية التي ولدت من رحم جائحة كورونا، هو شعور الجميع، بما ذلك الحكومات اليمينية وسائر الأحزاب، أن القطاع الصحي أصبح قطاعا استراتيجيا.
ولا يمكن العبث بحياة المواطنين وصحتهم لصالح رهانات الربح الرأسمالي، ومن المؤكد أنه سيكون من تبعات ذلك عودة الدولة مجددا الى مجالات تمدد فيها القطاع الخاص.
الوضع الإقليمي والعربي
إن الوضع العربي والإقليمي عامة يسير على رمال متحركة ولم يستقر بعد على صورة محددة. موجة التغيير التي بدأت سنة2011، تم كسرها بمزيج من الانقلابات العسكرية والحروب الأهلية المفتوحة في مصر وسوريا واليمن وليبيا، إلا أن الوضع الذي تشكل على أنقاضها لم يقو هو الآخر على الاستقرار والصمود. ولعل الصورة الأمثل لقراءة هذا الوضع المعقد هو المشهد السوري، فلا المعارضة تمكنت من إزاحة نظام البشر، ولا بشار تمكن من إنهاء خصومه بصورة كاملة.
تعطيل مسار التغيير في المنطقة فتح الطريق أمام خليط من الإرهاب والفوضى، والدول الفاشلة. هذا إذا استثنينا التجربة التونسية التي سجلت إلى حد الآن نصف نجاح، وما زالت تواجه صعوبات جمة.
الواضح إن كل دول المنطقة ستعاني بدرجات متفاوتة من مخلفات أزمة كورونا؛ وإن كان بعضها معرضا لمخاطر وهزات أكثر من غيرها، مثل الأردن ولبنان وتونس والمغرب ومصر؛ بحكم نضوب مواردها المالية وارتباط اقتصاديات الكثير منها بالدعم الخارجي وبأوروبا التي ستواجه بدورها مخلفات ثقيلة لكوفيد 19.
أما دول الريع النفطي فان احتياطاتها المالية ستجعلها قادرة في الحد الأدنى على شراء ولاء المواطنين والسيطرة نسبيا على مشاكلها الداخلية من دون أن نعدم إمكانية تعرض بعضها إلى هزات داخلية.
أما الدول الأكثر ثقلا في المنطقة فهي منهكة بصراعاتها الداخلية وحروبها في الجوار. السعودية غارقة في اليمن بحرب طال أمدها من دون أن يظهر أفق لنهايتها، ثم صراعات محمد بن سلمان داخل الأسرة ومع مطالب الإصلاح. كما أن انخفاض أسعار النفط بعد أن أغرقت السوق سيجعل وضعها أكثر هشاشة وضعفا.
إيران بدورها منهكة بحصار اقتصادي طويل الأمد زاده ترامب قسوة على قسوته، وهي إلى جانب ذلك تعاني من مخلفات تمدد سياسي وتورط في محاور صراع كثيرة من العراق إلى سوريا إلى اليمن ولبنان وأفغانستان وغيرها. وقد وصل خلافها مع الأمريكان بعد اغتيال سليماني إلى حافة الحرب. الواضح إن الأمريكان والإيرانيين يلعبان لعبة شد الحبل، كل واحد يريد أن يوظف أزمة كورونا لصالح. ترامب يرغب في تشديد الحصار أكثر وربما الإقدام على ضربات عسكرية خاطفة في ظل انشغال إيران بمجابهة تفشي الوباء، أما هي فتريد إيلام الأمريكان أكثر من خلال الضغط عليهم عبر حرب وكالة تقودها الجماعات الشيعية في حديقتها الخلفية: العراق.
تركيا بدورها مستنزفة في أكثر من موقع وساحة، قتال مع الأكراد في الحدود الجنوبية، معركة ساخنة في سوريا شرق الفرات مع مجموعات قسد الكردية، أضيف إليها الآن معركة أخرى في ليبيا، يضاف ذلك إلى الصعوبات الاقتصادية التي تعانيها أصلا مع تدهور مستوى الليرة وتراجع حجم الاستثمار الداخلي والخارجي.
مصر هي الأخرى غارقة في أزمتها الداخلية بعد أن تحول الجيش إلى إدارة الاقتصاد وكل مرافق الحياة، وهي تكاد تكون غائبة عن الساحة العربية، هذا إذا استثنينا نفوذها الخفي عبر ذراع الجامعة العربية التي تحتضنها القاهرة.
ما كان يسمى محور الاعتدال العربي تحول بعد ثورات الربيع العربي إلى محور معاد بشراسة شديدة للثورات العربية وأي مشروع للتغيير، محور تحكمه غريزة الحياة والموت، والخوف المرضي من شبح الديمقراطية، وإن أخذ ذلك عنوان مقاومة الإخوان المسلمين أو ما يسمى الإسلام السياسي.
ليس سرا كون هذا المحور الذي تقوده السعودية والإمارات والبحرين قبل أن تلتحق به مصر، كان الأكثر فاعلية وتأثيرا في أوضاع المنطقة سواء في اليمن وليبيا وإلى حد ما في سوريا وغيرها. ولعل قوة هذا المحور تتمثل في كونه يتحرك على خطوط مختلفة، إذ تمكن من عقد تحالفات وتقاطعات براغماتية متنوعة، مع الصهاينة والأمريكان، ومع الروس والصينيين وحتى مع بشار الأسد أحيانا. وكان ذلك يجري ضمن أولوية واضحة: إيقاف موجة التغيير في المنطقة وضرب قوى الإسلام السياسي بأي ثمن.
رغم رجحان كفة المحور السعودي الإماراتي المصري في السنوات الست الأخيرة، إلا أنه مع ذلك ظل يخسر بالنقاط في مواقع كثيرة. لم يتمكن من حسم المعركة في ليبيا لصالح حفتر بعد أن عجز عن دخول طرابلس رغم الدعم العسكري والمالي السخي الذي قدم إليه. كما عجز هذا المحور عن الحسم العسكري في اليمن، بل تقدم الحوثيون في في العديد من مدن وجهات اليمن، ثم تضارب الأجندة السعودية الإماراتية هناك، وتمكن الحوثيون من استهدف المدن السعودية وضرب منابع النفط،. يضاف إلى ذلك فشل هذا المحور في الإطاحة بأردوغان بعد انقلاب فاشل في صائفة 2016 كان مدعوما خليجيا. يضاف إلى ذلك تطور الحالة الديمقراطية نسبيا في تونس والمغرب وماليزيا وحتى باكستان. كل ذلك حال دون تحقيق هذا المحور لمبتغاه في العودة بالمنطقة إلى ما قبل 2011 ، وان كان قد نجح في إدخال الفوضى وكسر موجة التغيير.
المؤكد هنا أن القوى الشعبية التي صعدت في سياق ثورات الربيع العربي لم تتمكن من تثبيت أقدامها بسبب أخطاء ذاتية، ثم رجحان كفة القوى المضادة للتغيير، إلا أن الأطراف التي جاءت على أنقاضها أيضا لم تستقر الأرض تحت أقدامها هي الأخرى، ولولا صعود ترامب مسنودا بقوى اليمين الأمريكي لما تمكنت من الصمود أصلا.
ما ستفعله كورونا هو أنها ستحرك ما هو مكبوت وتطلق عنان هذه التناقضات أكثر، كما إنها على الأرجح ستفل من عضد هذا المحور الذي يعاني أصلا من مشكلات وتناقضات داخلية، وسيزداد مفعول هذا العامل أكثر في أجواء الأزمة الاقتصادية والمالية الناتجة عن التراجع الحاد في أسعار المحروقات.
وستزداد مصاعب هذا المحور منفردا ومجتمعا، إذا لم يتمكن ترامب من الفوز بدورة ثانية على النحو الذي تبرزه استطلاعات الرأي العام إلى حد الآن. ولا يستبعد في هذه الحالة أن تتجه مصر مثلا نحو تغيير تحالفاتها الخارجية بصورة كاملة باتجاه الروس والصينيين، خصوصا إذا تمكن الديمقراطيون من الفوز وشعر السيسي إنه لم يعد يحظى بالغطاء الأمريكي المطلوب.
صفوة القول
إن المنطقة مرشحة لبروز المعطيات التالية:
- تراجع الدور السعودي المصري لصالح أدوار دول إقليمية أكثر مناعة نسبيا، أو في الحد الأدنى اقل ضعفا، وهي إيران وتركيا وإسرائيل، تركيا لديها مشروع وزعامة قوية، كما أن نظامها السياسي ومهما قيل في فيه يظل أفضل وأقوى من نظام فردي بطابع مدني أو عسكري مثل نظام السياسي وبن زايد وبن سلمان. ولذلك من هذه الناحية تظل في وضع أفضل من دول المحور العربي. إيران رغم إنها مثقلة بعبء حصار طويل وتورطت في الكثير من محاور الصراع إلا أنها صلابتها العقائدية وارتباطها القوي بالمجموعات الشيعية، ثم نجاحها في بناء قدرات تسليحية ذاتية يجعلها في الحد الأدنى في وضع أفضل من دول المحور العربي.
- المنطقة مرشحة إلى تعمق حالة الفراغ أكثر فأكثر، بسبب غياب القوى الدولية الضابطة للوضع. الأمريكان تراجعت قبضتهم، والروس والصينيون أحدثوا اختراقات عسكرية واقتصادية ملموسة، ولكن ليس إلى الحد الذي يمكنهم من مسك الأمور وفرض نظام جديد. الواضح الآن إن النظام القديم الذي تشكل في المنطقة منذ انسحاب العثمانيين الأتراك بعد الحرب العالمية الأولى بصدد التفكك والتفسخ، ولكن النظام الجديد لم تتحدد صورته أو تتبين معالمه بصورة واضحة، وهذا الأمر لا يعدو أن يكون جزء من حالة الانتقال الدولي.
- الوضع القائم أو القادم سيكون من أهم سماته تراجع التأثيرات الخارجية بسبب انشغال الغرب بأزماته الداخلية وأولوية المعركة مع الصين، كل ذلك سيمنح تأثيرا أكبر للعامل المحلي والإقليمي، كما أنه سيعطي فرصة أوسع لأطراف مختلفة وقوى متناقضة . الدول السلطوية ستحاول تعزيز قبضتها الحديدية أكثر بسبب انشغال الدول الكبرى بأوضاعها الداخلية، ثم استغلال صعود النموذج التحكمي الصيني الروسي.
أما قوى التغيير فستتاح لها فرصة التقدم أكثر في أجواء الفراغ والفوضى وتزاحم القوى الدولية والإقليمية، بما يرشح المنطقة العودة إلى أجواء الربيع العربي وما بعده.
الأفكار والمشاعر الإسلامية ستظل حاضرة بقوة، ولكن الحامل السياسي القديم لا يمكن أن يتقدم المشهد مجددا من دون تغييرات عميقة، أو ولادة قوى أخرى من رحمه. مع العلم هنا إن الجميع تعلم ويتعلم من تجربته وأخطائه، الحكومات والشعوب والقوى السياسية على السواء.
المشرق العربي مستنزف بكثرة الصراعات بكل أصنافها ومن وطأة التدخلات الخارجية، وربما يبقى المغرب العربي أكثر تماسكا وأقل تدخل نسبيا، ولكنه سيبقى محكوما بمعضلة الانقسام الجزائري المغربي وأزمة ليبيا.
الخلاصة
بالخلاصة أزمة كورونا ورغم طابعها المأساوي وما ولّدته من إتلاف في الأرواح وتعطيل لحركة المجتمعات إلا أنها كانت ضرورية ليقظة الوعي الإنساني وتجنب الكثير من المتاهات التي انساق إليها الاجتماع السياسي الكوني بوعي أو من دون وعي.
نحن هنا وكأننا إزاء انتقام البيولوجيا من التكنولوجيا، وانتفاض الطبيعة على جشع النظام الرأسمالي الذي ينفق على الجيوش عشرات المرات حجم ما ينفقه على الصحة والأبحاث الطبية، بعد أن ربط ذلك بقيمة التربح وسوق العرض والطلب.
ربما تساهم هذه الأزمة على خطورتها، في تراجع النزعة العلموية، أي تلك الثقة الزائدة في العلم، وأنه قادر على حل المعضلات والمشاكل الراهنة، مثلما تساهم في بث روح التواضع، والتخفيف من النزعة الأنانية لدى الإنسان وغروره وطيشه في التعامل مع الطبيعة والكون وشركائه من بقية الخلق.
ظاهرة كورونا تذكرنا جميعا بوهن الوجود الإنساني في مواجهة الموت، وأن مدن الرفاه بأنوارها وصخبها ليست محصنة بالكامل من حتمية الفناء. والحقيقة أن كوفيد 19 الذي يضرب اليوم بشراسة في الولايات المتحدة الأمريكية وأوروبا وكبريات العواصم الدولية،لا يختلف كثيرا في تهديده للحياة وضرره الصحي عن إيبولا الذي ضرب فقراء أفريقيا، ولم تلق له وسائل الإعلام الدولية اهتماما يذكر.
لعله هذا الوباء الشرس الذي نغص علينا حياتنا، يذكرنا، وربما يقرعنا، بأننا بشر متساوون في المرض والمعاناة والموت، وأنه لا فرق هنا بين الأغنياء والفقراء،ولا بين سكان الشمال والجنوب، ولا بين الأوروبيين والأفارقة.
بيد انه يتوجب الانتباه إلى أن فترة المحن وقسوة الطبيعة والكوارث تبرز الطابع المركب والمتناقض للكائن البشري، حيث يظهر هنا الوجه المشرق للإنسان من إيثار وتضامن وشعور بالآخرين، مثلا تظهر فيه الجوانب القبيحة والمظلمة، من تحيل واستثمار في حاجات الناس وحتى السرقة والغش وغيرها. ولكن كل ذلك يذكرنا في نهاية المطاف بإنسانيتنا التي يتداخل فيها الخير مع الشر.